تصميم: أحمد بلال - المنصة

قزح

الجيوش والمال والبترول العربي في مواجهة قوس الألوان السبعة

منشور الاثنين 26 ديسمبر 2022

بدلًا من كلمة "الحرية" يستخدم السجناء في مصر كلمة "الأسفلت". أن ترى الأسفلت يعنى أن تنال الحرية. في السجن الجميع يتوق إلى الأسفلت.

حين خرجت من السجن، شعرت بالأسفلت ألين تحت قدميّ، أخاف من التعثر فأستند على العائلة والأصدقاء. يتعلم السجين المشي على أسفلت الحرية بمساعدة الآخرين. العالم يبدو غريبًا، الشوارع التي سكنتها وطُفت بها لا زالت كما هي، لكنَّ التفاصيل الصغيرة التي ظهرت أو اختفت وقت سجنك تشوش الرؤية وتبثُّ الشك فيما تعرفه.

كانت القاهرة مختلفة في 2017 بعد خروجي من السجن، وكنت أتعرف عليها من جديد.

اعتمدت على أخويَّ الأصغر إبراهيم وإسراء في معرفة المستجد في عالم الموسيقى، وما غاب عنى طوال حبسي. فرحت حين اقترحا أن نذهب معًا لحفلة مشروع ليلى، لأني كنت أعرف الفرقة وحامد سنّو، بل حضرت منذ سبعة أعوام أول حفل لهم في القاهرة حين لم يتجاوز عدد جمهورهم الثلاثمائة. لكن هذه المرة سيغنّي مشروع ليلى في مسرح جديد افتتح أثناء سجني، أمام جمهور يتجاوز العشرين ألفًا.

معظمهم شباب ومراهقين أصغر منّي بسنوات لدرجة أنَّ بعضهم أتى بصحبة أهله، يحفظون أغاني الفريق ويغنون مع سنّو، للأحلام المختبئة تحت السرير، والحرية التي هي كالشمس، حتى وإن غابت فهي في كرشي.

جيل آخر لا أعرفه، عمّق إحساسي بالكهولة، وبأنَّ هناك أفكارًا وحساسية جديدة تجمعهم. لمحت أثناء طوافي علم قوس قزح يظهر ويختفي، ابتسمت واندهشت، فطوال سنوات ما قبل وما بعد الثورة شاهدت مئات الأعلام مرفوعة في مناسبات مختلفة، لكني أبدًا لم أشاهد علم قوس قزح.

كنا نرفع أعلام الأحزاب والتيارات السياسية أو الأندية الرياضية أو أعلامًا بصور الشهداء، لكن لم يمتلك أحدنا الجرأة، ولم يفكر حتى المثليون من جيلنا، في رفع قوس قزح طوال سنوات الصخب الثوري. ظننت أن الأمر مجرد إشارة تضامن لطيفة مع الفريق، ومع حامد الذي أعلن أكثر من مرة تأييده لحقوق المثليين.

في الأيام التالية، ظهرت صور للعلم مرفوعًا في الحفلة، مع حملة إعلامية شرسة استهدفت مشروع ليلى واتهمته بالترويج للشذوذ والفسق، واتسعت لاستهداف جمهور الفرقة ومَن رفعوا الأعلام، فتحركت قوات الأمن وألقت القبض على أحمد علاء وسارة حجازي اللذين رفعا "الرينبو".

كتبت سارة بعد ذلك أنَّ الضابط الذي اعتقلها من منزلها وسط عائلتها سألها عن دينها وأسباب خلعها للحجاب وهل هي عذراء أم لا. قالت إنهم غمّوا عينيها، وأخذوها في سيارة إلى مقر مجهول، ووضعوها في غرفة مقيدة اليدين، وقماشة قذرة في فمها، لم تعلم لماذا في البداية إلى أن بدأت حفلة الصعق بالكهرباء.

كتبت سارة في شهادة نشرتها في سبتمبر/ أيلول 2018:

بشجاعة وقفت سارة أمام المحققين، معلنة بفخر هويتها كشيوعية ومثلية. رفضت ادعاءات المحقق بأن المثلية شذوذ ومرض، وقدم محاميها خطابات رسمية موثقة من منظمة الصحة العالمية بأن المثلية ليست مرضًا. لكنَّ المنطق والعلم ليسا لغة متداولة هنا، فاستمرت عمليات تعذيب سارة وكسر إرادتها.

