تصميم: يوسف أيمن- المنصة

هل كان هذا وقته يا سارة؟

منشور الأحد 21 يونيو 2020

العزيزة سارة حجازي، السلام على روحكِ إن كانت الأرواح تبقى، وعلى ذكراكِ التي أظن أنها ستبقى طويلًا.

قبل ثلاث سنوات انقلبت الدنيا، وعرفت أنك قمت مع آخرين برفع علم قوس قزح في حفل موسيقي. أول ما قلته لنفسي كان "هل هذا وقته؟".

توقعت أن يقوموا بأسرك، وإهانتك، توقعت قسوة ما ستواجهينه، وما سنواجهه جميعا معك، نحن أسرى ورهائن ومطاريد هذه الثورة، بكل فخر وعناد ورغبة في المعاودة، وبكل خوف وقلق وترقب واختيارات الهرب والاختباء.

لا أذكر من كان في السجن وقتها، فانضممتِ إليهم، ومن تم أسره لاحقا من أصحابي ورفاقي القريبين أو إخوتي في الثورة الذين لم نلتق وجها لوجه، كنت غاضبا أنك وآخرين سينضمون إليهم في الأسر، كنت غاضبا منكِ ومن رفاقك بشكل ما، وتخيلت أنك ستفكرين في أسرك إن كان الأمر يستحق، هل تستحق لحظة النشوة والاعتداد التي تعلنين فيها عن حريتك وعما تريدينه لنفسك ما تواجهينه؟ ربما كانت تستحق أو لا تستحق، لكن ما العمل؟ لا خيار إلا أن نحاول أن نكون معك وبجانبك، وحاولنا.

كان مدهشًا وقتها، اتساع مساحة التضامن ومستوى الشجاعة في الجدالات، الأمر لا يتعلق فقط بحقوق المثليين، ولكن بما هو أكبر من ذلك، بالدفاع عن الحرية في أن نكون مختلفين، بالدفاع عن الكرامة مهما بلغت حدة الاختلاف، بالتمسك بالتضامن رغم الثمن المتوقع على أصعدة كثيرة.

أليس هذا ما كنا نفكر فيه ليلة 25 يناير؟ قد تبدو قفزة شعورية ضخمة، ولكن أعرف أنها ستكون أليفة للكثيرين: مغامرة الاعتداد والعناد والإعلان عن الذات بحرية، مقابل سؤال: إن كان هذا وقته، إن كان الأمر يستحق.

كنا نتأرجح لسنوات بين كوننا ثوارًا وكوننا إصلاحيين، بين كوننا منغمسين أو مبتعدين، ربما ستكون ثورة وربما لن تكون، ربما سيثور القليلون، بما لا يكفي حتى لكي يتراجعوا بسلام فيدفعون ثمنًا فادحًا، ولكن ما العمل الآن، لقد قطعنا طريقًا طويلًا، سنكون معا كلنا هناك، الثوريون والإصلاحيون، الساخرون والمتحمسون، المتفائلون والمتشائمون، المنغمسون طوال الوقت والمبتعدون معظم الوقت، سنواجه هذه اللحظة معا، سنتقاسم نشوة انتصار أو نتقاسم قسوة هزيمة. هذا ما كان العمل ولا يزال يا سارة. وبيني وبينك، ربما لم يكن وقته، وربما كان، لا أحد يعلم، ربما كان يستحق أو لا يستحق، ولكن كان ذلك هو العمل يا سارة، وما زال. كان عمل شجاعة ومغامرة، عمل اعتداد وكرامة وحرية، وعمل حب وتضامن، أجمل ما رأيته وربما أراه في هذه الحياة. لِمَ قَررتِ ترك الحياة يا سارة؟

هل تذكرين أننا كنا أيضا قبل يناير 2011 نتجادل حول الانتحار؟ 

كتبتُ قبلها بشهر أنني لا أرى أن بو عزيزي التونسي الذي أحرق نفسه هو من أشعل الثورة هناك، بل آخر أو آخرين مجهولين رأوه يفعل ذلك، ربما تساءلوا وقتها أيضا "هل هذا وقته؟" و"هل كان الأمر يستحق؟"، كثيرون قالوا ذلك ولم يفكروا "ما العمل" أو لم تدفعهم مشاعرهم للعمل، ولكن من تساءلوا ما العمل وثارت مشاعرهم هم من فعلوا شيئا فكانت الثورة.

