أفلام وأفكار وثورة| بروس لي.. كن ماءً لكن بعناد
قبل بضعة أعوام عُرض فيلم تسجيلي عن بروس لي (1940 - 1973)، ورحلته القصيرة في محاولة تغيير الصورة النمطية السائدة في المجتمع الأمريكي عن المواطنين من أصل آسيوي. الصورة التي تعيد إنتاجها وتكريسها الأفلام الهوليوودية عبر عقود طويلة.
لا تبتعد تصورات الجمهور المصري والعربي، من أجيال مختلفة، المرتبطة ببروس لي وأفلامه، عن إطار ثابت؛ إنها سينما أكشن رديئة من تصنيف "ب". تصلح للمراهقين، ليشاهدوها صباحًا وظهرًا، وقت الهروب من الدوام المدرسي الممل، في سينمات الدرجة الثالثة، التي كانت منتشرة في أحيائنا.
يحطم فيلم كن ماء إخراج باو نجوين، هذه الصورة النمطية لبطل الكونغ فو. الصورة التي تتجاوز حدود مجتمعاتنا، ولاحقته عالميًا. فيستعرض رحلته المتعثرة، والصعوبات الكثيرة التي كان بروس لي واعيًا بها منذ البداية، ومصرًا على مواجهتها، محاولًا كسر الصورة النمطية التي تكرسها السينما الهوليوودية عن الأقليات الإثنية والثقافية، طامحًا أن يحقق الشهرة والنفوذ للدرجة التي تمكنه من المشاركة في كتابة سيناريوهات أفلامه، ليقدم صورة جديدة عن البطل الآسيوي، بثقافته الخاصة، وتناقضاته، حتى وهو يخوض المعارك الاستعراضية.
الفرد في مواجهة المؤسسة
بنى بروس لي هذه الصورة الجديدة، البديلة، بالمعرفة والبحث عن جذوره، منذ أن كان مراهقًا. وتطور وعيه النقدي أثناء إقامته في الولايات المتحدة خلال الستينيات، متأثرًا بحركة الحقوق المدنية للسود، وبعدد من الشخصيات الأمريكية، من أجناس مهمشة، سبقته في التمرد، أبرزها محمد علي كلاي.
لا تخلو رحلته من المأساة. ييأس من بلوغ طموحه في الولايات المتحدة أمام إصرار منتجي هوليوود على سجنه في أدوار هامشية، وتعاملهم معه باعتباره كومبارس، عليه أن يؤدي ما لا يبتعد عن المخيلة الأمريكية لـ"الآسيوي/الصيني" المطيع، المنسحق، المضحك، الأقرب للغباء، الذي يتحرك كماكينة، ويجب أن يعمل في الأعمال المنحطة؛ خدمة العائلات البيضاء على سبيل المثال.
يرفض بروس لي الاستمرار في أداء هذه الأدوار المحقرة لبني جنسه. فينحسر وجوده في هوليوود تدريجيًا، ويضطر للعودة لموطنه الأصلي هونج كونج، ليقدم ما يريد تقديمه نسبيًا. ليأتي ختام الرحلة المبكر والمفاجئ في لحظة اقترابه من تحقيق حلمه ذاتها؛ العودة ممن جديد للإنتاج الأمريكي مع فيلم عملية التنين (1973)، وقبول الرجل الأبيض أخيرًا، وبعد ضغط بروس لي وامتناعه عن الذهاب للتصوير، بأن يتدخل ويشارك في السيناريو، كي يطرح هذه الصورة البديلة، ويقدم لمسات من الثقافة الصينية في حواراته داخل الفيلم. لكن، ومع بداية تحقق الحلم، يموت فجأة عن عمر اثنين وثلاثين عامًا.
استضاف صناع الفيلم عددًا من الشخصيات التي ارتبطت بمساره؛ عائلته، بعض أصدقائه، وبعض النقاد والعاملين في صناعة السينما الأمريكية. نطق أحد هؤلاء، الناقد جيف شانج، بعبارة مختصرة ومعبرة تفسر ظاهرة بروس لي والكثير من الظواهر الأخرى. قال نصًا "هوليوود عنصرية لأن الولايات المتحدة عنصرية. فالصورة التي تقدمها هوليوود تغذي الأفكار العنصرية في المجتمع، الذي يغذي بدوره السينما بالأفكار التي تطرح في الأفلام. فتستمر دائرة ملعونة لا تتوقف".
