أعرف سارة حجازي، رحمة الله عليها، منذ عام 2011: فتاة نحيلة، محجبة، من طبقة متوسطة، شديدة الحماس والتفاني، تشارك في الثورة بكل وقتها وطاقتها، على استعداد دوما للصمود، لا ترهب المدرعات ولا الموت. في ذلك الوقت، كانت في العشرين من عمرها.
لمحت تطوراتها السريعة، من فتاة سنية متدينة تنشر أذكار الصباح والمساء على صفحتها، إلى إشعار منها بإنها تقرأ عن الصوفية، وبعد القراءة عن الصوفية تتحمس لها، ثم تعود وتفكر بصوت عال على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتناول ما قرأته بالنقد، ثم تقرأ أمهات الكتب عن المذهب الشيعي، فتتحمس، ثم تفكر، وتتناوله بالنقد، ثم تقرأ في الماركسية، وهكذا.
كنت أداعبها في تلك الفترة وأسألها: ها؟ الكلام على إيه النهارده؟ صبحتي بوذية ولا لسه؟ وكانت تضحك. لكنني كنت أضمر إعجابا بفتاة تبحث عن الحقيقة عبر قراءة أمهات الكتب في كل اتجاه، حماس طفولي في البداية، ثم تعود لتعمل عقلها بالنقد والتحليل والتفكير. تتحدث في بساطة، وبأسلوب أدبي سلس وخفيف الظل لكنه لا يخلو من العمق والذكاء، عن كل ما يجول بخاطرها، ببراءة شديدة، دون رهبة من نظرة الناس، أو هجوم جحافل الجهاد الإلكتروني وتنمرهم عليها.
تندهش سارة من حجم الشر والكراهية والغل الذين يواجهها بها الناس حين تعبر عما تفكر فيه.
أوضحت البنت عدة مرات أنها مازالت تبحث، وهي تستغرب إصرار البعض على إيذائها. بكل طفولة وبراءة، أخبرَت الجميع أن أذاهم يجرحها، ظانّة أن هذا التصريح سيؤنب ضمائرهم، والتي لابد أنها حية لإنهم "إنسان" وسيكفون عن مضايقتها. كانت تعتقد أنهم لا يقصدون إيذاءها، هم فقط يعبرون بطريقة خاطئة، وأرادت أن توضح لهم أن هذا الأسلوب خاطئ وجارح، وهم مؤكد لا يرغبون في جرح آخرين.
لكنها عادت لتندهش لأن اعترافها بأن هجومهم يؤذيها زاد من حدة الهجوم، وكأن الأذى، لا سمح الله، مقصود.
حاول بعض أصدقائها أن يشرح لها أن الأذى مقصود نعم، لكنها كذّبتهم. كانت تؤمن بأن الإنسان طيب بطبعه. لماذا يؤذي الإنسان غيره الذي لا يعرفه ولم يؤذه من قبل؟ لابد أن هناك سوء فهم.
تدرجت سارة في بناء أفكارها، كلما عنّ إلى خاطرها سؤال، ذهبت لشراء أمهات الكتب، ثم تطلب من الأصدقاء أن يدلوها على مكان كتاب لم تجده، أو أن يعيروها إياه، أو يجدوا لها رابطًا لقراءته على الإنترنت.
وظلت هكذا لسنوات؛ تقرأ، تتحمس، تنتقد، وتحلل، وتناقش. تقرأ بعناية المناقشات التي ترد على صفحتها وتفكر فيها وتعود لتخبر صاحب الرأي بأنه أقنعها، أو أنها لم تقتنع.
الحقيقة أن صفحة سارة كانت غنية جدًا، لم تساهم في تطوير فكرها فحسب، بل ساهمت في تطوير أفكار آخرين من خلال مناقشات جادة لكل ما تقرأ. إلا أن بعضنا، وأنا منهم، كنا نخشى الدخول في مناقشات بسبب ذباب الجهاد الإلكتروني الذي كان يبذل قصارى جهده لنصرة دين الله والسخرية من مظهر سارة، ومن مظهر المعلقين والتعريض بحيواتهم الشخصية، وسباب الآباء الذين لم يحسنوا التربية، والحديث عن العقد النفسية، والكبت الجنسي الذي يجعل سارة وأصدقائها يتناقشون في العقائد الفكرية، ونصحها بالبحث عن رجل "يهدئها" إذا وجدت رجلًا يرضى بالنظر إلى خلقتها كي تكف عن هذا الهراء.. إلخ إلخ إلخ.
مسلك نعرفه جميعا وتعرضنا له جميعا، يثير الغثيان حرفيا، حتى وأنا أذكره الآن شعرت بالرغبة في القيء دون مبالغة. إلا أن سارة كانت تندهش، وترغب في تحليل كل هذا الشر، انطلاقا من إيمانها بالخير في الطبيعة البشرية: لا بد أن الحب ينقصهم، ربما لديهم مخاوف تجعلهم أكثر عدوانية.