كتبت أنني أرى فعل إحراق النفس مبتذلًا وأن "العمل" هو المخاطرة بالحياة مع التشبث بها، تقاسم المخاطرة ثم تقاسم الأمان أو الألم. كتب صديقي محمد يرد عليّ غاضبا من وصف أو وصم الانتحار بـ"الابتذال"، وسخر مما وصفه بـ"التشبث القططي بالحياة"، لا أذكر تعليقه كاملا، ولكني أذكر أنني ظللت أفكر فيه حتى اصطدمت به، بمحمد، صدفة في شوارع العجوزة ونحن في طريقنا مع الجموع من المهندسين إلى ميدان التحرير ظهر 28 يناير، نتقدم باتجاه المخاطرة حينا وحينا نتشبث بحياتنا وسلامتنا ونهرب من أسلحتهم.

اصطدمت به بالصدفة بالفعل وكان يرتدي كمامة وسط سحابة غاز، وعندما التقت عينانا ربّت على كتفه أو ربت هو على كتفي وواصلنا تقاسم المخاطرة. ولكن هل نتقاسم كلنا المخاطرة حقا يا سارة؟

هناك دائما من يكونون في أول الصفوف، يفتحون الطريق، يخاطرون المخاطرة الكبيرة التي تثير الغيرة والحب والإعجاب، تثير خجلنا أمام ما أصابهم، وتدفعنا وراءهم إلى المخاطرة بعد أن كنا نتشبث بأكتافهم أن يتراجعوا قليلا، شفقة عليهم من قسوة الصفوف الأولى، نحن نشفق على أنفسنا أيضا، ولكن ما العمل؟

كل يوم منذ رحيلك نكتب شيئا أو ننشر شيئا من ذكراكِ، نتقاسم معك تعبيرات الحب والتضامن، ونتقاسم أيضا الشتائم والإهانات والتهديدات التي أثقلت روحك.

هل أثقلت روحك أسئلة المحقق وأنت أسيرة وهو يشهر أمامك أخلاقًا وتديّنا ويتعمد إهانتك؟ ربما يفكر أنه يصلح من أخلاقك وتديّنك، أو أن يشعرك أن أخلاقه وتديّنه تبرر إهانتك. أي أخلاق وأي تدين يمكن أن يناقشهم محقق جالس على مكتبه يشرب الشاي أو القهوة وأمامه أسيرة مقيدة اليدين ومعصوبة العينين.

هل تعلمين أنني في وقت ما كنت أفكر مثله، ربما ليس تمامًا، ولكني كنت أريد أن تكون كلمة إيماني وأخلاقي هي العليا، وعندما أفكر ما الذي غيّر أفكاري لا أذكر أفكارًا، ولكني أذكر مشاعر واضحة: أنا لا أحتمل ما سأشعره في نفسي من خسة إن كان انتصاري الأخلاقي في مهانة آخرين. لا أنكر أني أجد لذة الانتقام فيمن كانوا أقوياء يهينون الآخرين، ولكني أتمنى ألا تكون مهانتهم إلا بالقدر الذي يشعرهم بما عاناه ضحاياهم، وأحيانا أفكر أنه من الأفضل ألا تكون هناك مهانة لأحد على الإطلاق، ولكن العالم منفلت وما من أحد يمسك ميزانه ليقيم العدل، ربما سيظل يتأرجح هكذا بدون أن يعتدل أبدًا.

مدفوعا بمشاعري تركت الصف الأقوى، على الأقل وقتها، إلى صف أظن أن انتصاره لا يستهدف مهانة أحد من أجل اختياره الأخلاقي أو من أجل ما يشعر به أو يؤمن به أو يحسه في نفسه، لا يستهدف إلا إهانة عادلة لمن ارتضوا مهانة آخرين، وكان ذلك كافيا لأن أنحاز إلى صف حتى لو يغلب على ظني أنه لن ينتصر أبدا. 

