سارة حجازي، تلك الشابة التي مثلت عصر ما بعد الحداثة بكل معانيه، أو ما يسميه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان "الحداثة السائلة". كانت سارة هي الروح الحديثة، حددت البُنى المتوارثة بوضوح من أجل إذابتها وصهرها. احِتجّت سارة على البُنى الاجتماعية، والنماذج السلوكية، والمنظومة القيمية القديمة، وما نتج عنهم من مجتمع ساكن ورجعي وذكوري يقدس السلطة الأبوية والقوالب الصلبة الصدئة ويكره النظر للفرد كإرادة حرة وينبذ المختلف عنه. لا لأنها تكره الصلابة في حد ذاتها، بل لأن هذه البُنى لم تكن صلبة بما فيه الكفاية.
كانت سارة، كما كان باومان، تؤمن بأن المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، بمعنى أن اللا يقين هو اليقين الوحيد.
آمنت سارة بمبادئ الثورة وبأن التغيير آتٍ لا محالة، وأن من يقف أمام عجلة التغيير ستدهسه وسيصبح عاجلًا أم آجلًا في سطور التاريخ المنسي.
لم تكن لسارة صورة محددة للمستقبل تعمل على تعميمها على المجتمع، ولكن كان شغلها الشاغل هو ضمان استقلال المستقبل وحريته، وابتعاده عن الصلابة والقوالب القديمة. شعارات الحرية والكرامة الإنسانية التي رفعتها لم تكن مجرد شعارات، بل مبادئ ووجهة. آمنت بحرية التفكير والوجدان والدين وحرية التعبير، ودافعت عنهم، وهو ما لم يأتِ على هوى المجتمع الصدئ المؤمن بكل ما هو معاكس لمبادئها.
الفخر بسارة حجازي
نفخر بسارة حجازي لأنها كانت بوصلتنا، كانت أنقى من فينا. لم تخجل يومًا مما تؤمن به. تقف وحدها بكل بسالة حاملة أفكارها كسيف أمام جحافل المتطرفين من الإسلاميين ومؤيدي الدولة العسكرية، تناقشهم ويسقطون أمامها واحدًا تلو الآخر، ولم ترفع يومًا شعارات شامتة فيهم ولم تجهز عليهم، بل مدت يدها لهم ليقفوا مرة أخرى على أمل أن يفهموها لا أن يقتلوها.
لم أعلم يومًا كيف كانت تأتي بكل هذه الطاقة. بعد رحيلها فهمت كيف كان ذلك، كانت تأخذ من نفسها لتعطي مبادئها ولتعطي قاتليها جزءًا من رؤاها وفكرها، آملة أن يأتي اليوم الذي يفهمونها فيه، استمرت في العطاء حتى تلاشت.
نفخر بسارة حجازي لأنها أعطت حياتها للتغيير، لأنها انتصرت عليهم في حياتها وتنتصر عليهم حتى برحيلها. بدأت سارة فهم هويتها الجنسية في عام 2016 والتعرف أكثر وأكثر عام 2017، وسرعان ما وجدت أنه يجب التخفي وعدم الإفصاح، فالمجتمع الصدئ لن يسمح بالاختلاف، والدولة الصلبة لن تسمح بالحداثة السائلة.
ولكن هذا لم يهزم سارة، مرة تلو الأخرى تقف أمامهم. في منتصف عام 2017 دعت سارة لفعالية على شبكات التواصل الاجتماعي بعنوان "ادعم الحب" بهدف دعم تقبل المثلية أكثر، جمعت وحشدت الكثير من الداعمين والحلفاء من مؤثرين وفنانين وسياسيين. في ذلك الوقت كان النضال الكويري في مصر مقتصرًا على عدد من الأفراد والمنظمات التي تعمل في السر خوفًا من البطش الأمني أو المجتمعي. من كان يتجرأ على الإعلان مواجهة الدولة والمجتمع بكل قوة وبسالة غير سارة حجازي؟
قبل رفعها لعلم قوس قزح في حفل مشروع ليلى في سبتمبر/ أيلول 2017، كانت تعي أن هناك بعض المخاطر لمثل هذا التصرف، لم يكن منها القبض عليها، ولكنها قررت أن تكمل وتقف مع أصدقائها حاملين وحاملات الأعلام الملونة ليرسلوا عدة رسائل، للبناني حامد سنو مطرب فرقة مشروع ليلى، والمُعلن لمثليته، بأنه ليس وحده، بل يتضامن معه كثير من المصريين في مواجهة موجات وخطابات الكراهية.
ورسالة للمجتمع المصري، وهنا أقتبس منها نصًا "رسالة للمجتمع كله إننا موجودون، أفراد مجتمع الميم جزء من المجتمع المصري". نجحت سارة ورفاقها في التعبير والدفاع عن أنفسهم وعن كل أفراد مجتمع الميم عين، كانت تقول "كل ما أريده هو إقناع ولو مراهق واحد مثلي الجنس بأن توجهه الجنسي ليس مرضًا". لا شك أنها أقنعت المئات وربما الآلاف منهم بأنهم ليسوا مرضى، وعليهم تقبل ما فطرهم الله عليه.
لم أكن يومًا يساريًا ولم أتفق أبدًا مع مبادئ الاشتراكية، ولكن أفخر بنضال سارة من أجل أفكارها الاشتراكية. أفخر بها لأنها كانت في مقدمة الصفوف دومًا، بلا تراجع أو مساومة. بعد سنوات من القراءة والاستكشاف، وجدت سارة أن الاشتراكية هي الأقرب لأفكارها، فانضمت لحزب العيش والحرية، وكانت في مقدمة الصفوف، تجمع توكيلات التأسيس وتعقد حلقات نقاشية وتنشر فكرها وفكر الحزب. أفخر بإيمانها الشديد بقضاياها.
نفخر بسارة حجازي لإيمانها بعالمية الحرية ووجوب التغيير. وقفت سارة بجانب الثورة السورية وأضربت عن الطعام تضامنًا مع المحاصرين في إدلب. ووقفت بجانب جرحى انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) في لبنان ورفعت وسم #ثورتنا_عيونكم. نفخر بسارة وحماسها في تنظيم وقفة احتجاجية في تورنتو دعت إليها الجاليات العربية ومجموعات كندية للمطالبة بوقف عقوبة الإعدام في مصر. نفخر بسارة حجازي لوقوفها مع القضايا المُحقة.
نفخر بها لأنها كانت وستظل بوصلة نستدل بها إلى الحقيقة. نفخر بسارة حجازي المناضلة المثلية، الاشتراكية، التنويرية، التقدمية، الحقوقية. فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، لن تعود سارة حجازي لدنيانا بجسدها مرة أخرى، ولكن ستبقى روحها ونضالاتها، فالعالم بعد سارة حجازي ليس كما قبلها.
يقال إن من يكتب التاريخ هم المنتصرون. أما نحن فعلى ما يبدو مهزومون، ولكن لن نرضخ لهم، لن نتركهم يخطَون رواياتهم لما حدث وما عايشناه، لن نسمح برواية مغايرة للحقيقة.
نحن هنا، نحن التاريخ الواقعي والحقيقي، نحن الشهود. نرفع الصوت عاليًا، نحكي، نملأ العالم ضجيجًا، ونخبر الجميع، ونحتفي بنضالات سارة حجازي ونوَثّق ذكراها.
تخليدًا لنضالات سارة حجازي التقاطعية، وللتذكير بأن خطابات الكراهية والمجتمع الأبوي أسلحة قتل لا تجرمها القوانين. يجب تذَكُر اسمها، ويجب أن تُروى قصتها.