تصميم أحمد بلال، المنصة 2025
كانت عائلة غريبة الأطوار! فصنع الله أو "صنصن"، كما يسميه أفراد العائلة، كان يقوم بواجبات منزلية كثيرة، من بينها إعداد طبق السلطة.

عائلة صنع الله إبراهيم الحُزمبولية

منشور السبت 11 تشرين الأول/أكتوبر 2025

أدركتُ الآن أنني أتهربُ من الكتابة عن صنع الله بحجج متنوعة؛ ربما هي المشاعر والأفكار التي تغشاني عندما أهمُّ بالأمر، فلا أعرف من أين أبدأ.

جلستُ طالبًا السَّكينة، محاولًا تنظيم أفكاري وتجميع كلماتي، علهّا تلقي مزيدًا من الضوء على شخصيةِ هذا الإنسان.

صنع الله هو الأب والصديق الذي أخذت علاقتي به أطوارًا عدة، ربما لامتدادها أكثر من 35 عامًا. هذه السنوات قضيتها مع "العائلة الحُزمبولية"؛ الاسم الذي أطلقه صنع الله على عائلته على سبيل السخرية، ولإدراكه أيضًا أنها عائلة على درجة من الاختلاف عن باقي العائلات المصرية!

تطورتْ علاقتي به بسرعة من علاقة ودية عادية بين أب وزوج ابنته؛ يتحدثان في موضوعات مختلفة من حينٍ لآخر، إلى صداقة وثيقة حتى قبل مجيئه هو وحماتي للسكن معنا في الطابق العلوي لشقتنا بحي المقطم.

الزاهد المُتّسق

صنع الله إبراهيم وسط عائلته، يناير 2020

عام 1989، عرَّفني بعض أصدقاء الجامعة على نادية ضمن مجموعة من الأصدقاء والصديقات.

التقينا كمجموعة في الجامعة وخارجها، ونظّمنا بعض الرحلات من وقت لآخر. مكَّنني ذلك من معرفة نادية أكثر، وفي وقت قصير أصبحنا صديقينِ مُقرَّبين، ثم بدأت تنمو بيننا مشاعر قوية. تطورت العلاقة لخطبة بعد أقل من عامين، ثم زواج بعدها بعام.

في السنوات الأولى لعلاقتي بنادية، قبل الزواج، لم أشعرْ أن عائلتها عادية. كانت عائلة غريبة الأطوار! فصنع الله أو "صنصن"، كما يسميه أفراد العائلة، كان يقوم بواجبات منزلية كثيرة. في تلك الفترة رأيته يُحضِّر الطعام، وأحيانًا تُعدُّ نادية الأرز.

أتذكر أنه كان شديد الحرص على إعداد طبق السَّلَطة البلدي في الغداء، فهو يعشقه ولا يمل منه يوميًا. كذلك كان يغسل الأطباق في معظم الوقت، يقول إن ذلك يساعده على التفكير والتأمل، بل ويطلب منا أن نقوم بالمثل. كان يغسل الملابس لكل العائلة إذا لم تكن حماتي موجودة، أو يقومان بذلك معًا.

لم أفهم في البداية، كنت أقول في نفسي؛ ما هذه الأسرة العجيبة ذات الأدوار المعكوسة؟! ظننت أنه وحماتي، طنط ليلى، بدَّلَا الأدوار التقليدية لعملها مرشدةً سياحيةً تُسافر كثيرًا إلى الأقصر وأسوان ولأيام طويلة، بينما هو بدون دخل حقيقي! لكن ذلك لم يكن صحيحًا، فقد عرفت بعد ذلك أن له دخلًا معقولًا من أعماله وأن ذلك كان اختياره الشخصي، بل إيمانه بأن يكون له دور مهم في المنزل.

