"FSK".. ارتسمت الحروف الثلاثة بأناقة على باب السينما التي تحتل ناصية شارع البرنسيسة في برلين (برينتسِسِّينشتراسه/Prinzessinstrasse). دخلت في تردد وعبرت ممرًّا ينتهي بردهة واسعة، في آخرها شباك تذاكر ومنضدة طويلة يجلس عليها شاب يحدق فيَّ بعيون متسائلة. المكان خالٍ. وصلت في لحظة بين عرضين. لم يبدأ مشاهدو العرض التالي في التدفق على السينما بعد.
اقتربت وسألته:
- عفوًا، هل لهذه السينما علاقة بتلك التي كانت تحمل الاسم نفسه في شارع ڤيينرشتراسه منذ أكثر من ثلاثين عامًا؟
= نعم. لقد انتقلنا هنا منذ زمن.
- إذن.. ربما تعرف توماس ڤينرز. هل هو موجود؟ أنا صديقه.
لحظة صمت طويلة.
يتفرس الرجل في ملامحي ويتمتم بشيء ما ثم ينهض متوجها إلى غرفة جانبية:
= دقيقة واحدة.
يتركني لتأملاتي.
البحث عن سكن في مدينة محاصرة
عدت بالذاكرة إلى أواخر الثمانينيات عندما وصلت إلى برلين. كان اسمها في ذلك الحين "برلين الغربية". العثور على مسكن باتساع ثقب إبرة كان من رابع المستحيلات. المدينة بكاملها محصورة داخل حدود ألمانيا الشرقية، وليس على خط الحدود الفاصل كما يتخيل البعض. المواجهة بين الشرق والغرب أيام الحرب الباردة انتهت بإحاطتها بسور حجري ضخم مزدوج، مدعوم بأسلاك شائكة، وأبراج حراسة، وكلاب شرسة، وقناصة متخفين. لا يمكن للمدينة أن تتمدد لتستوعب أي زيادة في أعداد سكانها أو زائريها. السور يخنقها ويصعب عليَّ العثور على سكن فيها.
عرفت توماس من خلال أصدقاء مشتركين. كان يعيش في شقة في الطابق الثاني من بناية بالقرب من ميدان هيرمان بلاتس. رحب بي وعرض أن يقاسمني سكنه. انتقلت إلى أوربانشتراسه وتقاطع عالمي مع عالم توماس. صحفي مصري يرسم الكاريكاتير في بعض الصحف الألمانية، ويكتب لبعض المطبوعات المصرية، يتقاسم السكن مع شاب ألماني يعشق السينما.
السينما التي يحبونها
قبل هذا بشهور، تعرف توماس على فتاة اسمها باربارا زورين. أتت باربارا من مدينة دويسبورج لتدرس العمارة في برلين، وانتهى بها الأمر إلى الوقوع في حب فن السينما وصناعته. تقرر ترك الدراسة وينضم إليها توماس وآخرون لتأسيس دار عرض صغيرة تقدم برنامجًا سينمائيًا قوامه الأفلام التي يحبونها ولا شيء أكثر.
كانوا يرغبون في تجنب أفلام السينما التجارية الأمريكية والألمانية التي تحتل شاشات برلين. أرادوا تأسيس دار، لا تعرض أفلام السينما فحسب، ولكن تدفع "لاكتشافها".
بمدخراتهم الشخصية وقرض بنكي، أسس الأصدقاء مبادرتهم وقاموا بتأجير مقر لمشروعهم في حي كرويتسبرج الشهير، لتنطلق منه دار عرض إف إس كا fsk.
بعد انتقالي لسكنه أردت أن أزور السينما التي حكى لي عنها. كانت دهشتي بالغة عندما ذهبت إلى العنوان الذي أعطاني إياه ولم أعثر عليها. احتلت حروف الاسم الثلاثة مدخلًا في البناية، ولكنني عندما دلفت إلى الداخل وجدت نفسي داخل مشرب أو بار!
انتشر الجالسون للدردشة وتناول أقداح البيرة دون علامة على وجود شاشة أو دار عرض، تراجعت خارجًا لأتأكد. وجدت إطارًا خشبيًا معلقًا إلى جوار الباب يحوى برنامج الأفلام الذي رأيت توماس يعده في المنزل. رجحت أنني في المكان الصحيح. دخلت مرة أخرى مصحوبًا بتوماس الذي لمحني وخرج ورائي.
