ليس هذا هو الدافع الذي أردته حافزًا للكتابة عنك يا جاين، ولا كان أحد الأشياء التي خططنا للتعاون فيها والتدوين عنها معًا.
استيقظت صباح الخميس 13 أكتوبر/ تشرين الأول لأغرق في العمل، محاولًا إنجاز التسليمات العاجلة، وهو حاجز واحد من عدة، حالت منذ أغسطس/ آب دون لقاءاتنا، والاستمتاع بصحبتك والمساهمة في دعمك ومؤانستك، حتى التواصل تليفونيًا تعذر في الأسبوعين الأخيرين، على أمل اللقاء كما وعدتني بحماس لنذهب إلى حديقة اكتشفتيها. الخروج من البيت أصبح حدثًا نادرًا منذ عودتك من ميانمار إلى القاهرة مع رفيق العمر يسري خليل بعد انقلاب فبراير /شباط 2021. لكن صباح ذاك الخميس جاءت الرسالة، ودارت المكالمات.
أزحت كل العمل جانبًا لأن المهمة العاجلة التي طرأت من حيث لا ندري فرضت أولويتها القصوى. فليعاونني المسيح الذي آمنتِ به يا جاين إيمانًا من نوع خاص، يصعب على المؤمنين فهمه، ولكن ليعاونني الشيطان أيضًا، وأنا أكتب ما لم أرغب أبدًا في كتابته، لكنني لا أحتمل ألا يكتبه أحدنا على الأقل. ولتعاوننا كل قوة في هذا العالم كي نبقى فيه من دونك كما كنت تحبين لنا أن نكون.
جاين لوميل (1976 - 2022)
هذه بحسب علمي آخر سيرة ذاتية موجزة كتبتها جاين عن نفسها:
[جاين لوميل، المعروفة أيضًا باسمها البورمي: كِن كِن، كانت واحدةً من المدونين المصريين في بدايات الحركة المناهضة لنظام مبارك. تناولت مدوناتها طائفةً متنوعةً من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، وعلى الأخص اللا مساواة الجندرية. وبعد إتمامها دراسة الطب، نشطت كمدافعة عن حقوق المرضى. كما ساهمت بالكتابة في موقع تِرْسُو، المجلة السينمائية الإلكترونية العربية. بعد انتقالها إلى ميانمار شاركت في تعليم المجتمعات المحرومة. وهي تنتمي إلى شبكة من المغتربين تدعم الحركة السلمية من داخل البلاد ومن خارجها بطرق متنوعة.]
من أجل الكرامة
جاين لوميل، التي كثيرًا ما سُئلنا عن جنسيتها، إذ يظن السامع أنها أجنبية، ولدت في القاهرة لكنها قضت وقتًا طويلًا من طفولتها في أسيوط. وقضت معظم حياتها الباقية، باستثناء فترات السفر خارج مصر وفترة من إقامتها في جبل المقطم، في أرض الجولف بحي مصر الجديدة. عمل أبوها، الذي رحل في 2018، بالتربية والتعليم، وأمها جيولوجية متقاعدة.
ظل توقيع جاين على إيميلاتها حتى النهاية مذيلا بـ Voices For Dignity أو أصوات من أجل الكرامة. ولنفهم معنى ذلك التوقيع يقول محمد يحيى الذي شهد على التجربة "كانت عايزة تأسس منظمة أهلية لمتابعة الخدمات الصحية وحقوق متلقي الخدمة، بس جه 30 يونيو والدنيا اتقلبت". شاركتها صديقتها وزميلتها ماريا (شيللو) تلك التجربة، وقالت لي جاين إن شيللو كانت تقوم أيضًا بدور المسيطر عندما تخاطر جاين أبعد من اللازم أو توشك على تجاوز الخطوط الحمراء، وأولًا وأخيرًا عندما لا ترأف بنفسها، كعادتها من حيث الانفعال والتفكير وتوزيع الطاقة.
زاملتُ جاين كواحد من مجتمع المدونين الذين تشير إليهم، وقابلتها للمرة الأولى على سلالم نقابة الصحافيين في 2005 خلال وقفة احتجاجية على اعتداءات جنسية، وقعت هناك قبلها بأيام ضد الناشطات والصحفيات المعارضات. كثيرون ممن عرفوها لديهم قصص عن وقفاتها ومشاركاتها وجهودها في المتابعة والتوثيق والمقاومة في لحظات ومواقع شتى قبل ذلك التاريخ وبعده. ونشاطها بالكتابة والفعل والتحركات في مجال الحقوق الجندرية والصحية هو واحد فقط من تلك الخطوط الممتدة في حياة جاين.
ربما يعفينا رحيلها من الاستمرار في الحفاظ على تفصيلة محددة من خصوصيتها: لقد دونت باسم مستعار هو سؤراطة، في مدونة باسم عالقهوة، وكذلك باسم زبيدة، في مدونة الحرملك، وهو الاسم الذي نشرت به أيضًا في مجلة البوصلة.
