برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
الزعيم الليبي عمر المختار مكبلًا بالأصفاد في قصر ديل ليتوريو في بنغازي قبل يوم من إعدامه. 15 سبتمبر 1931

الهولوكوست الليبي المنسي

التواطؤ بالصمت على جريمة إيطالية ألهمت النازي

منشور الأربعاء 26 يونيو 2024 - آخر تحديث الخميس 27 يونيو 2024

"كان رجل عجوز مضطجعًا في ظل خيمة، وكان هناك صف من النمل على ذراعه. وعندما حاول صبي عابر إزالة النمل، نهره الرجل العجوز قائلًا لا. وفي وقت لاحق فقط أدرك الصبي أن الرجل العجوز يريد الاحتفاظ بالنمل لأنه (أي النمل) كان يحمل الحبوب من مخزن مستلزمات المعتقل"، هذا مشهد إنساني أعلى، تقريبًا، من أي سقف يمكن أن يبلغه خيال كُتَّاب الدراما.

لعل النمل، للمرة الوحيدة في التاريخ، تاريخ النمل وتاريخ البشر، يمنح الحياة لمعتقلين أبرياء يواجهون الإبادة. تلك لحظة من تراجيديا ليبية دامت أكثر من ثلاثة عقود قبل صعود الفاشية، واستمرت حتى سقوط موسوليني، كانت اختبارًا لأخلاق الغرب. على مستوى فردي، فقدَ عزرا باوند شرفه الإنساني بتأييده لفاشية موسوليني. وعلى مستوى مؤسساتي، تفادى الحلفاء المنتصرون، في محاكمات نورمبرج، إدراج القتلة الإيطاليين ضمن مجرمي الحرب، وهم الذين أمدّوا النازي بالخبرة الهولوكوستية.

معتقل العقيلة على الساحل الليبي من أكبر المعتقلات في التاريخ. حكى أحد الناجين أن امرأة عُوقبت بالجلد، وقُيّدت بسارية العلم طوال اليوم، وبالليل طلبت مساعدة من رجل، فرأى معها طفلين، أحدهما يتعلق بها، والثاني رضيع تحمله، "طلبت من الرجل أن يضغط على صدرها حتى يرضع الطفل، ففعل".

مشهد النمل ومشهد الرضاعة أكثر مأساويةً من أفلام تناولت الهولوكوست، مثل اختيار صوفي (1982) إخراج آلان جي باكولا، وقائمة شندلر (1991) لستيفن سبيلبرج، وعازف البيانو (2002) لرومان بولانسكي الذي لو نبهه أحد إلى هذه التفاصيل، لتحمّس لإخراج فيلم أفضل من القصر (2023). أما سبيلبرج فلا أمل فيه، إذا لم يجد شيئًا يثير التعاطف مع يهود الهولوكوست، صنع فيلم الكارتون أمير مصر (1998) ليحشوه بأساطير نقلها سيسيل ديميل من العهد القديم إلى السينما، في فيلم الوصايا العشر (1956).

وليس في العرب خليفة لمصطفى العقاد. نحن قوم إذا اجتهد فينا أحد قتلناه حسدًا، وإذا نجا من الحسد، وأفلتت أفلامه من أشرار الرقابة وشرورها، قتله هجوم انتحاري تقرّب به تنظيم القاعدة إلى الله.

قصص أخرى للموت

مشهد النمل ومشهد الرضاعة ضمن قصص الناجين من معسكرات الموت، في كتاب الإبادة الجماعية في ليبيا: الشر، تاريخ استعماري مخفي للدكتور علي عبد اللطيف حميده، أستاذ علم الاجتماع التاريخي ورئيس مؤسس لقسم علم السياسة بكلية الآداب والعلوم بجامعة نيو إنجلاند بالولايات المتحدة. لم أقرأ الكتاب، لكن مجلة الغرفة 211، وهي كتاب دوري يحرره خالد المطاوع، نشرت ترجمة لنحو أربعين صفحة تتضمن مقدمة الترجمة العربية، وفيها رصد لستة عشر معتقلًا، منها أربعة للموت الجماعي، اعتُقل فيها بين عامي 1929 و1934 أكثر من 110 آلاف طفل ورجل وامرأة، ومات نحو 70 ألفًا جوعًا ومرضًا، في إبادة استهدفت تفريغ المنطقة "وتوطين المستوطنين الطليان، وهذا ما حدث في عام 1938 بقدوم عشرين ألف مستوطن إيطالي".