حتى بعدما خرجت من السجن، تواصلت التهديدات الأمنية ضدها وضد أسرتها، فغادرت مصر إلى كندا. هناك وحيدة في المنفى، على "الأسفلت"،  كتبت سارة في شهادتها عن تلك الفترة:

في 13 يونيو/ حزيران 2020، غادرت سارة عالمنا، وحتى وهي تنهي حياتها تفكر في الآخرين، وفي رسالتها الأخيرة كتبت:

جريمة "الهوية"

يخبرنا خالد فهمي، المؤرخ والأستاذ في جامعة Tufts، أنَّ أول ظهور للمثلية في سجلات الدولة المصرية كمشكلة كان على يد الطبيب الفرنسي أنطوان بارثيليمي كلو، المعروف باسم كلوت بك، الذي استعان به حاكم مصر محمد علي سنة 1827 لتطوير المؤسسة الطبية العسكرية.

رصد كلوت بك انتشار الزهري بين جنود الجيش، وأرجع السبب في ذلك إلى انتشار البغاء بشكل قانوني، والممارسات المثلية. رأت الدولة المصرية وقتها أنَّ المثلية لم تكن المشكلة، لكنها سبب لمشكلة أخرى.

التحول الآخر في موقف الدولة المصرية كان في نهاية القرن التاسع عشر، على يد الطبيب المصري إبراهيم باشا حسن، والذي درس الطب في النمسا ثم فرنسا حيث تتلمذ على يد أوجست تارديو (1818 - 1879)، صاحب كتاب دراسة طبية-شرعية للانتهاكات الأخلاقية/Etude medico-legale sur les attentats aux mieurs. 

كان تارديو من أوائل من قدموا نظرية أن المشكلة ليست في الممارسات المثلية، بل في المثلي نفسه، واعتبره مريضًا وشاذًا. ووضع تارديو مجموعة من الفحوصات الطبية التي يمكن عبرها معرفة المثلي، أبرزها الفحص الشرجي.

وفي عام 1889 أصبح إبراهيم باشا كبير مفتشي الصحة في مصر. وأعاد نشر كتابه "الدستور المرعي في الطب الشرعي". نقل إبراهيم باشا في كتابه كل ممارسات وأفكار أستاذه تارديو عن المثلية كمرض، والفحوص الشرجية كتقنية طبية وقانونية لإثبات المرض. لكن المثلية لم تجرم في مصر إلا عام 1961، وحتى ذلك القانون لم يتحدث عن المثلية الجنسية بل أسماها تهمة "اعتياد ممارسة الفجور".

أخرجت سارة المثلية من كونها "فجورًا" و"ممارسات محرمة" إلى كونها هوية، لها علم يعبر عن أشخاص لديهم ميول وتوجهات جندرية مختلفة ومتنوعة

فقانونًا المثلية ليست مُجرَّمة، لكنَّ اعتياد الفجور هو المُجرَّم. والجهة المنوط بها إثبات التهمة هي الطب الشرعي عبر الفحوصات الشرجية التي وضعها تارديو منذ أكثر من 150 عامًا. أُبطلت تلك الفحوصات في معظم دول العالم، ولكنها في مصر لا تزال واحدة من ممارسات الطب الشرعي والجهاز القضائي لإثبات تهمة الفجور على المثليين والتنكيل بهم.

أربكت سارة حساباتهم، ففي كل القضايا التي شهدتها مصر، وتم فيها القبض والتشهير والتنكيل بالمثليين، كان المتهمون من الذكور. لكنَّ سارة لم "تفجر"، لم يُقبض عليها وهى في ممارسة جنسية من أي نوع، ودليل الاتهام الوحيد ضدها كان قطعة قماش بألوان قوس قزح.

دخلنا في عصر جديد من تجريم المثلية، لا كممارسة جنسية بين شخصين أو أكثر، بل كجريمة إعلان عن هوية. ملصق لقوس قزح أو رسمة ملونة بالألوان السبعة يمكن أن تستفز المؤسسات الأمنية العربية، لتتحرك وتنهي مصيرك بالتعذيب بالكهرباء في ظلام السجون. 

ما فعلته سارة وأحمد علاء في حفل مشروع ليلى منذ خمس سنوات، مثَّل لحظة تحول حادة في تعامل المجتمعات العربية مع المثليين. أخرجت سارة المثلية من كونها "فجورًا" و"ممارسات محرمة" إلى كونها هوية، لها علم يعبر عن أشخاص لديهم ميول وتوجهات جندرية مختلفة ومتنوعة. فئة جديدة لا تعرفها السلطات العربية، ويهدد ظهورها بنيان هذه السلطات وانضباط المجتمع الذي تسجنه بقبضة من حديد، وتكهربه إن حاول الإفلات من قبضتها.

منذ رفعت سارة العلم، انتقل الخوف من الرينبو إلى الأنظمة العربية. وتصاعد الأمر حتى تحولت الألوان إلى تابو مجرّم.