أصبح ذلك جليًا عندما وصلت حماتي لسن المعاش في منتصف التسعينيات وتقاعدت عن العمل، فصار دخله هو الدخل الرئيسي للبيت، لكنه ظل يقوم بالأعمال المنزلية نفسها ويبادر بها مع وجود حماتي التي كانت لها أدوار مختلفة! في البداية كان ذلك مُربكًا لي، لم أفهم مدى إيمانه الشديد بهذه المبادئ. لكن عبر صمته المعتاد والعمل فقط كان مثالًا للإنسان المُتّسق مع ما يؤمن به، إذا كان ذلك قضيةً ما أو عملًا يُجيده.

لم يكن صنع الله كارهًا للتكنولوجيا فقد كان من أوائل الكُتَّاب الذين استبدلوا كمبيوتر الماكنتوش بالآلة الكاتبة

لم يكن صنع الله مثل كثيرٍ ممن يؤمنون بحقوق المرأة دون أن يطبقوا منها شيئًا. آمن بأن الإنسان يمكن أن يصنع من نفسه ما يريد عبر تهذيبها وترويضها. عندما كنت آتي إليه قَائِلًا إنني أؤمن، بشكل عقلاني، ببعض المبادئ والأفكار، لكنني لا أستطيع تطبيقها بسبب العادة أو العرف أو غيرها، كان يرد دائِمًا "اشتغل على نفسك وحاول تغيّرها، ده مهم".

كان أهم ما تستطيع أن تراه بوضوح في شخصه هو حفاظه على اتساق مبادئه مع أفعاله بشكل كبير. أرى أن هذا هو أفضل ما حققه كإنسان بعد أعماله الأدبية الرفيعة، مع ذلك لا يلاحظ الناس من هذا إلا النذر القليل، خاصةً مع عُزلته التي ضربها حول نفسه. فقد كان في العموم شخصًا زاهدًا.

فكم مرة تشاجرنا معه، أنا ونادية، ليحضر الندوات والمقابلات التليفزيونية بملابس جديدة أو مُهندَمة. كان نادرًا ما يشتري ملابس ويقول: ملابسي جيدة ونظيفة، لماذا أشتري غيرها؟ لم يكن يهتم بذلك، كان يرى أن الحياة بها ما هو أولى من الاهتمام بالمظهر الخارجي.

أما زهده في الأجهزة الترفيهية مثل التليفزيون والموبايل وغيرهما فكان صادمًا لي، بل كنت أراه في بداية معرفتي به ضربًا من الجنون، لأنني من بيت يعشق التليفزيون وبرامجه! لم يكن صنع الله كارهًا للتكنولوجيا، فقد كان من أوائل الكُتَّاب الذين استبدلوا في الثمانينيات كمبيوتر الماكنتوش بالآلة الكاتبة، لكنه يرفض السلوك الاستهلاكي غير الواعي وبشدة.

حتى وقت وفاته؛ لم يمتلك صنع الله موبايلًا، رغم مناقشة الأمر معه مرات عديدة، وكان رده دائمًا "أنا لا أتحرَّك كثيرًا، يكفيني تليفون البيت". كان يستغني عن كل ما يستطيع الاستغناء عنه. لا أريد ذكر عدد المرات التي تخاصم فيها مع طنط ليلى عندما كانت تشتري جهازًا جديدًا للمنزل أو سجادة جديدة بدلًا عن البالية في إحدى الغرف، فيخاصمها لعدة أيام، ثم يتصالحان بعد ذلك. كان يتعامل مع الأشياء باستغناء شديد. 

أبٌ بنكهة صديق

لكن مصدر إعجابي به كان طريقة تنظيم يومه التي توقفت عندها كثيرًا، والتي كلما فكرت فيها أو حاولت أن أتبعها، أدركت مدى صعوبة تنفيذها! هل كان ذلك من نتاج أعوام السجن في ريعان شبابه، والتي شكَّلته وتعلَّم فيها الكتابة والانضباط وجدية الفكر والعمل والكثير عن طبائع البشر؟ حقيقةً لا أعلم!

الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم بالبيجاما مع زوجته ليلى وابنتها نادية والأحفاد يارا وشادي، وكاتب المقال.