"لا يا سارة هم أشرار"، قلت لها.
"لا مفيش حد شرير كده من غير سبب"، قالت لي.
مسؤولة عن العالم
بعد سنوات، أعلنت سارة، وكانت مازالت ترتدي الحجاب، عن ازدواج ميولها الجنسية. في تلك الفترة، كانت تكتشف نفسها كما كانت تكتشف العالم.
تعرضت لهجوم غاية في البذاءة والدناءة ولعروض جنسية صريحة من إخوة الإيمان كي يساعدوها على "تجاوز الأزمة".
أرادت أن توضح لهؤلاء أنها ليست في أزمة.
هكذا، دائما لديها رغبة في التوضيح والشرح. لا تصدق أبدًا أن هناك من لا يحتاج للشرح، هم فقط نفوس مريضة، لكنها تعتنق الإيمان بطيبة الإنسان وأنها لابد أن تمنحهم الحب والاهتمام وتشرح لهم.
بدأت سارة قراءة ممنهجة لعلم النفس كي تكتشف ذاتها، وأخذت وقتا لاكتشاف ميولها الحقيقية، وأرادت تفسيرها تفسيرًا علميًا كالمعتاد. ثم رغبت في مشاركة اكتشافها مع الآخرين، والشرح لمن تظنهم لا يفهمون، والصبر على من تظنهم يحتاجون لحب واهتمام كي يتخلوا عن قسوتهم.
أجهدت نفسها وطاقتها.
كنت أطاردها على الرسائل الخاصة: سارة.. شيلي الجملة اللي أنت كاتباها في البايو دي حتتحبسي.
- أتحبس؟ أتحبس ليه؟
تتحبسي ازدراء أديان يا سارة.
- إيه؟ لا حاشيلها، أنا مش عايزة أتحبس.. أنا باعبّر عن نفسي.
لا خلي بالك وأنت بتعبري عن نفسك، أنت فاكرة نفسك في سويسرا؟
ثم: سارة.. البوست اللي أنت عاملاه بابليك ده، إعمليه فريندز حالا. حتروحي في داهية.
- أروح في داهية ليه؟
حتتحبسي.
- ليه؟
يييييييي.. اسمعي الكلام.
- حاضر.
وهكذا. كانت تدهشني براءتها المتجددة دوما.
من حيث المبدأ، سؤالها يبدو منطقيًا: أتحبس ليه؟ أنا باعبر عن نفسي. أروح في داهية ليه؟ أنا ما عملتش حاجة بأقول مشاعري.
لكن.. متى حكم المنطق؟ لم أحسن أبدًا الإجابة عن سؤالها: ليه؟ كنت أجيب: عشان هو كده.. نعمل إيه طيب؟
مشروع ليلى وتجربة السجن
بدأت سارة في اكتشاف ميولها بشكل تدريجي، وكانت تطلعنا كل يوم على صفحتها بفيسبوك بآخر المستجدات في اكتشاف ميولها، وتحليلها النفسي. كنت أتمتم في خاطري: ما هذا؟ لماذا تحدثين الناس عن كل هذه التفاصيل. لكنني لم أصارحها لأني أعلم أن البوح أهم آلية تلجأ لها. لديها دوما رغبة في "الفضفضة" وحباها الله بأسلوب أدبي رائق وجميل، وخفة ظل لماحة وسريعة. كانت صفحتها الأكثر إمتاعا وصدقا، لولا ذباب الجهاد الإلكتروني.
في أغسطس 2017 كتبت في مدونتها عن فكرة الانتحار. وقالت إن الانتحار ليس شجاعة كما أنه ليس جبنا، هو فقط عدم رغبة في المواصلة.
في سبتمبر 2017 حضرت حفلا للفرقة الموسيقية الشهيرة مشروع ليلى ورفعت علم قوس قزح رمزًا لدعم الكويرية.
كانت من ضمن الذين تم القبض عليهم.
هذه كانت المرة الأولى التي تتأكد فيها سارة من أن اعتقادها في طيبة الإنسان الفطرية ما هو إلا وهم. وكان هذا هو منبع الصدمة.
قابلت سارة في السجن والتحقيقات الوجه شديد القبح للإنسان، والذي لم تتصور من قبل أنه موجود بهذه الكثافة وهذا الإصرار. ومع ذلك، حاولت، بشكل منطقي، أن ترد على سؤال وكيل النيابة الذي قال لها: طب وأنت ممكن تنامي مع أسد؟
فتجاهلت رغبة المحقق في السخرية منها والإشارة إلى أنها "شاذة عن الفطرة" وأجابته بعقلانية ومنطق: لا طبعًا، لإن الأسد حيوان مفترس وممكن ياكلني، والحيوان بشكل عام مالوش إرادة تناطح إرادة الإنسان، فما ينفعش حد يعمل علاقة مع حيوان أو طفل، العلاقات أيا كان نوعها لازم تبقى رضائية بين ناس بالغين عاقلين مسؤولين عن تصرفاتهم.