ففي الكويت منعت وزارة التجارة استيراد أي ألعاب عليها ألوان قوس قزح، وفي الأردن أزالت بلدية عمّان جرافيتي سارة حجازي، وطلت أي جرافيتي يحمل قوس قزح باللون الأسود. منعت السعودية كذلك أي ألعاب أو مطبوعات بها رينبو. وقبل انطلاق فعاليات كأس العالم، حذرت قطر المشجعين من عدم قدرتها حمايتهم لو رفعوا أعلام الرينبو، ثم تم الضغط على المنتخبات التي أعلن لاعبوها ارتداء شارة قوس قزح في المباريات، وتهديدهم بالإنذارات، فامتنعوا عن ارتدائها.

بررت قطر موقفها، بأنه دفاع عن القيم والأخلاق والمبادئ القطرية والعربية والإسلامية، رغم أن رفع علم "قزح" ليس معناه أن هذا الشخص يمارس اللواط مثلًا، بل إعلان تضامن مع فئة ترى أن هويتها الجندرية غير ممثلة وتتعرض للاضطهاد. تمامًا مثل رفع علم فلسطين، والذي لا يعني أن رافع العلم فلسطيني، أو عضو في حركة حماس مثلًا.

قُزَحْ

القزح كلمة متعددة المعاني على حسب الموضع من الجملة والتشكيل، فهو صوت غليان الماء الشديد إن وردت كإسم، أما الفعل فمعناه الارتفاع، كأن تقول "قزحت الأسعار"، أما الفعل أن أضيفت له الشدة " تقزَّح" فهو للنبات يعنى تشعبت أطرافه تشعبًا كثيرًا، وللضوء يعني تحول الأبيض منه إلى ألوان متدرجة من الأحمر إلى البنفسجي.

وهذا كقولهم "تقزّحت سارة" أي ارتفعت وتشعَّب أبيضها إلى ألوان متعددة، تسللت وانتشرت، وصنعت حجر الأساس في تاريخ المثليين العرب، كهوية جديدة تستكشف نفسها وتطالب بحقها طرفًا في العقد الاجتماعي المأمول يومًا عقده، ولا هراب من قدره.

"خصوصية" و"مصالح"

شهد العقد الأخير نهايات حزينة للثورات العربية، وكل مبادرات الإصلاح الديمقراطي في غالبية البلدان العربية. ترافقت هذه الهزيمة مع تصاعد خطابات في الأكاديميا الغربية والبلدان الخليجية تتحدث عن الخصوصية الثقافية لشعوب المنطقة، وأن النظام الديمقراطي والمجتمع الحر هي قيم ثقافية وسياسية استعمارية دخيلة على الثقافة العربية. بينما المناسب لتلك المجتمعات هو النظام القبلي والسلطة المطلقة للحاكم الذي يقود بنفسه عملية التحديث وتنوير هذه الشعوب وتثقيفها بما يراه مناسبًا.

ليس هذا بالجديد، هو كلام معاد تدويره، لكنه يأتي هذه المرة مصحوبًا بمصطلحات إنجليزية وأكاديمية، ويروج له أساتذة جامعات غربيين إلى جانب العرب.

جرى الاحتفاء بتجارب الدول الخليجية، خصوصًا دبي وقطر ومؤخرًا السعودية، لقدرتها على تقديم نموذج مندمج تمامًا في النظام الاقتصادي العالمي، ويمنح البيض وحملة الجوازات الغربية معاملة خاصة. فحامل الجواز الغربي الذي يعيش ويعمل في الخليج يتقاضى أكثر من أصحاب الجنسيات الأخرى للقيام بذات العمل، ويخضع لقوانين مختلفة عن قوانين العمل التي يخضع لها العامل العربي أو الهندي.

وبالتالي فالمطلوب أن يكف الغرب عن مطالبة تلك الأنظمة بالالتزام بمواثيق حقوق الإنسان التي وقعت عليها، ويحترم سلطتها وثقافتها المحلية، بل ويرسل أبناءه ليحموا شرعية أنظمتها السياسية وسلطة حكامها المطلقة.

تعرف الأنظمة العربية أن الغرب وأوروبا تحديدًا في حالة انحدار، وأن النفاق والفساد جزء من بنيته الأساسية، وهم يتقنون التعامل معه. فتنتقد قطر في قنواتها العربية التي تبث كأس العالم تضامن المنتخبات الأوروبية مع المثليين، وتبث خطاب الكراهية ضد المثليين العرب. لكنها على البث الإنجليزي تستضيف Lianne Sanderson لاعبة الكرة الانجليزية المثلية وإحدى رموز مجتمع الميم الرياضية.