كان صنع الله أبًا لنادية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بالرغم من الوجود الواضح لوالدها عم محمد الجندي في حياتها، فقد اعتادت قول "أنا لي أبوان". كان صنع الله أبًا لكن بنكهة صديق، لا يغضب ولا يلوم إلا إذا كان الأمر له تبعات خطيرة، فكانت تحكي له ما لا تحكيه لأي شخص آخر، وتستعين به في كل كبيرة وصغيرة في حياتها.

أخذتْ علاقتي بصنع الله وطنط ليلى منحى آخر عندما سافر أخواي علاء وعمرو إلى كندا، وعاد أبي لمدينة الإسكندرية، مسقط رأسه، ليقضي فيها سنواته الأخيرة. في الوقت نفسهِ كانت نادية في كندا، فكان صنع الله وطنط ليلى هم من تبقى من أفراد أسرتي في القاهرة. لذلك حرصنا على أن نلتقي أسبوعيًا، يوم الجمعة أو السبت، لتناول الغداء وقضاء اليوم معًا. وعرفت من نادية لاحقًا أنهما كانا ينتظران تلك الزيارة ويسعدان بها كثيرًا. 

كانت جلسات الحديث ممتعة. نتحدث أولًا عن الحياة السياسية ونحاول فهم الأحداث واستبصار تبعاتها على مصر والمنطقة، وبعدها نتطرق لأحاديث أخرى قد تكون أدبيةً أو فلسفيةً أو حتى علمية في بعض الأحيان. لمست في هذه الفترة، وبوضوح، مدى شغف صنع الله بالعلوم، خصوصًا عالم الحيوان، بدءًا بالحشرات وانتهاءً بالحيتان، وحديثه عن قصصه العلمية للناشئين بحب وشغف واضحيْن، مما جعلني أعيد قراءة عدد منها.

عادت نادية والأولاد من كندا في 2016 وانتقلنا للسكن في المقطم. في العام نفسه كانت صحة والدي في تدهور، فكنت أذهب للإسكندرية للإقامة معه بضعة أيام أسبوعيًا لأرعاه، إلى أن تُوفي بعد انتقالنا للمقطم بشهرين. ولأنني مررتُ بفترة صعبة مع والدي لبُعد المسافة بيني وبينه في سنواته الأخيرة تناقشت مع نادية، واتفقنا أن نعرض على صنع الله وطنط ليلى فكرة انتقالهما للسكن معنا في الطابق العلوي لشقتنا، كي نكون قريبين منهما، خاصةً أنهما تعديا الثمانين من العُمر.

وافق صنع الله بعد تردد، وتركا شقتهما التي عاشا بها 45 سنة. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه أعجب بالمكان الجديد رغم صغره، لكِبر نوافذه وإضاءته الجيدة، ولوجود شرفة بها زرع كثير. في هذا المكان وضع اللمسات الأخيرة لروايته 1970 وزاره العديد من الأصدقاء، واستمرَّ في عمله من قراءة ومراجعة النصوص. بعد أن ظل عقودًا طويلة يشتري "الأهرام" و"المصري اليوم"، بدأ بعد الثورة في قراءة الأخبار  كل صباح على الإنترنت. كذلك كان يتحدث في الساعة العاشرة كل صباح مع الأستاذ عادل الغرباوي ليتابع ويدير "دار الثقافة الجديدة"، التي تولى مسؤوليتها منذ 2008 بعد أن طلبت منه نادية ذلك.

الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم يتوسط زوج ابنته أستاذ الفيزياء النظرية عادل عوض، ونجله شادي في حفل تخرج الأخير، سبتمبر 2022

توفيت طنط ليلى في يوليو/تموز 2022 فجأةً، فكانت صدمة شديدة له ولنا، وكُنا قَلِقين عليه، حتى أنني قررتُ أن أقيم معه في الشقة نفسها حتى لا أتركه وحده؛ كانت الوحدة هي عدوه الأول!

