المرة الأولى التي قابلت فيها علاء عبد الفتاح ليست مهمة، ولا داعي لذكرها. كنت عرفته عبر قراءة ما ينشره على مدونته، التي كان يحررها ويديرها مع زوجته، وقتها، منال. هو أيضًا عرفني عبر مدونتي وما كنت أنشره عليها تحت اسم مستعار. ثم كان اللقاء حين اكتشفنا أن كلانا يسكن فيصل، وعلى بعد عشر دقائق مشي من الآخر. لكن الذكرى التي أستعيدها كلما مر اسمه أمامي تعود إلى ليلة رأس السنة عام 2006.
في تلك الليلة، دعيت إلى حفل في منزل الصديقين أحمد وعمرو غربية. سهرنا حتى الصباح في رقص وشرب وغناء، نقاشات تبدأ من موسيقي الجاز وحتى موضوع علاء الأثير وقتها "المجتمع المفتوح وكارل بوبر". كل ذلك يحدث بينما تحيطنا أجهزة الكمبيوتر المفتوحة، ومنا من يكتب، وآخر يترجم، وثالث يبرمج الكود، وعلاء يحاول إقناع الحاضرين بضرورة حذف نظام تشغيل ويندوز واستبدال نظام أوبنتو مفتوح المصدر به.
كانت رسالته دائمًا، نزع السياسة من احتكار السياسيين، وجعلها ممارسة يومية بين الناس
وفي نهاية السهرة التي امتدت حتى الصباح استلقينا نائمين كيفما اتفق في أرجاء المنزل. على الأرض، نمت تحت تمثال نحته الفنان حسام غربية، والد أحمد وعمرو، وبجواري علاء.
كنا مجموعة من المدونين، كتّاب، مبرمجين، طلبة جامعة، أطباء...؛ شخصيات من خلفيات وطبقات متنوعة جمعها السخط على الأوضاع السياسية والاجتماعية، وإيمانها بحرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، وقدرتها على استخدام الإنترنت. بعض منا كان يدعم البرمجيات الحرة، مفتوحة المصدر، ويسعى لنشرها في مصر. وكلنا يجمعنا السعي لخلق معنى لحياتنا.
جاين لوميل مثلًا كانت طالبة في كلية الطب حين تعرفت عليها عبر دوائر المدونين. إلى جانب دراستها، أسست مبادرة لمتابعة عملية تقديم الخدمات الصحية وحقوق المرضى.
رأت جاين أثناء دراستها الانتهاك اليومي لحقوق المرضي في مصر، بداية من إفشاء معلوماتهم وتاريخهم المرضي، وحتى السخرية من آلام النساء وإجبارهن على الولادة القيصرية. كانت جاين أول من حدثني عن حقوق المرضى، أنا الذي ولدت في عائلة أغلبها من الأطباء وطفولتي قضيت جزء منها ألهو في ممرات المستشفيات في انتظار إنهاء والدي لعمله.
كذلك كنت أعيش حياة مزدوجة؛ في الصباح، أعمل كصحفي تحت التمرين في أخبار الأدب، أحرر أخبار وتقارير تمدح في سياسات السيد الرئيس والمجهودات الثقافية والتعليمية للسيدة الأولى، وفي المساء أجلس مع علاء في بيته نخطط لتصميم موقع يحاكي الموقع الرسمي للسيد الرئيس، لكن المواد المنشورة عليه ساخرة وهزلية. في حركة خطرة ليس لها هدف سياسي سوى كسر هيبة السلطة والسخرية منها.
كنت أتعلم وأتأثر بتلك الدوائر. تشكلت شخصيتي من صحبة علاء.
كنت أنشرُ في مدونتي باسم مستعار؛ إبليس. كان أغلبنا يستخدم أسماءً مستعارة لنخفي شخصيتنا. وكان علاء سيف، من بين قليلين، ينشرون بأسمائهم الحقيقية وصورهم الشخصية، وعلاوة على ذلك كان الوحيد الذي ينشر صورًا لأسرته. كانت لديه شجاعة ووضوح في التعبير عن النفس يظنها البعض "بجاحة"، لأنهم اعتادوا حياة الجحور وسط عرسات المدينة.
