ربما يُعَد من المفارقات أن يرحل الدبلوماسي القدير والقاضي الدولي السابق نبيل العربي عن عالمنا بعد أسابيع قليلة من صدور فتوى محكمة العدل الدولية بعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية والاستيطان والتمييز العنصري، في يوليو/تموز الماضي، والذي يعتبر دون شك انتصارًا قانونيًا للشعب الفلسطيني والقوى المناصرة لحقوقه، في زمن يعز فيه انتصار الإنسانية على الجور والطغيان.
مبعث هذه المفارقة أن العمر امتد بالعربي حتى حضر صدور أقوى قرار استشاري من الجهة القضائية الدولية الأعلى، التي شغل عضويتها بين عامي 2001 و2006. وأيضًا أن القرار سار على النهج نفسه الذي كتب به رأيه المستقل في قضية عدم مشروعية إنشاء الجدار العازل، منفردًا إلى جانب قرار المحكمة الاستشاري الذي شارك في إعداده وصياغته عام 2004، للإسهاب "في بعض الجوانب التاريخية والقانونية"، وليلفت نظر المشتغلين بالقانون الدولي والدبلوماسيين المختصين إلى طبيعة ونطاق مسؤولية الأمم المتحدة تجاه القضية الفلسطينية، وأن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني يجب أن يكون مُلزمًا للكافة.
فتح العربي بالمسائل التي أثارها في رأيه المستقل قبل عشرين عامًا، بعض المسارات التي توسعت فيها الفتوى الأخيرة من محكمة العدل الدولية، فلم تقتصر على تحليل وضعية الاحتلال الإسرائيلي ووجوده غير المشروع في الأراضي الفلسطينية بصورة متصلة مستمرة وغير منقطعة، والتأكيد على ضرورة إنهائه بشكل عاجل، بل اعتنقت نهجًا صريحًا بتجريف الأسس القانونية المزعومة لاستمرار الاحتلال وتوسيع حركة الاستيطان والفصل العنصري بدعوى الأمن والانخراط في مفاوضات حل الدولتين، وأكثر من ذلك النص لأول مرة على مطالبة الدول والمنظمات بعدم الاعتراف بالسياسات الإسرائيلية غير المشروعة.
كانت نية الإسرائيليين واضحة ليس فقط بإبعاد العربي بل بإحراجه والإساءة لنزاهته
ويبدو أن العربي، الذي تولى لاحقًا وزارة الخارجية وأمانة جامعة الدول العربية، كان يستهدف من إصدار رأيه المستقل أمرين أساسيين. أولهما وضع مسألة الجدار العازل في سياقها الأوسع؛ الاحتلال غير المشروع والمطول والانتهاكات الناشئة عنه مما يساهم في تأطير القضية الفلسطينية على مستوى القانون الدولي، وهو تقريبًا نفس هدف طلب الإفتاء الذي قدمته الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى محكمة العدل الدولية في ديسمبر/كانون الثاني 2022.
أما الهدف الثاني، فهو التأكيد على أن الموضوعية والنزاهة والتجرد لا تتعارض مع نصرة حقوق الإنسان ومبادئ الشرعية الدولية. نجد العربي يكتب في مستهل رأيه المستقل "إن القاضي ملتزم -دون حاجة إلى تأكيد- بأن يكون محايدًا وموضوعيًا ومتجردًا عن كثب وغير ذي مصلحة وغير متحيز. وطوال النظر في هذه الفتوى ظللت أبذل قصارى الجهد لكي أسترشد بهذا الرأي الحكيم". كان ذلك ردًا على محاولات إسرائيل آنذاك إبعاده عن المشاركة في إصدار الحكم، بحجة ما عُرف عنه من معاداة السياسات الإسرائيلية.
استهداف إسرائيلي لقاضٍ مصري
بدأت هذه القصة في ديسمبر أيضًا، ولكن من عام 2003، حين طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة فتوى محكمة العدل الدولية بشأن مشروعية إنشاء إسرائيل للجدار العازل، فردت إسرائيل بمذكرة مطولة تثير العديد من الاعتراضات الشكلية والإجرائية، كان من بينها وجود نبيل العربي والقاضي الأردني عون الخصاونة ضمن تشكيل المحكمة، لكن المحكمة لم تعر الأمر اهتمامًا كافيًا في البداية.