- أين السينما؟!.. سألته!
سينما أم بار أم طائرة؟!
ابتسم توماس وصحبني حتى نهاية القاعة. فتح بابًا سميكًا رأيت خلفة قاعة صغيرة اصطف فيها ستون كرسيًا، لا تشبه مقاعد السينما بأي حال من الأحوال. تحسست أحدها ونظرت لتوماس متسائلًا فابتسم وقال: كانت هذه أرخص مقاعد تمكنَّا من الحصول عليها. إنها مقاعد طائرة تابعة لشركة الطيران الألمانية لوفتهانزا. أرادت الشركة التخلص منها في إحدى عمليات التجديد والإحلال فاشتريناها بسعر بخس.
لن يمر وقت طويل حتى يتبين لي أن اختيار الحروف الثلاثة FSK كاسم للسينما كان اختيارًا عفويًا وعبقريًا، ربما ساهمت فيه الصدفة. طبقًا لما سمعته من توماس وقتها، فإن الحروف اختصار لكلمة Freiwillige SelbstKontrolle المصكوكة من ثلاثة مقاطع وتعني "التقييم الذاتي الحر"، ربما لتعكس الطبيعة التطوعية لأصحاب المبادرة. أما ما اشتهر بعد ذيوع صيت السينما فهو أن الحروف الثلاثة اختصار لكلمات FlugzeugSessel Kino أي سينما كراسي الطائرة. كده ينفع وكده ينفع!
في المنزل، كنت أرى توماس يُجري اتصالاته لاستئجار الأفلام، ويجلس ساعات طويلة أمام كومة من "القصاقيص"، يعدُّ برنامج العرض المركب من مجموعة منتقاة من الأفلام. كان هذا قبل انتشار أجهزة الكمبيوتر واستخدامها في عمليات المونتاج التي يقوم بها أي مبتدئ اليوم. وقتها كان توماس يأتي بالصور من الكتب والمجلات، لتتحول في ماكينة تصوير المستندات إلى "بٌطَش" من الأبيض والأسود مطبوعة على الورق. يقصها ويلصقها إلى جوار ملخصات الأفلام المكتوبة بالآلة الكاتبة، وبعض الإعلانات المحلية، قبل أن توضع على ماكيت ورقي يذهب بعد هذا إلى مطبعة "الأوفست" ويخرج في صورة أشبه بمنشورات المظاهرات السياسية.
ذهبت مرة لمشاهدة أحد أفلامه المنتقاة، وعندما خرجت من السينما توجهت مباشرة حيث كان يقدم المشروبات خلف البار:
- من أردأ ما رأيت في حياتي يا توماس!
= كثيرون قالوا ذلك!
- لا أفهم سبب اختياركم لهذا الفيلم! التمثيل رديء، والسيناريو سيئ. لا يوجد في الواقع ما يستدعي عرضه. عدد الموجودين في الصالة لم يزد عن عدد أصحاب هذه المبادرة.. ستة أشخاص!
تتسع ابتسامة توماس وتتألق عيناه المفرطتان في الصغر خلف عدسة نظارته شديدة السٌمك ويقول: ولكنني أحبه!
سيمر ما يقرب من ثلاثين عامًا قبل أن أستوعب الفكرة عندما أجد نفسي أضحك على مقاطع من أفلام ومسلسلات نشاركها على منصات التواصل. نتأملها ونبتسم عندما نرى ما نعتبره اليوم تمثيلًا مبالغًا فيه، أو سيناريو مفكك، أو تقنيات إنتاج وإخراج مفرطة في البدائية أو السذاجة بمقاييس اليوم. نضحك على الماضي الذي كناه وتعلمناه منه!
لم يكن هذا فقط ما تعرضه إف إس كا، ولكن التركيز الأساسي كان على "اكتشاف" السينما، والتعرف على أفلام من مختلف أنحاء العالم؛ من فرنسا واليابان ودول شرق أوروبا، مع الاهتمام بإنتاج السينما المستقلة في الولايات المتحدة وألمانيا، إضافة إلى تقديم طائفة واسعة من المخرجين الواعدين.