في الشهور التي تلت يناير 2011، فُتحت له الأبواب. تعددت الاتصالات واللقاءات مع عصام شرف رئيس الوزراء، وعلاء نفسه رحب بشرف رئيسًا للوزراء. علاء أيضًا في استفتاء مارس 2011 كان لديه موقف مؤيد للتعديلات الدستورية، والتصويت بنعم عليها. وهي كلها مواقف وإشارات، سرّعت من محاولات دمجه في "كيكة الثورة الوهمية".
في ذلك الوقت، كان المجلس العسكري والمسؤولون الحكوميون يدعون الشباب من النشطاء على الأرض، أو من هم في ائتلاف شباب الثورة، إلى اجتماعات طويلة في مقرات الجيش، تُقدّم فيها مشويات اللحوم والجمبري والمشروبات الساخنة.
أدرك علاء الفخ المنصوب له، فانسحب واعتذر عن معظم تلك الاجتماعات
اشتبك علاء مع تلك الماكينة، كان يقدم ترشيحات للوزراء، ويذهب لاجتماعات مع عصام شرف في مقر مجلس الوزراء. لكن بدلة وربطة عنق السياسي لم تناسباه، كان يهرب منهما. ووجده السياسيون المعتادون على المداهنة مُنفّرًا. استاءوا من لغته وأسلوبه الحاد، الذي سيجعله لاحقًا يرفض مصافحة القتلة أو تحية ممثل السلطة، بينما قوات أمنها تقتل المتظاهرين وتلقي بجثثهم في سلة النفايات أو تدهس أجسادهم تحت الدبابات والمدرعات.
أدرك علاء تلك الكماشة والفخ المنصوب له، فانسحب واعتذر عن معظم تلك الاجتماعات. مع نهاية 2011 ركز جهوده على دوره كمحفز ومنشط، داعم للمبادرات التي تحاول دمج الناس في بنيان العمل السياسي، فاتجه للبرمجة، وأسس بعد ذلك شركته التي عملت لسنوات في مجال صناعة البرمجيات.
ولأن السياسي يمكن دمجه مع جماعة، وإلزامه بالتزامات حزبه أو جماعته، ولأن السياسي يحقق طموحه بنجاحه الانتخابي أو تقلده لمنصب إداري، بجلوسه على يمين الحاكم مستشارًا ومستفيدًا؛ رأى علاء نفسه مبرمجًا مهتمًا بالتكنولوجيا. أما السياسة، فمشاركته فيها تأتي كمواطن يؤمن بالتعاضد والتكاتف مع الآخرين. كانت رسالته دائمًا، نزع السياسة من احتكار السياسيين، وجعلها ممارسة يومية بين الناس.
الموسيقى لا السياسة
لكني عرفت علاء وأحببته ليس بسبب السياسة، وإنما بسبب الموسيقى. كان الوحيد في مصر، عام 2006، الذي يمتلك الألبومات الكاملة لفريق الصابون يقتل، لياسمين وزيد حمدان. ونظرًا لجيرتنا، تكررت زياراتي أحيانًا لتناول الطعام، أو الشرب مجانًا، وغالبًا لمشاهدة الأفلام واستعارة الكتب.
قدمني علاء لعالم الكوميكس، وعرفني على أعمال آلان مور/Alan Moore، ونيل جايمان/Neil Gaiman، وحجازي، وبهجت عثمان، وغيرهم من فناني وكتاب الكوميكس المحليين والعالميين. وبعدها سوف ينمو شغفي بكتابة الكوميكس، وستتوج محاولاتي بدمجه مع السرد القصصي في روايتي استخدام الحياة، التي ستقودني إلى السجن في ذات الزنزانة معه لتكتمل الدائرة.
أما في ليلة رأس السنة 2006، كنت أنا وعلاء نصر على تشغيل مزيكا عربي وأغاني عدوية، في مقابل انحياز الغالبية لموسيقي الروك والجاز طوال الليلة. وأثناء رقصنا، وصلت نورا يونس لتخبرنا بتفاصيل مذبحة اللاجئين السودانيين في ميدان لبنان.