لكن بعد أيام قليلة، استدعى رئيس المحكمة القاضي الصيني شي جيونج، زميله العربي، وأبلغه بورود خطاب سري من إسرائيل يدَّعي عدم صلاحيته للمشاركة في إصدار الفتوى، كونه "خصمًا للإسرائيليين" وفق ما اتُّهم، وذلك بزعم مشاركته في محادثات الحكم الذاتي للفلسطينيين، خلافًا للحقيقة، ودفاعه عن حقوق الشعب الفلسطيني "وكأنه محاميهم". مع إيراد عبارات ومواقف صدرت منه وهو سفير مصر لدى الأمم المتحدة، رغم عدم قانونية مؤاخذة الدبلوماسي على مواقف وأفعال صدرت منه بصفته الرسمية.
كانت نية الإسرائيليين واضحة ليس فقط بإبعاد العربي بل بإحراجه والإساءة لنزاهته. وعندما قرر رئيس المحكمة عرض الخطاب على المحكمة بكامل تشكيلها للبت في مدى استمراره في القضية، راودت العربي أفكار بالاستقالة، لأن ذلك كان في رأيه أقل وطأة من نجاح إسرائيل في استبعاده.
ومن حسن الحظ أن غضب العربي وتوتره، كما يقول في مذكراته طابا- كامب ديفيد- الجدار العازل، لم يدوما كثيرًا، حيث اجتمعت المحكمة في نهاية يناير/كانون الثاني 2004 وقررت بأغلبية ساحقة استمراره، في تأكيدٍ من زملائه على صلاحيته التامة للمشاركة في إصدار الفتوى، ونفيٍ منهم للاتهامات الإسرائيلية الخبيثة.
أكبر من جدار.. أوضح من مفاوضات
فشل الإرهاب الإسرائيلي في أن يثني نبيل العربي عن المشاركة في إصدار الفتوى، ثم إعلان رأيه المستقل الذي حاول أن يبرز السياق الأوسع للقضية وتكريس دور فعال للقضاء الدولي فيها، حيث "ظلت قضية فلسطين تهيمن على أعمال الأمم المتحدة منذ قيامها دون أن يطلب أي جهاز إلى محكمة العدل الدولية أن توضح الجوانب القانونية المعقدة للمسائل الداخلة في اختصاصها... وحتى عندما كانت القرارات تصدر فإن إرادة متابعة تنفيذها سرعان ما كانت تذهب أدراج الرياح".
تتكامل الفتوى الأخيرة لمحكمة العدل الدولية مع رؤية العربي التي طرحها في رأيه المستقل قبل 20 عامًا
ركز العربي في رأيه المستقل على استعراض الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية على ضوء اتفاقيات الشرعية الدولية وقراراتها، منتهيًا إلى أن الأممَ المتحدة ملتزمةٌ بمتابعة إنشاء دولة فلسطينية ولا يجب أن تنتهي مسؤولية جمعيتها العامة إزاء الشعب الفلسطيني إلا بعد تحقيق هذا الهدف، فضلًا عن أن ضمانَ حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره التزامٌ على الكافة بغير استثناء.
هذا الرأي نجد أصداءه اليوم، بعد عشرين عامًا، في فتوى المحكمة الأخيرة التي خطَّت فيها بعبارات واضحة أنها "لا تفصل في نزاع ثنائي يخص طرفيه فقط"، وأنها تطالب "جميع الدول والمنظمات الدولية بعدم الاعتراف بالوجود الإسرائيلي غير المشروع في الأراضي الفلسطينية وآثاره، وبعدم تقديم الدعم له، وبوجوب عمل الجمعية العامة ومجلس الأمن في مسارات سريعة لإنهاء الاحتلال في أقرب وقت ممكن".
وتمنى العربي في رأيه المستقل أن ينص منطوق فتوى الجدار العازل على حظر ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالنظر إلى تصريحات رسمية إسرائيلية واضحة تزامنت مع وضع خطة فك الارتباط المقدمة إلى الولايات المتحدة في ربيع 2004، مشيرًا إلى ما يمثله ذلك من خطر داهم على التعهدات التعاقدية الملزمة قانونًا لإسرائيل.
