لا ينهض شعب إن تردى ذوقه الفني، أو غلبه فن غيره، حين يستعيره كاملًا، ويستسلم له، ولا يكتفي بتطعيم فنوننا بكل مفيد من فنون الغير، إنما يزيح بها فننا الأصيل. وكذلك حين لا يعبر هذا الفن عن حال التيار الاجتماعي الرئيسي، الذي يمثل رمانة الميزان، التي تحفظ للمجتمع استقراره الطوعي والطبيعي، وحيويته اللازمة.
والناظر إلى الفنون المصرية حاليًا، يجد أغلبها مشدودًا إلى مساحات تقع خارج المطلوب أو المرغوب فيه أو الجدير بتمثيل فنوننا. وتقع بعيدًا عن التعامل مع الفن على أنه وسيلة مهمة للإسهام في امتلاء الروح، وإذكاء الجمال، وتعميق الوعي، وتمثيل المشكلات.
سينما العنف والاستهلاك
لا يختلف اثنان على أن السينما المصرية لم تعد تمثل مجتمعنا، إنما يذهب أغلب إنتاجها إلى الأفلام التي تغذي العنف المادي والمعنوي والرمزي، وتزيد النزعة الاستهلاكية سعارًا، وتفرض ثقافات مشوهة بفعل الفقر والتهميش والاغتراب، على الثقافة العامة، وتهرب من مواجهة المشكلات الحياتية الحقيقية. إما لأن القيود السياسية والأمنية تمنعها من هذا، أو لأن المنتجين، وفي ركابهم كتّاب السيناريو والممثلين، يغازلون جمهور "الترسو" أزيد من اللازم.
وبدلًا من وضع هؤلاء في صورة معاناتهم الاجتماعية، التي يجب أن تكون حاضرة في أي فن، تزيد من تضليلهم أو تشويه وعيهم بالفقر والقهر والاغتراب الذي يكابدونه.
نجحت السينما المصرية منذ وقت مبكر، تحديدًا منذ فيلم العزيمة، بالانتقال إلى تصوير حياة المصريين الحقيقية، بعدما ظلت زمنًا تناوشها من بعيد. لكنها عادت الآن إلى سابق عهدها، هاربة من مواجهة الواقع، إلى ملامسته على استحياء، وبشكل متقطع لا يصنع مسارًا عفيًا، يجعل منها سجلًا فنيًا لحياتنا المعاصرة.
إن الهبوط بالسينما على هذا النحو لتحقيق الكسب المادي السريع على حساب القيمة الفنية، أو الاستسلام للمقولة المتكررة التي يزعم أصحابها أن الجمهور يريد هذا، أو أن هذا هو مجتمعنا ولم نخترعه، سيؤدي بالتتابع إلى تسيد الشعبوية الفجة وتغولها، وزيادة ذوق الجماهير العريضة انحطاطًا.
الدراما التي تجري أحداثها في المدن يبتعد أغلبها عن تصوير أحوال الناس في الأحياء الشعبية
أما الدراما، فأهملت قطاعات اجتماعية عريضة. لم نعد نرى المسلسل الذي تدور أحداثه في الريف المصري، رغم أن أهله يمثلون أغلب سكان مصر. وإن عُرض مسلسل عن الصعيد فإنه يركز على الطبقة الثرية هناك، فتتوالى أمام أبصارنا مساكن فخمة، وتطل وجوه أناس متمكنين، ينشغلون بقضايا لا تهم الأكثرية من أهل الجنوب.
في الوقت نفسه يستمر تهميش البدو في سيناء والصحراء الغربية والشرقية، وأهل النوبة، الذين لا تقف الدراما عند حياتهم الخاصة، وثقافتهم الراسخة، والتي تمثل فرعًا مهمًا من الثقافة المصرية الأساسية.
على المنوال ذاته، فإن الدراما التي تجري أحداثها في المدن يبتعد أغلبها عن تصوير أحوال الناس في الأحياء الشعبية والشوارع الخلفية. وإن جاءت على طرف منها، تعرضه في سطحية فاضحة، تحول هؤلاء الناس، على ما في حياتهم من قصص مأساوية ومطالب إنسانية مشروعة، إلى أمثولة للضحك والاستعراض الرخيص، حين تتناول انشغالهم بقضايا هامشية، بعيدة عن الهموم العامة.
لا يختلف الأمر بالنسبة للمسرح، الذي راح يميل إلى الضحك الفارغ، والحكايات المكرورة، والارتجال السخيف. يحاول أن يجذب جمهورًا يبحث عن التسلية وتقضية وقت الفراغ، وليس الذي يهتم بالمعنى، حتى لو جاء في قلب الكوميديا الواضحة والمتغلبة، والتي انحدرت بدورها من صناعة مواقف مضحكة، إلى "إفيهات" تتسم غالبًا بالسماجة.