لازمتُه تسعةَ أشهرٍ في غرفة مجاورة لغرفته، فكنا نستيقظُ مبكرًا ونتناولُ فطورًا خفيفًا بين الساعة التاسعة والعاشرة، ونخوض مناقشة قصيرة عن أخبار اليوم، قبل أن أذهب للتدريس في الجامعة. كنت أعود الساعة الرابعة فنتناول الغداء سويًا، عدا يومين كنت منتدبًا فيهما لجامعة بعيدة، فكان يتناول الغداء مع نادية أو أحد أحفاده/أبنائي، شادي أو يارا. بعدها يذهب لقيلولته المقدَّسَة التي حافظ عليها دومًا.

يستيقظ في السادسة مساءً، نشرب الشاي ويدور بيننا حديث طويل ممتع لساعة أو ساعتين. من تلك الأحاديث تعلمت الكثير عن الكتابة والأدب، وفيها بدأ تشجيعه لي أن أكتب في تبسيط العلوم ومبادئها للقارئ العادي.

تعلمت من صنع الله الوضوح والبساطة في الكتابة، وبعدها، بدأت كتابة مقال شهري في المنصة يهدف لتبسيط العلوم وعرض تاريخها بشكل سردي. كان صنع الله يحرص على قراءة مقالاتي ومناقشتها معي، بل إنه راجع أول ثلاثة منها واقترح بعض التعديلات المهمة، وقد أدهشني ذلك. كان دائمًا يشجعني على الاستمرار في الكتابة مع كثرة انشغالاتي الأكاديمية من تدريس وبحث.

النداء المُحزن

في الساعة الثامنة من صباح يوم جمعة في شهر مارس/آذار 2023، أيقظني نداء صنع الله لي. بحثت عنه في الغرفة فلم أجده، إذ كان ممددًا على أرض الشرفة غير قادر على الحركة. حاولت إيقافه على قدميه لكنه صرخ من الألم، فعرفت أن هناك تمزقًا أو كسرًا أصابه. طلبت الإسعاف الذي نقله لمستشفى خاص. كان الكسر في أعلى عظمة الساق الملامسة للحوض، وبعد إجراء العملية بدأنا مرحلةً جديدةً لأنه لم يستطع السير بمفرده، فكان لا بد من ملازمة جليس له طوال الوقت.

عدت للطابق السفلي، لكنني حافظت على قضاء وقت محدد معه نناقش فيه أخبار العالم أو نتحدث عن أعمال أحد الأدباء أو أخبار العلوم والجديد فيها. كان موعد هذه المناقشات بعد عودتي من الجامعة ليلًا وبشكلٍ مُستمر، وفي حالة انقطاعي عنه ليوم أو اثنين، أجد منه رسالة مع "أم إبراهيم" جليسته، مُتسائِلًا أين أنت ولماذا لم تظهر؟ أو يتصل بي قائِلًا أنت فين يا دكتور؟ ما طلعتش ليه؟

في معظم الأحيان أترك ما في يدي وأصعد إليه لبدء حديثنا المقدَّس عن أخبار هذا العالم الذي يقترب من حافة الجنون! استمرت أحاديثنا الممتعة حتى إصابته بالكسر الثاني في مارس 2025! بعدها تدهورت صحته بسرعة نتيجة لإصابته بميكروب مضاد للعقاقير من بعض المستشفيات التي كان يُعالَج بها، بدأ في المثانة، بعدها الرئة، وتدهورت صحته حتى وفاته.

كُنا محظوظين كأسرة لوجوده معنا في نفس المنزل، ولقربنا منه في هذه الفترة، وللمحبة التي جمعت بيننا دائمًا داخل هذه العائلة الحُزمبولية. لقد تمتعنا أنا ونادية والأولاد بأحاديث كثيرة وضحكات أكثر معه ومع طنط ليلى لن ننساها أبدًا.

لروح صنع الله إبراهيم السلام، ولإبداعه الصادق الخلود.


(*) هذا المقال فصلٌ من كتاب "صنع الله في مرايا محبيه" الذي سيصدر لاحقًا لمجموعة من أقارب وأصدقاء الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم، وتنشره المنصة بإذن من دار الثقافة الجديدة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.