تشرح مرة أخرى. وكأن هذا المحقق يرغب حقًا في أن يعرف.
في السجن، أفصحت أنها عانت كثيرًا، فلم تكن سجينة عادية، فقد وضعت في الحجز مع الجنائيات اللاتي تحرشن بها واستضعفن جسدها فأوسعنها ضربا. ثم سيقت بعد ذلك للحبس الانفرادي.
بعد خروجها من السجن الذي دخلته بسبب ميولها الجنسية، ما أثار دهشة العالم، انهال دعاة الفضيلة والحفاظ على قيم المجتمع، وفرق مكافحة المؤامرة على الإسلام، وفيلق يا رب احفظ مصر، وكتيبة ربنا ينجي ولادنا، على سارة بالسباب والإهانة والمعايرة والتجريح والإشعار بالنبذ والعار من كل حدب وصوب. كلما أطلت برأسها على مواقع التواصل الاجتماعي، اندفعت الجيوش المذكورة في مطاردتها في التعليقات وعلى الرسائل الخاصة بالسباب والإهانة والدعاء عليها وتقديم العروض الجنسية الغيرية لتعود إلى جادة الصواب وإلى طريق الله والحفاظ على "أولادهم" من الفساد، وحماية المجتمع من نشر الفاحشة والانهيار والتصدع، والدفاع عن مصر ضد المؤامرة الأجنبية وحروب الجيل الرابع وتقسيم مصر، ونصرة الإسلام ورفع رايته.
كل هذا لسارة؟ سارة وحدها تتحمل فرضية تقسيم مصر وإفساد الأطفال وهزيمة الإسلام وعودة عبادة الأصنام لأن جماهير الشعب ومعهم الدولة منشغلون بشدة بما تفعله سارة في غرفة نومها.
لم تكن سارة تفكر بالمرة في الرحيل من مصر. كنت قد تحدثت معها عن الأمر قبل السجن، وبعد كشفها عن ميولها، فأكدت لي أنها لا تستطيع ولا ترغب في الرحيل من مصر، فوالدتها مريضة بمرض عضال، ووالدها متوف، وهي مسؤولة بالكامل عن إخوتها الأصغر منها، ترعاهم وتشارك في الإنفاق عليهم. ثم أردفت: بعدين أنا بحب مصر.
إلا أنها، وبعد صدمة السجن، الذي شابه التنمر وتشويه السمعة والتحقير والإهانات المتتالية، اضطرت سارة للرحيل.
في كندا والبلية لعبت
فوق الاتهامات والسجن والتعذيب النفسي والتحرش والحرمان من الأسرة والأصدقاء والصحبة، كانت اتهامات أخرى تطارد سارة، بأنها تعمدت رفع علم الرينبو أو قوس قزح، كي تتمكن من السفر من مصر والذهاب إلى كندا، والعيش هناك في رغد ونعيم ورفاهية و"أهي البلية لعبت معاكِ".
أقسى ما تستطيع أن تجرح به شخصًا صادقًا ومخلصًا هو اتهامه بالزيف. هذا هو الطعن الحقيقي في الشرف، وأعني بذلك الشرف النفسي والعقلي والإنساني الحقيقي، لا شرف الأعضاء التناسلية المسيطر على أغلب العقول في المجتمع.
الحقيقة أن وضع سارة المادي كان سيئًا للغاية، شأنها في ذلك شأن كل لاجئ غير مسموح له بالعمل، ويعيش على نفقة متقشفة للدولة، هذا، وقد كانت سارة تحتاج إلى علاج نفسي مكثف بسبب الصدمات المتتالية التي أدت إلى إصابتها باكتئاب حاد.
تدهورت حالة والدة سارة الصحية ومعها حالة سارة النفسية التي كانت تتعذب في وحدتها في أثناء نقل والدتها إلى العناية المركزة. وكانت القاصمة: توفيت والدتها في غيابها.
كتبت سارة "ماما مشيت من كوكب الأرض، ماتت باللغة بتاعتكم، ماتت وأنا في المنفى وما عرفتش أكون جنبها ولا أدعمها بما يليق، ماتت وما عرفتش أكون جنب إخواتي الصغيرين، ماتت واختفت تماما. أنا مش مسامحة كل واحد شارك في نفيي، مش مسامحة نظام حكم كامل منعني أكون جنب ماما وهي بتموت. عداوتي مع النظام بقت شخصية بشكل مرعب ومقزز".