في مقالي السابق في المنصة عقدة الأطراف، تناولتُ تعريب المركزية الأوروبية، في القرن العشرين على الأقل، صورة مصغّرة احتلت فيها مصر والشام المركز، وما عداهما أطراف. وأخجلتني قراءة الهولوكوست الليبي، تراجيديا مسكوت عنها ليبيًّا وأوروبيًّا، ومجهولة عربيًّا حتى في مصر، على مرمى صرخة مستضعف تحملها الريح إلى المحروسة المثقلة آنذاك بالاستعمار البريطاني.

في المدرسة ردّدنا نشيد السوري فخري البارودي، بلاد العُرْب أوطاني (تلحين الأخوين فليفل)، ولم تتضمن كتب التاريخ المصرية ذكرًا للتراجيديا الليبية. كانت الثورة الجزائرية محظوظة بصحوة عربية وجنوبية استلهمت الأمل من تأميم قناة السويس، وعُوقبت مصر باشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي. وقبل تحرير الجزائر، شارك الفن المصري في المعركة، شعرًا ومسرحًا وأفلامًا، حتى إن "جميلة" ورفيقاتها، في فيلم يوسف شاهين، تكلمن اللهجة المصرية.

غلاف العدد (ب) 2023 من مجلة الغرفة 211.

أدين بالشكر للمخرج الصديق سعد العَشَّة. جاء بفيلمه التسجيلي "السينما، ولا شيء بسواها"، مشاركًا في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، مارس/آذار 2024، وأهداني هذا الوجع، "الغرفة 211"، وهو العدد (ب) 2023، من كتاب دوري حمل عنوان "الإبادة الجماعية ومستقبل تاريخنا".

317 صفحة كُرسِّت فقط لتلك المأساة، وكيف تُستعاد ترميمًا للذاكرة الوطنية، واحترامًا لأرواح الشهداء ولذكرى شهود وناجين رووا تاريخًا ينقض الرواية الاستعمارية، ويكشف تواطؤًا ليبيًّا، وطنيًّا، على جريمة ضد الإنسانية، لتظل في العتمة، لا هي مرئية تمامًا ولا مخفية تمامًا. ونظام معمر القذافي كما يقول خالد المطاوع اختزل نضال الليبيين "بفكرة الانتصار أو الموت"، وهي معادلة ذكرها عمر المختار في فيلم "أسد الصحراء". وبدلًا من سجن الشيخ أو نفيه، تعمّد الاحتلال شنقه أمام عشرين ألف مدني معتقل، لإرهاب الليبيين بأن القتل مصير المتمرد.

درس الدكتور حميده في جامعتي القاهرة وواشنطن، وكتابه "الإبادة الجماعية في ليبيا" حصاد تنقيب في أرشيف مدوّن بثلاث لغات، في ثلاث قارات. صدر الكتاب بالإنجليزية عام 2020، وترجمه إلى العربية الدكتور محمد زاهي بشير المغيربي عام 2023. وفي مقدمة الطبعة العربية تناول تعتيم الجامعات الإيطالية والأنجلو-أمريكية على جريمة الإبادة الجماعية في ليبيا. إنكار أكاديمي ومعرفي وسياسي، وامتد التجاهل إلى العالم العربي، حتى لدى أجيال شابة في ليبيا. وكان "السكوت القانوني والأخلاقي عن جرائم الفاشية الإيطالية... نتاجًا لسياسة العنصرية المركزية الأوروبية"، في مقابل تعظيم الجريمة النازية، لكون ضحاياها "بشرًا أكثر رقيًّا"، والبشر خارج أوروبا شعوبًا أدنى.

المحرقة اليهودية ليست استثناءً "هي خلاصة الجرائم الاستعمارية للإبادة"، ولها جذور في إفريقيا، كما يقول الدكتور حميده الذي قدم "دليلًا غير معروف عن إعجاب واهتمام ودراسة النازيين الألمان للحالة الإيطالية، وبالذات تفريغ المنطقة الشرقية من سكانها والقضاء عليهم"، إذ تعددت زيارات النازيين لليبيا، قبل تنفيذ معسكرات الإبادة النازية.

وبعد غزو ليبيا عام 1911، بدأت خطة المذابح، وسجن الليبيين، ونفيهم إلى جزر إيطالية. ومن ماتوا على ظهر السفن، أُلقيت جثثهم في البحر. وجرى استهداف القاعدة الاجتماعية لحركة الجهاد، بإعدام الأهالي، وتسميم المياه والمحاصيل وحرقها، وقتل الماشية، وتشييد سياج من الأسلاك الشائكة بطول الحدود مع مصر. وانخفض عدد السكان من 1.5 مليون عام 1911 إلى نحو 779 ألفًا عام 1934.

من المساخر أن المجرم رودولفو جراتسياني، حامل لقبيّ سفاح ليبيا والجزار، لم تحاكمه لجنة جرائم الحرب التابعة للأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، لكن محكمة إيطالية حكمت عليه بالسجن 19 عامًا "بتهمة التعاون مع النازيين".