وفي الغناء، وبدعوى مواكبة إيقاع العصر، تسللت الكلمات الركيكة، الخالية أحيانًا من أي بلاغة أو مجاز، رغم أن اللغة المتداولة في الشارع نفسه مسكونة بمجازات مبهرة، غير معلبة، بل ومتجددة، وبعضها يفوق ما يتم تناوله في قاعات الدرس وكتب الأدب التي تنتجتها النخبة الثقافية.
ويصاحب هذا الغناء موسيقى منزوعة القدرة على الإطراب، إذ لا تُخاطب الأرواح الظامئة، والنفوس المتعطشة إلى الجمال، إنما تخطف الأجساد، كي تنخرط في وصلات من الرقص. وإذا كان من الطبيعي أن تكون هناك موسيقى على هذا النحو، يطلبها البعض أو يحتاجها الكل في أوقات محددة، لكن الشاذ هو أن تتغلب هذه النزعة على كل ما عداها، وتصير هي سيدة موسيقانا الراهنة، وأغلبها مقتبس أو مسروق من موسيقى أجنبية.
مطربو النخبة
نعم، لا يزال هناك أصيل يُستمع إليه، مثلما تفعل "فرقة الموسيقى العربية" بدار الأوبرا، أو تعرض إذاعة الأغاني، أو يصر بعض المطربين المعاصرين على تقديم فن عميق. لكن الفجوة تتسع بين أغلب أبناء الجيل الجديد، لتظل الأغاني القديمة مربوط الإنصات إليها والتمتع بها، بجيل قديم، يتقادم، ويتلاشى تدريجيًا.
ربما لو لم تظهر الإنترنت والسوشيال ميديا لاندثرت أغلب الأغنيات القديمة وسط فوضى أغاني المهرجانات، وتصدع إمكانيات أغلب ما يمكن تسميتهم بـ "مطربي النخبة".
كثير من هذا لا يمثل تطورًا طبيعيًا لغنائنا القديم، إنما هو خليط مشوّه مستعار من موسيقى وافدة
وحالة الطرب هذه لا يجب أن نتوقف في رصدها عند الذي تبثه الإذاعات والتليفزيون والإنترنت، وما يتبادله الناس عبر وسائل النسخ المتطورة كالأقراص المدمجة وغيرها، التي حلت محل شرائط الكاسيت، إنما ما يدور منها بعيدًا عن هذا المجرى العام، حيث الأفراح الشعبية، والملاهي الليلية، والحفلات الشاطئية.
في هذه الحالات وغيرها، هناك جمهور عريض يتفاعل مع ما يعرض، وكثير منه يجري بعيدًا عن حكم النقاد، أو بصر علماء الاجتماع، أو الكتاب الصحفيين، أو المحررين الفنيين. أي أنه يتم في ظلام دامس، لا يتوفر له نقد ومراجعة ومساءلة ومحاسبة، بغية تطوير وتغيير إلى الأفضل.
وكثير من هذا لا يمثل تطورًا طبيعيًا وعصريًا لغنائنا القديم، مثلما كان يفعل محمد فوزي وعبد الحليم حافظ في زمن مضى. إنما هو خليط مشوّه مستعار من موسيقى وافدة، تصاحبها كلمات تعبر عن عوالم تتمدد كبؤر الصديد في المجتمع العام، وتصيبه من أطرافه، متغلغلة إلى قلبه، شيئًا فشيئًا.
وفي وقت يكافح فيه "الفن التشكيلي" على اختلاف مدارسه، ليعبر عن معانٍ عميقة، ورؤى أصيلة، فإن بعضه أيضًا قد داخله الاستسهال، وغلب فيه الأدعياء الأولياء. فضلًا عن الإهمال الذي يعاني منه الرسامون والنحاتون والمثالون والمهرة في المشغولات والحرف التقليدية. وحتى الفنون الأخرى، مثل الشعر والرواية والقصة والمسرح، يروج فيها السطحي على العميق، والعابر على المقيم، ولعل ظاهرة "الأكثر مبيعًا" تجسد هذا الوضع بوضوح.
إن الحالة التي وصل إليها الذوق الفني في مصر، تحتاج إلى مراجعة جادة، ليس من خلال الأمر والنهي والقسر والإجبار، لفرض وجهة نظر أو مصلحة أهل الحكم، الذين يطغى انشغالهم بالبقاء في كراسيهم على أي شيء آخر، إنما مساعدة الفنون الحقيقية كي تطل برأسها من جديد، وتمارس دورها الطبيعي في الحفاظ على مجتمعنا من الانهيار، وهذا لن يتحقق بالفعل إلا في إطار مشروع وطني، تقع الثقافة في قلبه.
إن كل نداء يُطلق، أو جهد يُبذل، أو مال يُنفق، في سبيل الارتقاء بالذوق الفني في مصر، له عائد عظيم على الوعي والأخلاق، وهما ركنان أساسيان في أي نهضة، أو مسار للتقدم.