منشور
الأربعاء 24 أبريل 2024
- آخر تحديث
السبت 27 أبريل 2024
خلا لقاء نجوم هوليوود وغير هوليوود في قصر الإمارات بأبوظبي، من عُقد تصيب نجومًا لا تكتمل نجوميتهم إلا بالحرس والأُبَّهة. قبل عروض الأفلام أو بعدها تقابل جوليان مور، ريتشارد جير، مورجان فريمان، فورست ويتكر. وإذا رغبت في إجراء حوار، تنسّق إدارة مهرجان أبوظبي السينمائي المقابلة. يرجع مصورو التلفزيون ومذيعوه مبتسمين رغم الإرهاق، يحملون طيفًا من دعابات النجوم وتلقائيتهم. لكنهم، في أكتوبر/تشرين الأول 2012، تجهموا وأصابهم إحباط لا يرتبط بكشف إنتاج مهني تأثر بإلغاء مقابلة. قالوا إن الممثل خالد النبوي خيّب أملهم، برفض الكلام في أي برنامج باللغة العربية. قالوا إنه يريد فضائية أجنبية، المهم أن "يتكلم إنجليزي".
جرى ذلك بمناسبة عرض فيلمه المواطن، إخراج سام القاضي. فيلم كغيره من أفلام ينتجها عرب، ويكتبها ويخرجها أمريكيون من أصول عربية، ويقوم بالبطولة ممثلون عرب، وموضوعها عربي في أمريكا. في هذه الأفلام لا يكون هذا العربي إلا كائنًا مثاليًا، مثالية ورقية موجّهة، مرسومة بدقة لتجسيد قيم الفروسية، تدفعه المروءة إلى التضحية بنفسه من أجل إنقاذ بشر لا يعرفهم، هكذا تقتضي الأحوال، "المخرج عايز كده"، والمخرج سام القاضي درس الهندسة في جامعة حلب، وجذبته هوليوود، وأراد أن يؤكد للغرب أنَّ العرب بشر مثلكم، وليسوا إرهابيين، ومنهم من يتكلم الإنجليزية كالأمريكان، ويقتحم الحرم الهوليوودي بفيلم له مذاق المقال المباشر.
في مطلع العام كتبتُ في المنصة مقال التغريب والأمركة، كحالة تصيب المؤسسات. أما "الهَلوَدة" فهي مرض يصيب أفرادًا يرتبط منسوب طموحهم بمعايير هوليوود، حتى لو لم يشتغلوا بالتمثيل. عرفت الدكتور رشدي سعيد، يرجع من أمريكا مهمومًا بمصر، يحزنه الإسراف في ترقيع مشكلات القاهرة بخطوط المترو، ومسكّنات أخرى تكفي إنشاء تجمعات متكاملة تخلخل الكتلة السكانية حول الوادي؛ فيستغني المقيم عن الرجوع إلى القاهرة في نهاية اليوم، أو آخر الأسبوع. والعالم يعرف إدوارد سعيد، مفكرًا إنسانيًا خلخل مفاهيم الاستشراق، من داخل المؤسسة الغربية، ويفخر بأنه فلسطيني. حكى جمال الغيطاني أنَّ سعيد طلب إليه أن يناديه باسمه المجرد: إدوارد.
النظر بندية
أتذكر السعيدين؛ إدوارد ورشدي، وأتخيل خالد النبوي لو تمكن من غزو أمريكا. عربيان حقيقيان يعامِلان الآخر بالندية الواجبة، يستندان إلى ثقة واعتزاز بما يملكانه من رصيد معرفي. يمكنني أيضًا إضافة عبد الوهاب المسيري، وقد تضمنت سيرته رحلتي الفكرية التي اعتَبرَها "غير ذاتية غير موضوعية"، محاورات ونقاشات تنقض مشاريع نجوم محاطين بأنصبة من التقدير في الولايات المتحدة والعالم العربي مثل والت ويتمان ونعوم تشومسكي وغيرهما. كان للمسيري أن يواصل الحياة هناك، بعد نيل الدكتوراه، أو بعد التضييق عليه في زمن الثورة الساداتية المضادة، من مسؤول عن وحدة الفكر الصهيوني في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، إلى التضييق عليه في دخول المؤسسة.
في امتحان تمهيدي للدكتوراه بعنوان "الأعمال النقدية لوليام وردزورث ووالت ويتمان: دراسة في الوجدان التاريخي والوجدان المعادي للتاريخ"، طالبه أستاذ باقتراح مقرر لدراسة تاريخ النظرية النقدية، "وبطبيعة الحال، كنت أعرف أنهم يريدونني أن أبدأ بأرسطو أو أفلاطون، ولكنني قررت أن أصدمهم فقلت: الجرجاني، لأذكّرهم بهويتي، دمنهوري مصري عربي مسلم يطل عليهم كأحد علماء الأنثروبولوجيا ويدرس حضارتهم دون أن يكون جزءًا منها. فسألوني من عسى أن يكون الجرجاني؟ فقلت لهم إنه ناقد عربي كلاسيكي مهم، وصاحب نظرية نقدية رائدة. فقالوا: حسنًا، لو كنت في الولايات المتحدة، ماذا كنت ستفعل؟ فتنطعت وقلت: أنا لا أنوي البقاء في الولايات المتحدة تحت أي ظروف".