قبل رحيلك بأيام كنا منشغلين بحكاية قد تبدو طريفة وقد تبدو قاسية، عن شاب ارتضى لنفسه تعبيرات مهينة ومتشفية فيمن قُتلوا وأن يدعو حاكمهُ المفضل لقتلنا وحبسنا، ويتغنّى بمذابح هذا الحاكم ويختار منها مذبحة مفضلة لديه يُحيي ذكراها ويطلب إنتاج أعمال فنية تخلدها كملحمة. انتظرَ البعض ممن تشفى في قتل أصحابهم حتى اختاروه لمنصب فني هام، يتطلب احترام العالم ورضا حاكمه المفضل، ونشروا له ما كتبه ليثيروا اشمئزاز العالم منه، وأيضا نشروا له زلّة لسان في السخرية من حاكمه المفضل. كان محط هجوم الآلاف لأيام فاضطر إلى الاستقالة والانسحاب مؤقتًا. 

سعدتُ طبعا بما فعلوا، باستثناء أني لا أحب أن يتأذى إنسان بسبب سخرية من حاكم، وأجد في ذلك خسة، ولكن سخرية العالم كانت أنه حاكمه المفضل، وضحكت من ذلك وفكرت إن كان ما حدث عدالة ساخرة.

ذكّرني أخي محمود أننا أيضا لا نحب لإنسان يبدو في وضع ضعف أن يكون محط إهانة الآلاف، تحت سكين الخوف من الناس ومن السلطة، هذا أمر قاس ثقيل على النفس، ولكن كما قلت لكِ لا أحد يٌمسك ميزان هذا العالم ليقيم عدالة نبيلة، ونحن جميعا مهددون بنفس السكين. ولكني أحببت أخي عندما جعلني أفكر معه في ذلك، أننا لا نريد لأحد مهانة ولا نحب رؤية أنفسنا في وضع أقوى، ولو للحظة عابرة، أمام فرد ضعيف مهان حتى لو كان قبلها خسيسًا معنا ويدعو لمهانتنا، وحتى لو كنا نعيش ولا نزال يومنا في حذر وتحسس لكل خطوة لكي لا تصل إلينا المهانة.

أحيانا نفكر في السفر والهرب مضطرين، مثلما اضطررت لذلك يا سارة، لماذا لم تكوني سعيدة وأنت بعيدة عن تهديد هذا السكين؟

نحن نفكر مثلك كل يوم إن كنا سنكون سعداء لو ابتعدنا عن هنا، ولكن أيضا نفكر فيما سنفقده ونفكر في ثقل الروح بعد الهروب الاضطراري، بدلا من خِفة السفر بحرية، وفي أحضان أحبائنا التي سنفقدها، وفيما عملناه معا وسنتركه وراءنا هنا، في نصيبنا من المخاطرة الذي سيثقل نصيب آخرين بعد رحلينا، حيارى بين تقاسم ما نحن فيه بشجاعة وخوف معًا، وبين أن ينقذ كل واحد نفسه.

ربما كانت شجاعتك تلك التي جعلتك في أول الصفوف لم تحتمل الخلاص الفردي، وربما ارتاحت روحك للرحيل والراحة بعيدًا عن المهانة وتحمست لحياة جديدة في مكان جديد، لكن عذبك لاحقًا شوقك إلى أهلك رغم ما أتوقعه من غضبهم منك وربما قسوتهم عليكِ، وربما لم تطق روحك المزيد من التباعد المفروض الآن على العالم.

نحن الآن نتسلى برؤية أحباءنا من مسافات محسوبة، أو على الشاشات، نحاول أن نبتعد عن الموت، ولكننا لا نحتمل أن يكون قربنا من أحبائنا هو الثغرة التي قد يمر منها الموت. لا نحتمل أن يكون تشبثنا بالحياة هو انحسار للحب، نحاول أن نتشبث بالحياة والحب معا، هل شعرتِ أنه قد انحسر عنك الحب؟

أحيانا ننسى أحبائنا وحبنا لهم حتى تذكّرنا الحياة أو يُذكّرنا الموت. 

