بيني وبين مهرجان القاهرة السينمائي الدولي حكاية غرام. علاقة بدأت بمشاهدة الهاوي المحب للأفلام، ثم أهدتني أول جائزة من نقابة الصحفيين عام 1999. بلغ المهرجان هذا العام دورته الرابعة والأربعين، وتمنيت أن يتخفف من عبء اسمه الطويل، الرباعي، فيستغني عن الكلمة الأخيرة "الدولي"، وهي صفة لا اسم. ولا تعنى المهرجانات الكبرى (كان، برلين، فينيسيا) بصفة "الدولي"؛ لأنها دولية بالفعل.
والصفة المتحققة تغني عن الاستشهاد بها. ولا يحتاج الكبار إلى استعارات. والمهرجانات الصغيرة النوعية (للبيئة، للمرأة، لسينما المؤلف، للكوميديا) تتغنى بالصفة الدولية، للفخر والهيبة. الدول الكبرى تكتفي باسمها مفردًا، ولا تسبقه كلمة "دولي". من يذكر "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى"؟
المهرجان بالنسبة إليَّ فاتحة خير. حين كان في الشارع، تابعت أفلامه لسنوات من دون التزامات مهنية. ثم كتبت أول مقال عن دورته الثانية العشرين التي افتتحت في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1998، في بداية ولاية الممثل حسين فهمي.
حمَل المقال عنوان "دورة الباشوات الجدد"، ونشر في يناير/ كانون الثاني 1999 في مجلة "سطور"، وفاز بجائزة نقابة الصحفيين، في عودة النقابة إلى تنظيم جوائز التفوق الصحفي، مع تكريم رمز بارز سنويًا. في تلك السنة كان المُكرَّم محمد حسنين هيكل. الآن أتأمل المقال. حادّ، نوعًا ما، في ظل تحولات لا تخطئها عين متابع يرى المهرجان ينسحب من دفء الشارع إلى فتور رسمي يفرضه رخام دار الأوبرا.
الحالة الجماهيرية لمهرجان القاهرة السينمائي تراث لا يستعاد. من فاتته المشاركة في ذلك الشغف والترقب، أو مشاهدته من الرصيف، سيجده في المشاهد الأولى من فيلم "المنسي" عام 1993. صديق المنسي ينبهه إلى موسم المهرجان، والأفلام تعرض من دون تدخل الرقابة بحذف المشاهد الساخنة. يذهبان إلى سينما "كوزموس" في شارع عماد الدين. لا أحد في الزحام يعرف حتى عنوان الفيلم، تكفيهم ضمانة لافتة مهرجان القاهرة السينمائي السادس عشر (1992). ويطرح السؤال الشهير عن الفيلم "قصة ولّا مناظر؟". الفيلم مناظر، فيستبشران. الطمأنة قالها ناصح أغلق الورشة، ويدور وراء هذا الفيلم في دور السينما المختلفة بوسط القاهرة. كانت عُلب الأفلام تتنقل بين القاعات.
بدأت الولاية الأولى لحسين فهمي بتحويل المهرجان إلى كرنفال، برعاية ثلاثة من رجال المال، حظي اثنان بعضوية مجلس الأمناء، وفاتت العضوية إبراهيم كامل فنافس زميليه، وأقام حفلًا ضخمًا للضيوف. "دورة الباشوات الجدد" وما بعدها أفقدت المهرجان استقلاله. تحت يدي بيان لسعد الدين وهبة الرئيس الرمز للمهرجان، في ديسمبر/ كانون الأول 1986، يسجل أن المهرجان "ينظمه الاتحاد العام للنقابات الفنية المصرية".
مات سعد، فاستأسد فاروق حسني. وضع ختم "وزارة الثقافة" أعلى غلاف دليل المهرجان ومطبوعاته. كانت اللائحة تقول إن اتحاد النقابات الفنية ينظم المهرجان، وفي العهد الجديد تبدأ بالنص على أن المهرجان "تنظمه وزارة الثقافة في مصر". صفة حكومية لم تكن موجودة.