أتذكر السعيدين والمسيري، وأتأمل إيهاب حسن. قال لي سمير فريد إنه رأى في مكتبة بالولايات المتحدة ركنًا لأعمال إيهاب حسن صاحب الإسهامات في دراسات ما بعد الحداثة.
كنت في "الهلال"، فتحمست لنشر كتابه منعطف ما بعد الحداثة، ترجمة الشاعر محمد عيد إبراهيم. وتوفي إيهاب حسن في صمت، وسيقول الدكتور صبري حافظ لعلي الكفراوي إن "وضع إيهاب حسن مع إدوارد سعيد في سياق واحد فيه مغالطة كبيرة، لأن إيهاب حسن يعد النقيض تمامًا لإدوارد سعيد وغيره من المثقفين والنقاد العرب الذين حاولوا بجهودهم الفردية الإسهام في الثقافة الغربية، أو تصحيح رؤية الثقافة الغربية لواقعنا العربي".
أنهى حسن دراسة الهندسة عام 1946 في سن الحادية والعشرين، وهاجر إلى الولايات المتحدة، ولم يعد. ثم نشر سيرته الخروج من مصر، وعنوانها يتناصّ مع العهد القديم. ويعترف صبري حافظ بمكانة الرجل، "ودراساته اللامعة"، لكنه يقول إنه كان يعتبر نفسه ناقدًا أدبيًا أمريكيًا، وإنه "يمثل الرغبة في القطيعة الكاملة مع تاريخه في مصر، وعرفته هو وإدوارد سعيد، وأول تعارف به عندما جاء ليلقي محاضرة في جامعة ستوكهولم، وكنت أقوم بالتدريس هناك، وحينما تقدمت للتعرف عليه بعد نهاية المحاضرة، رفض الحديث معي باللغة العربية تمامًا، ثانيًا من حديثه أعطاني يقينًا تامًا أنه لا علاقة له بمصر ولا بآدابها".
متحققون بلا عقد
تتعدد العقد. عقدة الحديث بلغة الأجنبي؛ لإثبات الجدارة. عقدة الجنسية التي عرّضت محمد الفايد لإذلال مزمن. عقدة هوليوود في التمثيل والإخراج. في التمثيل لا يعانيها متحققون في بلادهم أمثال جوليت بينوش وماريون كوتيار، وعمر الشريف الذي ظل يحتفظ بجوازه المصري، ويهوّن من هَيلَمان هوليوود، ويؤكد أن أحمد زكي أكثر منه موهبة.
وفي الإخراج، تضيق الولايات المتحدة بشارلي شابلن، فيرجع إلى بلاده. أنطوني كوين واحد من الذين لم يجدوا غضاضة في التمثيل في أفلام مهمة، لمخرجين كبار، لا فرق بين الإيطالي فيديريكو فيلليني "الطريق"، والبريطاني ديفيد لين "لورنس العرب"، واليوناني مايكل كاكويانيس "زوربا اليوناني"، والسوري مصطفى العقاد في "الرسالة" و"عمر المختار".
أراجع مواقف الطيب صالح من الأنظمة العسكرية في بلاده، وغضبها عليه، وتجديد جواز سفره السوداني، والاستغناء عن الجنسية البريطانية. ترفُّعُ كبارٍ تتسق مواقفهم مع كتاباتهم. وأذكر استقالة كل من حسين أحمد أمين ومحمود مرسي من بي بي سي في لندن، ورمسيس يونان الذي استقال أيضًا من الإذاعة الفرنسية في باريس، عند وقوع العدوان الثلاثي (1956)، ويحيى حقي سمع في باريس يوم إجراء جراحة، بقيام حرب 1973، فكتب اعتذارًا للمستشفى، وردًّا على دهشة الأطباء، كما ذكر محمد روميش في شهادة نشرها في "أدب ونقد" 1987، قال إنه لا يمكن أن يُعالَج هنا وأبناء وطنه يحاربون. لم يكن هناك طيران إلى القاهرة، "فأخذ طائرة إلى إيطاليا، وطائرة أخرى إلى ليبيا، ومن ليبيا ركب سيارة إلى الإسكندرية فقطارًا إلى القاهرة".
ذاكرتي احتشدت بهذا كله، وبغيره من فائض المواقف، يوم قيل لي إن خالد النبوي رفض الكلام باللغة العربية. لا حرب آنذاك، ولا عدوان ثلاثي ولا غير ثلاثي، ولا موقف عنيف يجب أن يتخذه فنان أو كاتب، من أمريكا أو من إحدى دول أوروبا الغربية، وإنما تأمّل الشعور بحلم الهلودة، والرهان على فرصة الفكاك من الضيق هنا، إلى ما يظنه البعض آفاقًا أكثر رحابة، تحققها بطولة فيلم، بعد عدة مشاهد في فيلم ريدلي سكوت "مملكة السماء" (2005). ومنذ عام 2012، مضت 12 سنةً، وهوليوود تستعصي، وإجادة الإنجليزية لا تشفع. ربما تأتي الفرصة، من سام السوري، أو من العام سام الأمريكاني.