لا نملك عند الاستماع لهذه الجملة سوى استعادة أحد مشاهد فيلم ذات مرة في هوليوود (2019) لكوينتن تارانتينو، حيث يستعيد المخرج شخصية بروس لي ليهزأ منها من جديد، ويصورها بكاريكاتيرية، وبأنه بطل ورقي، يتصور واهمًا أنه متميز عن الآخرين. لكن الرجل الأبيض، دوبلير المشاهد الصعبة، براد بيت، يطحنه جسديًا، ويحوله لمسخرة الاستوديو. أي إعادة إنتاج ما كان بروس لي، المتوفى قبل فيلم تارانتينو بخمسة عقود، يناضل لتغييره.
تتجاوز المفارقة حدود إعادة استهلاك وإنتاج الصورة النمطية نفسها، حتى في أفلام مخرج يتم تسويقه باعتباره متمردًا مثل تارانتينو، لتصل لتعبيرها، وبدرجة عالية من الوضوح، عن تعقيد عملية الإنتاج الثقافي والفني في علاقتها بالأيديولوجيا والمنظومات الفكرية السائدة في المجتمع المنتج لهذه الثقافة وهذا الفن.
من يدفع يفكر
عملية إنتاج بالغة التعقيد، وبالذات في حالة الفنون الجماهيرية واسعة الانتشار، المرهونة بعاملين أساسيين؛ أولها خضوعها لرأس مال جهة الإنتاج أو المؤسسة التي تتحكم فيما سيُنتج. جهة الإنتاج المرتبطة أحيانًا بمؤسسات كبرى، أو بنوك، أو أنظمة سياسية، أو أجهزة أمنية. وجميعهم يتحكمون في مضمون المنتج الفني أو الثقافي، وتوجهاته؛ ما يحكيه.
وثانيها خضوع الفنون والمنتجات الثقافية الجماهيرية لشباك التذاكر، للجمهور الواسع. الذي يمول في النهاية هذه المنتجات نفسها إن أقبل عليها، فيمنحنها الحياة، ويسمح باستمرارية مسار صانعيها. أو يفرض عليهم التوقف، أو تغيير المسار، إن رفض منتجاتهم.
"هوليوود عنصرية لأن الولايات المتحدة عنصرية"، لا تُفهم فقط من زاوية أن هوليوود جزء من المجتمع، وبما أن الأفكار السائدة في هذا المجتمع أفكار عنصرية، تنمط المختلفين والأقليات العرقية، فسيكون أغلب صناع السينما متأثرين بهذه الأفكار.
تُفهم كذلك من زاوية وعي هوليوود، كمؤسسات وأفراد، كمنظومة، بما يجب عليها أن تقدمه لجمهور تسود بينه الأفكار العنصرية والنمطية، حتى وإن أراد صناع الأفلام مناطحة هذه الأفكار، أو محاولة تغييرها. فقرار الاصطدام بالأفكار والرؤى السائدة قرار بالدخول في المغامرة الكبرى، بكل مخاطرها، أن يرفض الجمهور هذه الأفلام، وتغيب الإيرادات، وربما يصل الأمر لما هو أكثر إيلامًا؛ الطرد النهائي من السوق.
العلاقة المعقدة بين صناع المنتجات الثقافية والفنية من ناحية، والمؤسسات من ناحية أخرى، والمجتمع من ناحية ثالثة، لا يقتصر وجودها على مجال السينما. سنجدها حاضرة، وبقوة، في كل الفنون التي تعتمد على مضامين لها علاقة مباشرة بالأفكار أو الأفعال أو الكلمات، كالروايات، والمسرحيات، والأغاني، وغيرها.
الأغلبية الساحقة من المنتجات الفنية والثقافية، في أي مجتمع، منسجمة مع الأفكار المجتمعية السائدة. لا تتمرد عليها حقيقة أو تحاول تغييرها، حتى وإن ادعت ذلك، وإلا سيتم رفضها، ويلقى صناعها عقابًا سياسيًا أو مجتمعيًا، أو كليهما. أو على الأقل يضطرون للعيش والعمل مع منطقة الهامش.
إن أراد صناع السينما المنسجمون مع السوق، الحاضرون بالمركز وليس الهامش، التمرد، فإنهم غالبًا سيلعبون في منطقة الشكل وليس المضمون. أو يقدمون بعض الأفكار غير المعتادة، بدرجة ترميز ومراوغة عالية، تهدد أعمالهم نفسها بخطر أن تكون غامضة أو غير مفهومة.
إنه ما يفسر تباهي تارانتينو بصهيونيته في مجتمع منحاز في أغلبه لإسرائيل، وشديد الرجعية دينيًا. وهو نفسه ما يفسر استحالة تخيل نموذج لبلد رأسمالي نيوليبرالي تدعو أغلب أفلامه للملكية العامة أو المساواة المطلقة في توزيع الموارد بين المواطنين. مثلما لم يوجد أبدًا العكس، نموذج دولتي من الكتلة المسماة بالاشتراكية، قبل انهيارها، أغلب إنتاجه السينمائي يمجد الملكية الفردية، أو السوق الحر، أو يرفض تحكم الدولة في عمليتي الإنتاج والتوزيع.