السور ينهار والمان الشرق يتدفقون
تتعثر دار العرض الصغيرة في البداية، قبل أن تتحول بالتدريج إلى بؤرة تجتذب الشباب والطلبة لمشاهدة أفلام لا يعرفها كثيرون ولا تهتم بها دور العرض التجارية. بعد افتتاحها بعام واحد تقريبًا، أي في نوفمبر/تشرين الثاني 1989، تتصاعد الأحداث السياسية التي تنتهي بمشاهد هدم السور وتوحيد الألمانيتين.
تصبح سينما إف إس كا بؤرة جاذبة لشباب الشرق الراغبين في اكتشاف فن السينما في الثقافات المختلفة، ومعرفة ما يحدث في العالم من خلالها. تمتلئ المقاعد الستون بالمشاهدين، وتباع التذاكر كلها حتى في حفلات الحادية عشرة مساء، والواحدة بعد منتصف الليل.
غادرت برلين إلى لندن بعد سنتين، ثم عدت للتردد على العاصمة الموحدة بشكل منتظم بدءًا من عام 2010 تقريبا. مررت بمقر السينما في ڤيينَرشتراسه أكثر من مرة ولاحظت أن اللافتة تغيرت، وأن بارًا لموسيقى روك الخمسينيات الأمريكية احتل المكان. قدرت أن المشروع لم يستمر فشعرت بالأسف لأنني فقدت أثر توماس.
قبل نحو عامين، وجدت بالصدفة وأنا أطالع برنامج مهرجان برلين السينمائي الدولي اسم إف إس كا، مدوَّنًا بين دور العرض التي تقدم أفلام البرلينالي. استعنت بجوجل فعرفت أن هناك سينما تحمل الاسم نفسه بالقرب من ميدان أورانيين بلاتس.
لاحقًا، عرفت أن عقد إيجار الدار القديمة في ڤينرشتراسه انتهى في عام 1994. بعدها عثر توماس وباربارا وأصدقاؤهما على متجر مغلق كان يبيع الأثاث بالقرب من أورانين بلاتس. يغلقون الدار القديمة، ويتوقفون عن عرض الأفلام ستة أشهر يجهزون خلالها المقر الجديد الذي افتتحوه بقاعتين أكثر اتساعًا. يتخلون عن فكرة البار الذي كان يفترض أن ينفق على السينما فصار عبئا عليها، ويبيعون كراسي الطائرة التي ساهمت في شهرة السينما ويستمرون في الاحتفاظ بالاسم التاريخي.
الحياة لا تخلو من مفاجآت
كلما زرت برلين في الأعوام السابقة راودتني فكرة البحث عن المقر الجديد لألتقي مع توماس مرة أخرة. كانت زياراتي قصيرة ومنعني انشغالي مع الأصدقاء من تنفيذ الفكرة، حتى وجدت نفسي بالصدفة البحتة منذ أيام، بالقرب من ميدان أورانيين بلاتس.
تذكّرت أن مقر الدار الجديدة قريبة منه. استشرت جوجل فهداني إليها. ذهبت آملًا في أن أجد توماس جالسًا في المدخل. كان واحدًا ممن أثروا في حياتي. على مدى سنوات كنت أتذكر من حين لآخر قصته الملهمة وإصراره الهادئ على أن يفعل ما يحبه ويستمتع به دون انتظار لعائد سريع أو لتقدير من آخرين.
تساءلتٌ إن كنت سأتعرف في ملامحه على الشاب الهادئ المبتسم الذي عرفته عندما قبل أن أشاركه مسكنه. ثم ابتسمت عندما انتبهت إلى أنه هو الذي قد لا يتعرف علي! أية مفاجأة تنتظرنا يا ترى؟
عاد الجالس على شباك التذاكر من الغرفة الجانبية، وفي أعقابه سيدة في منتصف العمر. تقدمت نحوي وسألتني:
= هل تسأل عن توماس ڤيينرز؟
- نعم. كنت شريكه في السكن منذ سنوات بعيدة وحضرت نشأة هذه السينما علي يديه وأيدي أصدقائه. هل يأتي اليوم أم يمكنني أن أمر عليه في وقت آخر؟
= أنا شديدة الأسف. توماس لم يعد معنا. توفي منذ نحو ستة أشهر فقط، بعد إصابته بسرطان الدماغ.