لم تهتم ولا مؤسسة غربية سواء حقوقية أو مثلية باستضافة مثليين عرب، أو إعطائهم الفرصة للحديث عن مشكلات المجتمع المثلي العربي، بل تصدَّر الحقوقيون البيض والمثليون الغربيون المشهد

ينتقد المنتخب الألماني والسياسيون الألمان في العلن انتهاكات قطر لحقوق العمال والمثليين، لكن في الوقت ذاته توقع الحكومة الألمانية صفقة لشراء الغاز القطري بمئات المليارات ولمدة 15 عامًا. وإذا لم يكن لدى تلك الدول بترول تبيع لهم أوروبا السلاح بالمليارات. السلاح الذي تستخدمه الأنظمة عند الحاجة لقصف شعوبها كما رأينا في السنوات الأخيرة.

لذا فالأمر ليس صراعًا بين الشرق والغرب، بل اختلاف بين عشاق سجون الأسرة والقبيلة والاستبداد، وعشاق الحرية المؤمنين بقدرة الحب على بناء جسور عابرة للهويات القومية التي لا تخدم سوى الاستبداد. هي كذلك حجة تظهر وتختفي في إطار الصراع السياسي بين الدول العربية المنتجة للنفط والدول الغربية المستهلكة له.

شهدت السنوات الأخيرة تأميمًا شاملًا للعمل السياسي في غالبية الدول العربية، ومعه مُنعت التجمعات، وحرية التنظيم، وتم التضييق على العمل الأهلي. أما المثلية فهي مكللة بعار التجريم الجنائي والنبذ المجتمعي، حتى وإن لم تُقلق الأنظمة بأي شكل. ولكن حين رفع أعضاء من المجتمع المثلي العربي رؤوسهم، وأعلنوا رفضهم للنبذ والعار، لم يُعتبر هذا مجرد "خروج من الخزانة" بل تحدٍّ للنظام السياسي القائم.

المثليون العرب هم الذين يتعرضون للنبذ والتعذيب من أسرهم، ويُكشف على فتحات شرجهم، ويعذبون بالكهرباء. وحتى حين ينجحون في الخروج إلى المنافي الغربية الباردة، يعيشون في مذلة أمام قوانين الهجرة الغربية، ويتعرضون للتهميش الكامل من قبل مجتمعات الميم الغربية ونشطائها، ثم يكتئبون، وأحيانًا، مثل سارة، ينتحرون. 

راجع مثلًا كل الحملات الإعلامية الغربية ضد استضافة قطر لكأس العالم بحجة حقوق المثليين. لم تهتم ولا مؤسسة غربية سواء حقوقية أو مثلية باستضافة مثليين عرب، أو إعطائهم الفرصة للحديث عن مشكلات المجتمع المثلي العربي، بل تصدَّر الحقوقيون البيض والمثليون الغربيون المشهد الإعلامي منفردين، بصفتهم المحاربين الأبديين القادمين لإنقاذ الكوكب.

وسينتصر الشبح

يدرك المستبدون أن رفع العلم، أي علم، هو شارة سيتبعها آخرون. منارة ستقزح وتمد هؤلاء الخائفين المختبئين بالطاقة والنور والنار، وأنَّ العلم يعبر عن مجتمع مقموع داخل الدول العربية، وهم ليسوا حزبًا سياسيًا يمكن القبض على أعضائه، وليسوا تنظيمًا حقوقيًا يمكن التضييق على تمويله، بل توجه وهوية جندرية لن تختفي ولن تذهب إلى أي مكان.

القزح هو كابوس الاستبداد العربي، لأنه عدو خفي، شبح يدركون استحالة القضاء عليه تمامًا. والاستبداد ليس السلطة السياسية فقط، بل كذلك الذكورية والدينية وتحالف العويل والناطحة وآكلي الجيفة. لذا فهم لا يكتفون بالتجريم وحملات استهداف المثليين التي يقودها البوليس، بل يتم شحن المجتمع عبر حملات إعلانية للتوعية بخطر المثلية، وضرورة إزالة ألوان الرينبو من ألعاب الأطفال حتى لا يتحول العلم إلى رمز مألوف.

لكنهم في النهاية سيخسرون، لأن معركتهم ليست ضد الغرب الذي يخضعونه بالرشاوى والابتزاز، بل ضد أبنائهم الذين سيرثون المستقبل. فالأسر العربية حتى وإن نبذ بعضها أبناءهم اليوم بسبب هويتهم، فغدًا سيرث هؤلاء الأبناء ممتلكات وثروات وسلطات أسرهم، والتغيير بدأ بالفعل، والخوف والهلع لن يساهم إلا في تسريعه.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.