خلال ليلة المواجهات الطويلة التي أعقبت موقعة الجمل يوم 2 فبراير/ شباط 2011، نصحني بعض الأصدقاء بالحذر أثناء التوغل في الصفوف الأمامية لإلقاء الحجارة ناحية مهاجمي الميدان، من يقفون على الجانب الأخر من المتاريس. أجبتهم بسخرية ألّا يقلقوا، فلن أخاطر بحياتي من أجل ثورة حدودها التحسين النسبي لحياة سائقي التاكسي. فالمخاطرة بالحياة تستحقها ثورة الفقراء والعمال.
كانت دعابة. لكنها، مثل كل الدعابات، تحمل جانبًا جادًا. لقد مارست ما سأنتقده بعدها بأيام؛ عملية اختصار الثورة وتكريس سرديات ومخيلات مختزلة حولها، تمنع خروجها من أسوار التنميط، باعتبارها ثورة ميدان التحرير، ثورة الثمانية عشر يومًا لخلع مبارك، ثورة الشباب، ثورة الفيسبوك، ثورة الطبقة الوسطى، وغيرها من الاختصارات والاختزالات.
انتهت حالة الإجماع مع سقوط مبارك، وبدأ الصراع بين من يريدون تكريس الاختصارات، سواء لأنها تتلائم مع مصالحهم المهددة في حال اتساع الثورة خارجها، أو لأن مخيلتهم لا تمنحهم ما هو أبعد من أسوارها، وآخرين، لم تكن، أو لم تعد، الثورة بالنسبة لهم تنحصر في إسقاط مبارك وتحسين حياة الطبقة الوسطى، بل خاضوها وغامروا في سياقها لأنهم أرادوا التغيير الكامل لحياتهم وحياة الجميع.
من بين هؤلاء، كان طالب كلية الطب وقتها، هاوي الكتابة في مطلع العشرينيات من عمره، والصحفي والباحث والكاتب لاحقًا، محمد أبو الغيط.
انفض مولد الثمانية عشر يومًا، وبدأ الصراع السياسي الأوسع والأشرس مع دوران ماكينة تكريس السرديات النخبوية، المختصرة للثورة. دخلنا أيامها في معركة التعديلات الدستورية، وبالتزامن معها وبعدها مباشرة، معركة الدستور أولًا أم الانتخابات أولًا، التي طالت لشهور.
عملية اختصار الثورة التي بدأت في الإعلام منذ اليوم الأول، 25 يناير اكتسبت قوة أكبر، ومجالات أوسع، بعد إخلاء الميادين والشوارع. ووصلت لتجريم كل الإضرابات والاحتجاجات الفئوية والاجتماعية، بحيث تبدو وكأنها مطالب "أنانية"، وليست جزءًا أساسيًا من الثورة، من أي ثورة. على الرغم من كونها العامل الحاسم في إسقاط مبارك، بعد دخول العمال والموظفين المعركة بإضرابات، واعتصامات، واحتلال الكثير من مواقع العمل.
وصلنا في صيف 2011 لحالة قولبة مكتملة للثورة، وكأنها انتهت، وملخصها الأخير أنها كانت ثورة الطبقة الوسطى لإدخال بعض التحسينات على النظام. وهيمنت هذه السردية، صاحبة أكبر عدد من الميكروفونات، في الشوارع، وفي أستوديوهات التليفزيون، ومؤتمرات السياسيين.
جاء طالب الطب محمد، ليقلب فجأة بعض الطاولات، ويعرقل، ولو مؤقتًا، عملية تسييد السرديات النخبوية، ويصدم الجميع بجملة قصيرة؛ الفقراء أولًا يا ولاد الكلب.
لم يكن الوحيد، كانت هناك أصوات أخرى في المجال السياسي، وفي المقالات المقروءة أيامها بكثافة. لكن محمد أبو الغيط بتدوينته، وبسبب صدقها وبساطتها، واعتمادها على البحث والمعلومات، استطاع أن يكون الصوت الأكثر وضوحًا. أصبحت كلماته وشعاره محورًا وسببًا لتجمعات جديدة.