وبعد عشرين عامًا، نجد أن الفتوى الأخيرة وسعت هذه الرؤية وطورتها لتدين صراحة الاستيطان وتغيير التركيبة السكانية وسرقة الموارد الطبيعية ومنع السكان الأصليين من استخدامها، وغيرها من ممارسات تعكس في جوهرها التصعيد الإسرائيلي المستمر لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، تجلى التعبير السياسي الصريح عنها في تبشير رئيس حكومة الإبادة الجماعية بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة، قُبيل طوفان الأقصى، بخارطة جديدة للشرق الأوسط.
رفض المعالجات المبتسرة
اهتم العربي في رأيه المستقل بتفنيد الروايات الإسرائيلية والغربية التي تتجه إلى فصل رد فعل المقاومة الفلسطينية عن مآسي الاحتلال والتذرع بذلك كسبب للفصل العنصري والحصار وإقامة الجدار وراء الجدار، فكتب "لا يمكن التذرع بأن الاحتلال يواجه مقاومة مسلحة تبريرًا لتجاهل حقوق الإنسان الأساسية في الأرض المحتلة. وفي حوليات التاريخ كلها كان الاحتلال يواجَه دائمًا بمقاومة مسلحة. فالعنف يولد العنف، وهذه الحلقة المفرغة إنما تلقي بظلالها الكثيفة على كل فعل وكل رد فعل سواء من جانب القائم بالاحتلال أو الواقع تحت الاحتلال" منتهيًا إلى أن ما يرتكبه الجانبان من مخالفات للقواعد الأساسية للقانون الدولي مرجعه "عدم مشروعية نظام الاحتلال الإسرائيلي ذاته".
واختتم العربي رأيه المستقل داعيًا إلى التأمل في مسار المستقبل برؤية دولية مختلفة للقضية الفلسطينية، مفادها أن تكون قراراتُ الشرعية الدولية مُلزِمةً بذاتها، كغايةٍ إنسانيةٍ لا لتكون وسيلة ضغط على الطرفين، أو طرف وحيد، للدخول في عملية تفاوضية.
وتتكامل هذه الرؤية مع اتجاه الفتوى الأخيرة التي رفضت اتهامات إسرائيل وأمريكا ودول أخرى للمحكمة، بوضع عراقيل أمام محاولات الحل السياسي للقضية الفلسطينية، مؤكدةً أن العدالة وحدها يجب أن تكون حجر الزاوية في المفاوضات والشواغل الأمنية والسياسية، ولا يمكن أن تمثل العدالة عائقًا أمام حل الدولتين أو المفاوضات المأزومة بشكل مستمر.
في مذكراته لم ينفِ العربي عن نفسه الانحياز لحقوق الشعب الفلسطيني وموقفه المبدئي من الاحتلال الإسرائيلي، مستدركًا "لأن شبهة التحيز، بل التحيز نفسه قائم لو كان الأمر يتعلق بسياسات إسرائيل بصفة مجردة، وربما كنت أنسحب من المشاركة من تلقاء نفسي".
لكن البراعة المهنية والثقة في النفس والإيمان بأهمية ولاية القضاء، جميعها عوامل دفعت العربي إلى الإصرار على المشاركة "لأن المعروض على المحكمة كان مدى اتفاق أو مخالفة الإجراءات الإسرائيلية لالتزاماتها النابعة من اتفاقيات دولية قائمة وملزمة".
وبنجاحه في تحقيق هذا التوازن الدقيق والحاسم؛ ضرب العربي برأيه المستقل وبتعامله المهني مع القضية نموذجًا يجب أن يحتذي به كل صاحب قضية تضعه الظروف في تحدٍّ صعب كهذا، بين الضمير والانتماء من جهة، وشروط الولاية القضائية والتحكيمية من جهة أخرى، في عالم يزدحم بالمؤامرات والتحريض وادعاءات معاداة السامية وغيرها من أدوات الضغط التي طالما أجبرت الكثيرين على الاستسلام بالصمت أو التنحي.