يناير 2011
سنجد في كل المجتمعات نماذج فيلمية تناهض ما هو سائد، وتتحداه. لكن أغلبها يعتمد على الرمزيات، وغالبًا ما ستكون رمزيات خجولة. وسنجد أفلامًا لفنانين يكتفون بالحركة والعمل في منطقة الهامش، وهؤلاء عبارة عن ماء. فقد كان بروس لي يدعو محاوريه لأن يكونوا مثل الماء، في تأقلمه مع أي وعاء يوضع فيه أو مجرى يُفرض عليه. من دون التخلي عن عناده وإصراره على فتح منافذ، وعمل تشكيلات جديدة، واختراق الصخور والنفاذ عبرها.
بدء سلسلة مقالات تتناول كيف روت الأفلام الروائية ثورة يناير 2011 بالحديث عن بروس لي يبدو غريبًا بعض الشيء. يبدو وكأنه "يمطوح" القارئ بين الشرق/هونج كونج، والغرب/هوليوود، فيما نحن في المنتصف. لكنه دال في تأسيس سؤال "هل كُنَّا ماءً؟"، وتأسيس منطق قراءة وتحليل كيف تعاملت السينما الروائية المصرية مع الثورة بعد 15 عامًا من اشتعالها.
منطق يرفض المزاعم المنتشرة منذ عقود طويلة، بأن حال السينما المصرية "بائس" تاريخيًا بسبب ضحالة السينمائيين المصريين، أو افتقادهم للقدرة على تقديم أفلام جادة بأفكار مغايرة لما هو سائد، أو لأننا قليلو الموهبة والشجاعة، أو باستخدام هذا التفسير الركيك "مشكلتنا في الورق".
المسألة أعقد من مجرد الإراداوية الفردية لكل سينمائي على حدة ليقدم ما يريد تقديمه، أو مستوى موهبته. فهناك الأيدولوجيا السائدة في المجتمع والأوساط الثقافية والفنية. وهناك عملية قمع أفكار التمرد التي يقودها المتحكم في الإنتاج والتوزيع والسلطة السياسية. وهناك الخوف من رد فعل المتلقي القادر على رفض الأفلام لما تحمله من أفكار.
معادلة المتلقي، إن تجاهلنا سلطتي الحكم ورأس المال، هي نفسها المعادلة القديمة. فالمتلقي كان سيرفض في زمن بروس لي أن يكون بطل الفيلم الصيني خارج عن النمط، له ثقافته، ويعبِّر عنها بندية متحررًا من الشعور بالدونية، ومنقذًا ربما لأصحاب البشرة البيضاء على الشاشة، في مواجهة أشرار آخرين من نفس البشرة البيضاء. مثلما رفض هذا المتلقي الأبيض نفسه خطابات محمد علي كلاي ضد الحرب الاستعمارية في فيتنام، وضد العنصرية، وربطه بينهما، لأن له ابنه أو أخيه المحاربين في فيتنام، متصورًا أنهما يبنيان مجد الأمة الأمريكية، وإن كان بالمذابح والدم.
بنفس هذا القياس، لم يكن تناول السينما المصرية الروائية لثورة يناير، مرهونًا فقط بأفكار السينمائيين، وقرارات المنتجين، ونوع السلطة الحاكمة خلال عامين ونصف العام من الثورة، وبعد انتهائها في 30 يونيو 2013. بل كان مرهونًا أيضًا بالحزب الأكبر في مصر، الحزب الذي أسميناه حزب الكنبة، المجتمع المحيط، والأفكار التي تصارعت فيه خلال هذه السنوات، حين كانت الثورة حاضرة، وتحاول أطراف كثيرة الالتصاق بها والتدليس لها، أو حين انحسرت وأصبحت سبة مرتبطة بالفوضى والجريمة ومؤامرات دولية على مصر.
مناقشة الأفلام والمنتجات والمسارات الثقافية والفنية بمعزل عن صراعات الأفكار والأيديولوجيات والسياسة الحاضرة في أي مجتمع وأي زمن، رفاهية. ستتضاعف لتقترب من الوهم، إن كانت هذه المنتجات مرتبطة بحراك اجتماعي وسياسي هائل وتاريخي، مثل الذي بدأ في مصر يوم 25 يناير 2011. من هذه الزاوية تحديدًا نستطيع أن نرى التناقضات والتحولات المثيرة للاهتمام في الخطابات والتوجهات. مثلما تبدو على سبيل المثال في أفلام المنتج محمد حفظي، الذي أنتج القدر الأكبر من "أفلام ثورة يناير". لكنه موضوع المقال القادم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.