يشير كتاب المفكر الراحل إدوارد سعيد الثقافة والإمبريالية إلى أهمية الأدب في تكريس السرديات المهيمنة للمستعمر عن نفسه وعن الشعوب التي يستعمرها، وبغيرها لا يمكنه الهيمنة عليها. ويشير أيضًا إلى استخدام الشعوب المقهورة لسلاح الأدب، والرواية، والفن، كي تفرض سرديات جديدة لكسر هيمنة سرديات الأنظمة والسلطات، حتى لو كانت المعركة تخص الأرض.
أحدثت تدوينة محمد أبو الغيط حالة من الاستنارة، أحدثت ما يشير إليه إدوارد سعيد عن أهمية خلق سرديات مضادة. شاب صغير من الثورة، وبلغة بسيطة، يسأل الجميع لماذا لا تتحدثون عن "السرسجية"؟ عن الفقراء الذين استشهدوا في الثورة؟ لماذا تتحدثون فقط عن الطبقة الوسطى؟ لماذا لا تتمحور المعركة السياسية حول هدف تغيير الظروف الحياتية والاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء الذين قاموا بالثورة؟ ثم يضع محمد لهؤلاء الفقراء وجوهًا، وأسماءً، وتفاصيل حياتية، ومطالب. فيستعيد لقطاعات واسعة إحساسهم بأنهم أيضًا صانعو الثورة.
يتم استدعاؤه سريعًا لبلاتوهات التليفزيونات على أمل التسفيه من طرحه، أو العثور على ثغرات فيه. لكنه بهدوئه، وبطريقته الصعيدية، وبنفس العفوية والصدق، لم يمنحهم ما بحثوا عنه.
انقسمت الأوساط الإعلامية والسياسية، فأغلب من صدقوا في هذه الثورة فعلًا انحازوا إلى طرحه. وبعض النخب السياسية طمأنته ببضعة مقالات مفادها "لا تقلق نحن منتبهون"، على أمل أن ينسى وننسى وتمر ضربة "الفقراء أولًا". وهناك آخرين غضبوا من طرحه، وانزعجوا من إعجاب الكثيرين بتدوينته، لأنه هدد سردياتهم، وكان الأبرز بين هؤلاء الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى.
لا أكتب هذا المقال كي يقرأه أبو الغيط، فربما لن يقرأه. أكتب كي نتذكر وجهًا حقيقيًا لهذه الثورة، كي نتذكرها باعتبارها في أحد وجوهها ثورة محمد أبو الغيط وأمثاله
يتجنب عيسى عادة الدخول في سجالات مع من هم أقل شهرة ونفوذًا منه. بل أنه حرص في برامجه التليفزيونية التي قدمها خلال العامين ونصف الذين شغلتهم الثورة، على توجيه الحديث بندية لبعض من يحتلون الصفوف الأولى من النخب السياسية، وكأنهم يتواجدون معه في البلاتوه.
وبينما اعتمد أبو الغيط على بحث قام بعمله عن بعض شهداء الثورة من الشباب، جاء رد عيسى، في مقال بجريدة التحرير، التي كان يديرها وقتها، ملتزمًا بالعموميات، من دون الدخول في تفاصيل، ومن دون القيام بأي بحث مضاد. لم يأت ولو بمعلومة واحدة لتفنيد كلام محمد!
اكتفى عيسى بما يشبه الزعاق، معتمدًا على شهرته الواسعة، انتمائه للنخبة، قربه الشديد وقتها من البرادعي وما تردد حول كونه مستشاره الأقرب. وكلها سمات تجعله المؤهل لسرد المروية المطلوب تسييدها، وإكسابها المصداقية، في مواجهة مجرد طالب طب، وصحفي هاو، مجهول من الصعيد، يعرفه القليلون، ولم يذكر حتى اسمه في مقاله.
كان مقال عيسى بعنوان الحرية أهم من الفقراء، فقام أبو الغيط بالرد عليه بتدوينة، بعنوان عفوا أ. ابراهيم عيسى.. بل الفقراء أهم من الحرية. طرح فيها تصورات أوضح لما قصده بأن يكون محور الصراع السياسي هو مصالح الأغلبية، ورد على تسفيه وتشويه ما طرحه في التدوينة الأولى. ومرة أخرى اعتمد على البحث والمعلومات.