في ذلك الزمن، وقبل ظهور الفاشيست أبناء كيميت، كانت مصر تستقبل أعدادًا كبيرة من اللاجئين من السودان والكثير من الدول الإفريقية. كان معظمهم يصل إليها كبلد عبور لا لجوء، حتى تتدبر مفوضية شؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، بلدًا آخر لهم.
وفي نهاية عام 2005 اعترض مجموعة من اللاجئين على تأخر استجابة المفوضية لطلباتهم، فاعتصموا في حديقة ميدان مصطفى محمود، أمام مبنى مفوضية اللاجئين. ولكن سكان حي المهندسين الراقي، الذي كان يقطنه وزير الداخلية وقتها، أبدوا اعتراضهم على اعتصام اللاجئين، فطلبوا تدخل الشرطة التي لم تكن تنتظر سوى إشارة بعدم الممانعة من المفوضية.
كان لمذبحة اللاجئين السودانيين وما تلاها وقع كبير على تشكيل شخصيتي، وكأنها كانت بروفة لما سيأتي بعد ذلك
قبل ليلة رأس السنة، فضّت الشرطة المصرية اعتصام اللاجئين بالقوة، وقتلت أكثر من 20 واحدًا منهم، بينهم نساء وأطفال. رئيس مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، ظهر في اليوم التالي معبرًا عن "أسفه لما حدث". أما الإعلام المصري، فلم يهتم حتى بتغطية ما جرى أو نشر أسماء الضحايا، بل وصفهم بـ "المجرمين ومدمني المخدرات". فقط بين كل المدونات، كتبت نورا يونس شهادتها، وكتب مدونين واصفين ما حدث بالمذبحة.
كان لمذبحة السودانيين وما تلاها وقع كبير على تشكيل شخصيتي، وكأنها كانت بروفة لما سيأتي بعد ذلك. رأيت كيف يمكن لماكينة الأمن المصرية أن تتصرف كيفما تريد، وأنه لا شيء محمي أو مقدس في ذلك البلد. حيوات ودماء النساء والأطفال يمكن سفحها في ميدان عام ولن يهتم أحد، بل أن العابرين سيشاركون في الذبح أو التستر على السفاحين.
أما الإعلام، فسينظر بسهولة للجانب الآخر، ليس فقط بسبب الرقابة أو ضغوط السلطة، بل لأن بنية الصحافة والإعلام في مصر فطرتها عشق الاستبداد، والصحفيون المصريون أنفسهم يتأرجح وعيهم السياسي بين القومية والفاشية، عاجزين عن رؤية ذاتهم أو العالم خارج ذلك الإطار. وما حدث في 2006 من قتل للاجئين سيتكرر بكل تفاصيله مع كل مذبحة في مصر.
أخبار المذبحة، كما روتها لنا نورا، مع أجواء التضامن من علاء والحاضرين في تلك الصحبة، خلقت شيئًا جديدًا في قلبي تلك الليلة، ضوء جعلني أبصر الحياة التي أريدها، حياة ممتلئة بالموسيقى، بالكتب، بالرقص، بالحب وونس الأصدقاء، بالتضامن مع الأضعف، بالحلم بالأمل وإن تعذّر وجوده، بالعدمية الإيجابية.
أيقنت أن مصر ليست كما يصبغونها في الكتب المدرسية والأوبريتات الوطنية. علمت أن المذابح حدثت، وستحدث، وأن الحياة ليست نزهة في الحديقة لشراء جوارب نايلون، والعدل ليس قانون كوني، بل مفهوم نحن من نخلقه ونعيد تعريفه ونسعى لتحقيقه. وأن السعي أبدي، وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى.
ظهور "التنين البمبي"
كتب المدونون عن الصراعات الطائفية واستهداف المسيحيين وحقوقهم المهدرة، انتقدوا مبارك بالاسم وسخروا من سلطانه، كتبوا عن التحرش الجنسي بالنساء، وعن الصوت المخفي للمثليين. صمم علاء موقعًا عرف أولًا بـ"جردل علاء ومنال"، ثم باسم مجمع المدونات المصرية، كان يتم تحديثه كل خمس دقائق بكل ما ينشر على المدونات المصرية، وعبره عُرف علاء بألقابه، وأشهرها "التنين البمبي"، و"الأب الروحي للمدونات".