لكنها، وبعد سنوات من مقالها الطويل عن أفلام صلاح أبو سيف، وعمود في الحب ثقافة، نشرت مؤخرًا للمرة الثالثة باسمها في مجلة مرايا عن ما تعايشه في ميانمار بعد الانقلاب. وكانت تنوي أن تواصل الكتابة من هناك، لتعرِّف قرّاء العربية على تاريخ ما يحدث وآفاقه ومغزاه.
في ربيع العام نفسه، وبعد عودتها الاضطرارية إلى مصر في 2021، أشركتني جاين في متابعتها مهرجانًا لأفلام بورما على الإنترنت. ورغم أن ذلك تخصصي لم أقوَ إلا على مشاهدة القليل، أما هي فتمكنت من مشاهدة وتحليل الواحد وأربعين فيلمًا كلها، وكتبت عنها مسودة غير كاملة بالانجليزية من 3373 كلمة بعنوان "أولًا كان هناك ضوء: أفكار حول مهرجان أفلام الربيع لجمع المساهمات من أجل بورما".
لكنها بالرغم من طرقها الأبواب، وهي الخجولة وذات الطاقة المحدودة جدًا في تلك النواحي، عجزت عن أن تجد ناشرًا. وعدتها أن أحرره بنفسي وأترجمه وأبحث له عن ناشر.
أكثر من حياة
كانت تيمةً في الحديث مع جاين، وعنها، أن نشير إلى الحياة الأولى والثانية والثالثة لجاين لوميل. وهي حيوات متعاقبة ومتوازية. من بين آخر ما قالته لي إنها تعلم جيدًا أنها لو لم تتعرض منذ الصف الرابع الابتدائي لصداع شديد مزمن متنوع الأشكال لكانت أنجزت أشياءً كثيرةً مهمةً. في الشهور الأخيرة عانت مما شخَّصتُه بنفسها "صداعًا عنقوديًا" وكان بحسب وصفها بشعًا.
وجاين التي كانت تقف في المواجهات والشدائد مع غيرها، وأمام الأقوياء والمتجبرين، وقوفًا لا يوحي إلا بامرأة خارقة، كانت تعود من كل مآثرها وجهادها في الذود عن الآخرين وحمايتهم لتنهار وتعالج إرهاقها المزمن، فتلجأ إلى فراشها وبيتها بالأيام، بل والأسابيع والشهور، وتختفي عن الأسماع والأنظار دون طلب مساعدة.
اجتمعت عليها تنويعة من الحساسيات والهشاشات المركبة، والأحوال الغريبة جسديًا ونفسيًا. كانت كتلة عارية من الإحساس ومن ثَمَّ فالغريب حقًا هو كيف استطاعت تحمل كل آلام هذا العالم الذي كانت تحيا فيه بكل جوارحها كإنسانة تنتمي إلى أهله وكائناته وكل بقعة فيه وكل نضال.
عندما قرَّرت منذ شهور أن ترحم كلبتها الطاعنة في السن من آلامها ومشاكلها المتفاقمة، فعلت بكل دقة وحب كل ما يمكن ألا يجعل "راستي" تعاني وهي تموت، دون أن تبخل بشيء مما يوفره البيطريون في حالات كتلك. ثم قضت شهرين في حزن هائل لا تقوى على الاقتراب من المنطقة التي كانت راستي تأكل وتشرب وتتحرك فيها.
ومع ذلك فما أصبحته جاين رغم كل هذه الصعاب مذهل: عملت مضيفة طيران، وناشطة وباحثة في منظمات العفو الدولية، والنديم لمناهضة العنف والتعذيب، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومترجمة أفلام، ولها خبرة طويلة في الأنشطة الكشفية الكنسية حاولت خلالها تطوير بعض تقاليدها. ونحن في كنيسة مريم العذراء بأرض الجولف، قالت نرمين نزار "أنا جيت الكنيسة دي معاها، هي اللي جابتني هنا سنة 1994 عشان أعرض أفلام".
عاشت جاين هذا العام مع كارثة لم تغادر كيانها: كيف تتعامل مع قلقها الفظيع من أن تتلقى عن علاء خبرًا أسوأ لا تدري كيف يمكن أن يكون الحال بعده؟
كانت تتحدث إنجليزيةً مَلكيةً، وتتنقل بسهولة مثيرة بين اللهجتين البريطانية والأمريكية، أما غزارة معرفتها الطبية والعلمية واللغوية والثقافية والعامة، وإلمامها بفيض من الخبرات والمعارف والملاحظات والرؤى التي كونتها من كل ذلك، فهي أمور شديدة الإبهار.
بموت كل إنسان تنتهي احتمالات يصعب إحصاؤها، أما بموت شخص مثل جاين فمن المستحيل أن نبدأ التفكير في إحصاء خسائرنا. مشكلة هذا المجتمع وهذا العالم تتضح تمامًا عندما نواجه حقيقة أنه لم يسمح ولم يرغب في أن يصل إلى الناس شيء يُذكر من قدرات ومهارات جاين ورغباتها في العطاء والمساهمة في جعلنا نعيش حياةً ممكنةً أفضل.