انتهت هذه المعركة، والمعارك التالية، والمجازر، وانهزمت الثورة، وبدأت مرحلة الانسحابات، والاكتئابات، والاعتقالات، والقتل، والمنافي. وكان المنفى من نصيب محمد أبو الغيط.
جاء منفاه في لندن، في ظروف ربما تكون أفضل من آخرين، بفضل موهبته الكبيرة كصحفي، وكباحث، وككاتب. للدرجة التي كان يلفت النظر فيها لصغر سنه، فيتساءل البعض إلى أين سيصل محمد أبو الغيط؟ بالذات لكونه محبوبًا، ودودًا، وحين يختلف في الأفكار والسياسة، يدير خلافه باحترام، ولا يتوقف عن تطوير إمكانياته ومواهبه. والأهم، لا يتوقف عن التفكير وتطوير مواقفه وآرائه باستقلالية.
يصل مرض السرطان إليه، وينتشر في جسده. فيبدأ في كتابة نصوص على فيسبوك يحكي فيها بأسلوب بسيط، ودون مبالغات أو ميلودرامية، وبلغة دقيقة، تطورات مرضه، ومحاولات العلاج، وكيف يتعامل مع حياته وجسده والمحيطين به.
نشعر أنه لا يكتفي بالفضفضة، أو بالتأمل والتفكير في نصوص منشورة للجميع. نشعر أنه يربت على أكتاف المرضى الآخرين، ويفتح أعيننا، نحن الأصحاء المفترضين، لنرى ما نخاف رؤيته.
كتب مرة أن طبيبه أخبره بأنه وصل لآخر أرض يعرفها البشر والعلم لمواجهة السرطان. وصارح الجميع أنه يواجه مع أطبائه وتجارب العلاج سؤالين محددين؛ توقيت الموت، وكيفية تحسين نوعية الحياة قدر الإمكان حتى مجيء الموت.
لا أكتب هذا المقال كي يقرأه أبو الغيط، فربما لن يقرأه. ولن يلعب المقال دورًا في رفع معنوياته، فحوله ربما الآلاف ممن يمطرونه بالإعجاب والإشادة، ولن ندخل في سؤال إذا كان للمعنويات أصلًا دور هام في الشفاء من السرطان.
أكتب من أجل الآخرين، هؤلاء الذين كانوا مثله في رؤيتهم للثورة وتصديقهم لها، وتغييرهم لحياتهم بسببها، وبتأثيرها. أكتب كي نتذكر وجهًا حقيقيًا لهذه الثورة، كي نتذكرها باعتبارها في أحد وجوهها ثورة محمد أبو الغيط وأمثاله.
في 3 أغسطس/ آب الماضي، نشر محمد نصًا جديدًا عن تطورات المرض وحالته النفسية، بعنوان العازف ذو البذلة الحمراء. مزج فيه فنيًا بين ثلاث شخصيات تتحرك وتتصارع بداخله؛ الأول المحكوم عليه بالإعدام، يرتدي البذلة الحمراء ولا يعلم توقيت إعدامه. والثاني العازف في الأوركسترا وقت غرق السفينة تيتانيك، الذي لم يحاول النجاة، وقرر أن يعزف للنهاية كي يهون الموت على نفسه والآخرين. والثالث هو محمد نفسه، بتناقضاته، بتصوره أنه لو كان مكان العازف كان سيبحث عن قارب للنجاة.
لا يطيق أحيانًا التورط في شيء، لكنه أحيانًا أخرى يتورط، ويجد نفسه متفاعلًا مع مشاريع مهنية، ومع ما يحدث في مصر والعالم.
يقول "ببذلتي الحمراء أنظر إلى سفينتي تغرق. تهبط ببطء لكن باستمرار، ولا شيء يسد الثقوب المتزايدة. أحيانًا أستسلم تمامًا للغرق، وأحيانًا، فجأة، أجد يدي تعزف".
ربما تكون هذه هي عظمة يناير وانتصارها الأهم، أن محمد أبو الغيط والآلاف غيره بدأت أياديهم في العزف مع الثورة، مع اختلاف أشكال العزف ومجالاته، لكنهم/ن تعلموه، ويفشلون غالبًا في اعتزاله. فحتى الموت، لا يمحي سطور النوتة الموسيقية المكتوبة، فيأتي بعد زمن قصير أو طويل، عازفون جدد ليحيونها وليكملونها.