نعم، هي تكره أن تكون لها عداوة شخصية مع أحد من كان. ولذلك فقد شعرت تجاه العداء الشخصي بالرعب والتقزز.
إلا أن سارة، وحين قررت الذهاب بنفسها لوالدتها، قررت مع الرحيل أن تسامح، وألا تحتفظ في قلبها الصغير بأي عداوة شخصية، فكتبت في رسالتها الأخيرة: إلى العالم، كنت قاسيا إلى حد عظيم. ولكني أسامح.
مفاجأة: المثلية الجنسية ليست مرضًا
بعد نشر خبر موت سارة حجازي، بافتراض أنها منتحرة، وأنا أقول انتحرت ظاهرًا، والواقع أنها قُتلت: قتلها العالم العظيم في قسوته، والذي سامحته قبل أن تهرب من قسوته. بعد نشر الخبر، عادت من جديد فيالق الوطنية والدين وحماية المجتمع والتصدي للمؤامرات لتظهر احتفالاتها بانتصار غزوتهم. فهم قد بذلوا جهدا حثيثا، بدءا من التحريض على حبسها، ومحاصرتها حتى التسبب في غربتها، ووحدتها، واكتئابها، وحزن والدتها عليها الذي تسبب في تدهور صحتها ووفاتها، ومن ثم تفاقم حالة الاكتئاب لدى سارة حتى أصبحت العقارات الدوائية لا تجدي نفعًا واضطر الأطباء إلى تعريضها لجلسات علاج بالكهرباء. كل ذلك حدث بتضافر الجهود حكومة وشعبًا، وهكذا، فقد حققوا الفتح المظفر، وتخلصوا من سارة، ودفعوها للانتحار. فآن لهم أن يحتفلوا بالرقص على دمائها، وإرهاب كل من يطلب الرحمة لها.
وكان هناك من العقلاء المحترمين المهذبين الذين صرحوا بكل جهل: ما كان يجب على الدولة حبسها، وإنما كان يجب عليها إيداعها في مصحة لعلاجها من "الشذوذ" الجنسي.
لا مجال هنا لشرح مدى جهل هذا الخطاب، إلا وأنه، اختصارا للمناقشة، أنصح الجميع بالبحث على محرك البحث جوجل: هل المثلية الجنسية مرض؟ الحقيقة أن المثلية الجنسية طبيعة مخلوقة في نسبة من البشر والحيوانات بل والحشرات، وهي ليست مرضًا نفسيًا. وما من مثلي كان يرغب في بداية حياته أن يصبح مثليًا منبوذًا من المجتمع. لقد بذل سنوات في اكتشاف نفسه، وسنوات أخرى في محاولة إنكار ما اكتشفه، وربما قلة منهم تضطر إلى الانصياع للواقع وقبول ذواتهم كما خلقوا. وهناك نسبة لا بأس بها تمعن في الإنكار، وتنتهج رهاب المثلية كوسيلة دفاعية لحماية أنفسهم مما يعتقدونه "ضعفًا" أو بالأحرى من مواجهة أنفسهم بحقيقة ميولهم، وهذا الصنف الأخير هو الذي يحتاج إلى علاج نفسي لقبول ذاته كمثلي أو مثلية، وليست سارة ولا مَن هم مثل سارة.
الحقيقة أن انشغال المجتمع بما يفعله الناس في غرف نومهم هو ما يحتاج إلى علاج نفسي، وليست سارة ومَن هم مثل سارة.
الحقيقة أن ادعاء الفضيلة والتحرش بالنساء في الرسائل الخاصة والحياة بوجوه عدة باطنها غير ظاهرها هو ما يحتاج إلى علاج نفسي، وليست سارة ومَن هم مثل سارة.
الحقيقة أن نصرة دين الله بالتنمر والتجريح والقتل المعنوي والمادي والبغضاء والشحناء يظن فاعلهم أنه يؤجر على هذه الشناعات وسيحظى بالحور العين في الحياة الأخرى لأنه جرح إنسانا حتى دفعه إلى الانتحار هو الذي يحتاج إلى علاج نفسي، وليست سارة ومَن هم مثل سارة.
نعم، كانت سارة تلتزم بجلسات العلاج النفسي وبالعقارات وجلسات الكهرباء حيث مرضت بسبب المعطوبين من حولها. لم تحضر سارة جلسات علاج من المثلية الجنسية، وإنما كانت تُعالج من صدمات السجن والتعذيب والتحرش والتنمر والتوحش والإهانات والغربة القسرية والبعد عن الأهل والفقد.
كانت بخير، وكانت جميلة، وكانت بريئة، وكانت ذكية، وكانت لطيفة وودودة وخدومة وجدعة، أعطبوها بأمراضهم وقالوا مريضة، ثم قتلوها بقسوتهم وقالوا منتحرة.