ومن عبث الأقدار وقسوة وجنون العالم أنها هربت من مكان الآمال الجماعية المحطمة في مصر لتعيش مع رفيق حياتها في مكان أجمل، ميانمار، الذي كان بدأ يخرج من نكبته الطويلة ليشم الحرية، فقط لينقضَّ العسكر في ذلك المكان أيضًا على آمال الشعب. تشهد جاين مرة أخرى على القتل والمقاومة، ولكن هذه المرة من شرفة شقتها في العاصمة يانجون، حيث كانت تؤسس لحياة سعيدة وتعلم الأطفال المعاد تأهيلهم بعد استغلالهم كجنود في ميليشيات، بل وتتعلم المونتاج وصنع الأفلام.
في حياة واحدة فقط من حيوات جاين الكثيرة المحتملة كان يمكنها إتحاف الناس بما لديها عن السينما المصرية والثقافة والميديا الأمريكية والدراما والكوميديا والإذاعة البريطانية. في كل مرة كنت أستمع إليها مع يسري وهي تشرح لنا باستفاضة، ما تراه ولا نراه، في حلقة ما أو خط درامي معين في مسلسلها المصري المفضل سابع جار، كنا نصرخ مجددين مطالبتنا بأن تبدأ في تسجيل بودكاست، وهو واحد من المشاريع الكثيرة التي تحمست لها مؤخرًا. كما كانت ستجني الكثير لو قررت التربح من متابعتها عن كثب للسياسة الغربية.
في منتصف عشرينياتها، قررت جاين دراسة الطب، وتخرجت بعد سنوات من الانتظام المتقطع. وفي هذا العام فقط، عام رحيلها، استأنفت دراستها للحصول على الماجستير. كانت تلك علامة واحدة فقط مما بشّرنا بأنها صامدة ومستمرة وستنهض وتفعل ما تريده، بعد كل الكوارث المتلاحقة عبر السنوات.
في سنوات دراستها الجامعية الأولى تعرضت جاين في الأوتوبيس إلى واقعة عنيفة ضمن ما تتعرض له نساء مصر كل يوم، جعلت من الصعب عليها ركوب المواصلات، وليس من المستبعد أن ذلك هو ما تطور في السنوات الأخيرة إلى عدم احتمالها النزول إلى شوارع القاهرة، على الأخص بعد 2013.
ومنذ تفشي الجائحة وهي تعاني على كل المستويات، كمقدمة رعاية، وكمصابة لم تخرج أبدًا من مرحلة الكوفيد الطويلة وأهون أعراضه ضبابية الدماغ، وكمواطنة، وطبيبة غير ممارِسة في جو من الفوضى والجهل والإهمال أشفقنا عليها من الهوة الرهيبة بينه وبين معاييرها الجادة والمسؤولة ومنطقها الذي لا يصح فيه إلا الصحيح.
وسط كل ذلك، أعارتني في زيارتي الأخيرة نسخة من كتاب صديقها المعتقل والمضرب عن الطعام علاء عبد الفتاح، عاشت هذا العام مع كارثة مقيمة لم تغادر كيانها وهي تسألنا: كيف تتعامل مع قلقها الفظيع من أن تتلقى عنه خبرًا أسوأ لا تدري كيف يمكن أن يكون الحال بعده؟
- آخر تغريدة للوميل قبل رحيلها بيومين
فلنجمعها معًا
بالرغم من كل ما نعرفه عن إنسان، علينا عندما يرحل أحدنا أن نتذكر حقيقةً مهمةً: أننا في المقابل لا نعرف الكثير جدًا عنه. كل ما نجمعه من بعضنا البعض اليوم هو قطع من صورة جاين، صور جاين، ومن كل ما عاشته ومثَّلته. نحن لا نعلم مثلًا كيف مرت عليها ذكرى مذبحة ماسبيرو هذا العام قبل ساعات من وفاتها، وقد حفرت في قلبها ما حفرته من ألم.
عزاؤنا يا جاين أننا عرفناكِ، اقتربنا منك، وأنكِ استرحتِ، وأنكِ في سلام في مكان أفضل إنارة، وأن حيواتك الكثيرة ستتواصل، وأن الحوار بيننا لن ينقطع، وأنكِ اليوم ونحن نشيعك أخذتينا إلى أماكن في القاهرة لم يرها بعضنا من قبل، جعلتينا نلتقي ونتواصل وبعضنا صار لا يرى الآخر أو يسمع منه أو لا يعرفه، وعزاؤنا أننا ولو في غرف مغلقة بعيدة داخلنا نظل نهتف، وربما أيضًا في قبورنا سنظل نهتف: يسقط! يسقط!
*كتب هذا النعي: محمد كلفت، أو حموكشا كما كانت تحب جاين أن تدعوه، بالنيابة عن الأصدقاء