لماذا لم نرَ ليبيا؟

أنصف ليبيا باحثون أجانب، فيترجم خالد المطاوع دراسة لأنطونيو إم مورون عن التاريخ الاستعماري لبلاده، وعن "المتأطلنين"، وهم ليبيون "منحرفون عديمو الأخلاق" عملوا مع سلطات الاحتلال. ويكتب فريدريك ويري مقالًا ترجمه سعد العَشَّة عن "لورانس الدنماركي"، وهو الصحفي الرحالة الدنماركي كنود فالديمار هولمبو، "أحد الشهود الغربيين القلائل على فظائع النظام الإيطالي الاستعماري".

غلاف الطبعة الإنجليزية من كتاب "مواجهة الصحراء" للصحفي والرحالة الدنماركي كنود فالديمار.

تجاوز هولمبو مغامرة ضابط المخابرات البريطاني الشهير بلورانس العرب، فاعتنق هولمبو الإسلام، ونشر كتاب مواجهة الصحراء عن إبادة جماعية تشمل إعدامات، ومشاهد جثث تأكلها الذئاب، وردم الآبار بالرمال والأسمنت. وأكد أن أي أوروبي يرى جرائم الفاشية "لا بدّ أن يشعر بالخزي كونه ينتمي إلى العرق الأبيض". وكتب جورج أورويل عام 1936 في مراجعته للكتاب "خليق بالجماهير الإنجليز المبجِّلة لموسوليني أن يلقوا نظرة على الكتاب". وانتهت حياته عام 1931 نهاية تراجيدية، "ولم يعثر على رفاته".

تمنيتُ لو شمل هذا الملف شهادة ليوبولد فايس (محمد أسد) عن اتصاله بعمر المختار، كما ذكر في كتابه الطريق إلى مكة.

بالعودة إلى المركزية المصرية، فقد حملت تاريخ مصر إلى أبعد من حدود العالم العربي، فالإبداع الروائي والشعري والغنائي والسينمائي والدرامي والمسرحي المصري قبض على تاريخ البلاد، وجعل الجذوة مشتعلة أو قابلة للاشتعال؛ فحافظ على حيوية الوقائع، ووثّق ثورات ناجحة وأخرى مجهضة، وتمردات وجرائم ارتكبها الغزاة، وصنع ممن اختلف فيهم الرأي أبطالًا شعبيين؛ نكاية بالاحتلالين التركي والبريطاني.

بحكم المسؤولية التاريخية للدولة المصرية حين حكمها عقلاء، وللمثقفين وقد أدركوا أن لهم دورًا، أسهمت هذه المركزية في احتضان مبدعين عرب. وصار التونسي محمد الخضر حسين شيخًا للأزهر. وفي لبنان أخرج هنري بركات فيلم سفر برلك (المنفى)(*)، عن التغريبة القسرية تحت الاحتلال العثماني، وفي سوريا أخرج توفيق صالح فيلم المخدوعون عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، وأخرج صلاح أبو سيف في العراق فيلم القادسية. ويوسف شاهين قفز إلى الجزائر المشاركة في إنتاج فيلم عودة الابن الضال، وفيه مثّل الجزائري سيد علي كويرات واللبنانية ماجدة الرومي. كما غنّى المطرب المغربي عبد الوهاب الدُّكالي في فيلم منتهى الفرح لمحمد سالم.

فلماذا لم يروا ليبيا؟ وإن كان المؤرخ المصري محمود الشنيطي استثناء، بكتابه "قضية ليبيا" عام 1951. لكن المترجم جعل العنوان المسألة الليبية، مع وجود العنوان الأصلي في الهامش "Qa'diyat Libya".

يجب تكرار السؤال: لماذا لم يروا ليبيا؟ تجاهلوها، ثم محا اسمَها العقيد القذافي، واستبدل به أطول اسم لدولة في التاريخ، "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى".

لكنَّ الذاكرة الليبية الجريحة عنقاء تنهض، روح تنبعث من رمال يزيحها المبدعون عن أرواح الأجداد، ذاكرة ليبيا لا تنتظر أحدًا، ينصفها أبناؤها الباحثون والمبدعون، وفي العدد نفسه من "الغرفة 211"، فصول من روايات ونصوص شعبية هي "الهروب من جزيرة أوستيكا" لصالح السنوسي، و"صندوق الرمل" لعائشة إبراهيم، و"الرحلة" لمروان جبودة، و"المقرون والبرَّاح وشوق سيدي رافع" لحسام الثني، و"بنغازي" لصلاح المنصف، وترجمت هذا الفصل الطبيبة المصرية ميرنا فكري صبحي حنا.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.