في مايو/أيار 2006، انضم علاء للمظاهرات الداعمة لمطالبات القضاة بمزيد من الاستقلالية عن السلطة السياسية والتنفيذية. كنت مختلفًا مع علاء في ذلك الموقف، ورأيت أنهم فئة متسلطة وجزء من بنية السلطة، ولا يوجد سبب يجعلني أقف في صفهم. وكنت في المنصورة في زيارة عائلية حين قرأت الأخبار على مجمع المدونات المصرية. ألقت الشرطة القبض على علاء وعدد من المتظاهرين.
ما الذي نقوله حين يبتلع السجن أحدهم؟
لم أشعر بالفزع، بل بصقيع جمَّد قلبي وعقلي. كانت تلك أول مرة يبتلع فيها السجن عزيزًا على قلبي، ولم يتجاوز عمري الـ21. لا أزال أذكر تلجلجي حين هاتفت منال، وحيرتي في البحث عن جملة مناسبة. هناك عبارات روتينية نقولها عند المرض، عند الموت، عند الولادة، عند التهنئة بالزواج، وأعياد الميلاد، ورأس السنة، لكن ما الذي نقوله حين يبتلع السجن أحدهم؟
سجن علاء لمدة 45 يومًا، خرج منها اسمًا تجاوزت شهرته عالم المدونات إلى عالم السياسية. إجادته للغة الإنجليزية وسنه الصغير وقتها فتح شهية الإعلام الأمريكي والأوروبي على إجراء الحوارات معه. لكن كان نظام مبارك يمتلك سياسة النفس الطويل في المناورات السياسية التي تنتهي بتفطيس أي نشاط سياسي.
وكان مناخ الأعمال وصناعة التكنولوجيا في مصر أيضًا بدائيًا جدًا وقتها. ووجد علاء فرص عمل أفضل فانتقل مع منال إلى جنوب إفريقيا، حيث عاشا هناك حتى اندلعت ثورة 25 يناير، وصل علاء على أول طائرة متاحه وكان في الميدان يوم موقعة الجمل.
تباعدت بيننا الطرق، غادر كلانا شارع فيصل. قادنا المناخ السياسي العاصف بالتغييرات والتحالفات والانحيازات في مصر ما بعد 25 يناير، إلى مسارين مختلفين، وإن ظلت المحبة والذكريات المشتركة. دعم علاء أحيانًا أحزابًا ومبادرات سياسية كنت معارضًا لها، مثل استفتاء التعديل الدستوري مارس 2011، فتحللت روابط التواصل بيننا مع الوقت، وإن ظل الاحترام متبادلًا.
حين دخلت السجن في فبراير/شباط 2016، كان أول ما أخبرني به الزملاء المساجين أن علاء في الزنزانة المجاورة، وفي اليوم التالي تسلل زميل مسجون إلى زنزانتي، ومنحني حقيبة فيها بعض الملابس، وكتابين. قال لي "من علاء". حاولت بعدها، أثناء ساعة التريض، الذهاب لباب زنزانته المغلق لإلقاء السلام، لكن ما إن وقفت أمامه، حتى هرول الحراس تجاهي وهم يصيحون "ممنوع، أنت بتعمل إيه هنا، التعليمات ممنوع أنت وعلاء تتكلموا".
ظل ذلك الحظر على حديثنا وتواصلنا لأكثر من خمسة أشهر، كنت أحيانًا ألتقيه في غرفة الزيارة، أو في الممرات، نبتسم ونتحدث حتى يفرقنا الحراس. ثم فجأة دون تفسير، نقلوني من زنزاتي إلى زنزانته، بل وجعلوا سريري مجاورًا له.
بعد عشر سنوات من حفلة رأس السنة في 2006، عدنا للنوم متجاورين، أما ما دار بين النومتين، ففي المقال المقبل.