ربما شعرتِ أنك انزويتِ هناك منسية واشتقتِ للحظة اهتمام كما نشتاق كلنا، فنحاول أن نفعل أشياء جميلة لنتدفأ بالحب والاهتمام. هل فكرتِ في ذلك وأنت تكتبين رسالتك الأخيرة المؤسفة والجميلة؟ هل أدفأك التفكير في محبتنا وأنت تتخيلين ما سنفعله ونقوله عندما نعرف ما حدث ونحن نقرأ رسالتك؟

لا أحاول أن أتفهم قرارك  ولا أريد، ولكن أحاول أن أتقبل الأسف الهائل فيه وبسببه، وأفكر لماذا كان ضروريًا ليحدث فجأة شيئا جميلًا.

ربما لأن لأن كل جميل مُتجه إلى الزوال وكل حياة متجهة إلى الموت، ينتهي الجمال إلى الأسف، والأشياء المؤسفة تذكرنا بالحنين إلى الجمال، فتكون سببًا في أشياء جميلة.

نحن نعرف أشياء عن الحياة ولكنا لا نعرف شيئًا عن الموت، إلا أننا نحاول أن نكسب المزيد من الوقت في مواجهته. وبينما نحن نكسب المزيد من الوقت من الأجمل أن نحاول أن نجعل هذا العالم المنفلت أقل قسوة وأقل خسة، وأن نفكر فيما يجب أن نفعله من أجل ذلك. 

من المؤسف أنك لا تعلمين الآن أن الأسف الهائل الذي خلفه رحيلك قد أثار موجة من الحب والتضامن، أكبر من تلك التي كانت وقت أسرك، هذه الموجة أثارت موجة أخرى قبيحة من الكراهية والعدوان والتشفي، ولكننا الآن مندهشين أن تلك الموجة المؤسفة التي ذهبت إلى قاع قبحها قد نكأت شيئا في هذا العالم المنفلت، ربما شعر الكثيرين أننا بحاجة إلى أن نوقف الميل الفادح لميزانه ولو قليلًا، فكانت موجة أكبر تُعلي من كلمات الرحمة مقابل القسوة، نحن مندهشون من تتالي تعبيرات الرحمة من حيث لا نتوقع، أو على الأقل تتالى محاولات تخفيف تعبيرات القسوة. أمر مدهش فعلا يا سارة.

والأكثر إدهاشًا، هي الموجة الأصغر منها، ولكنها الأكثر تماسكًا، من الشجاعة والاعتداد بالحرية والكرامة والاختلاف.

رفع علم قوس قزح، على الأقل افتراضيًا، صار مخاطرة أقل، ها أنا أراه أمامي يتصدر صفحات المئات ممن لا يشاركونك الميل الجنسي ولكنهم يشاركونك الصف في مواجهة أخلاق المهانة. تلك الموجة أعادت لنا رغم التباعد ذكرى ومشاعر كوننا معا، بكل فخر واعتداد وعناد، رغم إنسداد الآفاق ورغم السكاكين المسلطة.

موجة الترحم والسلام على روحك نزلت على أرواحنا تمامًا كما نزلت زجاجات المياه والخل والكولا التي ألقاها لنا الناس من الشرفات ونحن نهرول في سحابات الغاز يوم 28 يناير بعدما كنا نتوقع أنه لا رحمة في ذلك اليوم.

أمر ومدهش وجميل، ولكن هل يستحق يا سارة مقابل حياتك؟ لن يختار أحدنا لنفسه ما اخترتِ، أو أتمنى ذلك، ولكن ما العمل؟

أنت اخترتِ وقتًا وعملًا، ربما لم يكن كلاهما مناسبًا، ولكن لا يسعنا إلا أن نكون معك، نتقاسم أسف وجمال ما حدث وسيحدث، كما فعلنا وسنفعل.

عمرو

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.