في تلك الضوضاء، عام 1998، لا تخطئ العين حضور جون مالكوفيتش، مكرمًا ورئيسًا للجنة التحكيم. لكن لجنة التحكيم لا سلطة لها على اختيار أفلام المسابقة. شهدت "دورة وضع اليد" أغرب ما يمكن أن يقترفه مهرجان "دولي"؛ بتنافس فيلم بطولة رئيس المهرجان في المسابقة الرسمية. من سوء حظ جون مالكوفيتش أن يرى السينما المصرية ممثلة في فيلمين متهافتين في المسابقة. أحببت دائمًا جرأة أسماء البكري، وشاركتها يومًا في العثور على بيت ساكنة باشا، وهذا لا يمنع أن أرى فيلمها "كونشرتو في درب سعادة" فجًّا واستشراقيًّا، ولا يجاريه في ضعفه الفني إلا "اختفاء جعفر المصري" لعادل الأعصر، تمثيل نور الشريف وحسين فهمي.
ماذا لو تصادف أن فيلم رئيس المهرجان استحق جائزة أحسن ممثل؟ لا شيء سوى أن يقوم حسين فهمي رئيس المهرجان بتسليم جائزة أحسن ممثل إلى حسين فهمي الممثل، من اليد اليمنى إلى اليسرى، والجمهور يصفق كما صفق في الندوة، عقب الفيلم الذي لا يذكره الآن الكثيرون. في تلك الندوة قام رجل يهوى الكتابة، وشرح لجمهور الترسو مضمون الفيلم العميق، وأنه ينطوي على تأويل وتأويل مفرط، مستعيرًا عنوان كتاب أمبرتو إيكو "التأويل والتأويل المفرط". في افتتاح تلك الدورة وجه حسين فهمي الشكر إلى رجال الأعمال، وناصره زملاء ممثلون، فرحين بعودة المهرجان إلى "أهله الشرعيين"، وأن الأولى بمهرجان السينما "أن يرأسه فنان".
فاروق حسني وحسين فهمي أدخلا المهرجان قاعات العناية بدار الأوبرا، ولم يخرج. انتهت بهجة جماهيرية تلقائية صاحبت "الحالة المهرجانية". رواد تلقي الأفلام بالشوكة والسكين يشمأنطون من سؤال "قصة ولّا مناظر؟". فرق بين سباحة تلقائية في النيل، وسباحة محسوبة في مسبح تحت عيني المدرب.
يعنيني التوقف أمام الدورة العشرين (2- 15 ديسمبر 1996)، آخر دورات سعد وهبة الذي توفي في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1997 قبل أيام من الدورة الحادية والعشرين. بعنوان "نجيب محفوظ في المكسيك" عرض فيلما "بداية ونهاية" لأرتورو ريبستين، و"حارة المعجزات" لخورخي فونز بيريز الذي قدم سردًا ذكيًا، متعدد الأصوات، أقرب إلى روح نجيب محفوظ من ميلودراما حسن الإمام.
لديّ خطة لإعادة المهرجان إلى الشارع. خطة لا تكلف شيئًا، وتستعيد جمهورًا تخيفه دار الأوبرا، يراها قلعة تحميها الشرطة في مشهد خشن
مات سعد الدين وهبة، فطمسوا جهوده. كان ندًّا لا يحميه إلا اسمه. يسجل دليل المهرجان أنه، من موقع صاحب البيت في رئاسة الاتحاد العام للفنانين العرب ورئاسة المهرجان، كان يوجه الشكر إلى هيئات مصرية تبدأ بوزارتي الثقافة والإعلام، وتنتهي بفندق ماريوت وشركة سفنكس للسياحة. وبمناسبة مئوية السينما، عام 1996، أصدر المهرجان دليلًا مرجعيًا أعده أحمد رأفت بهجت، عنوانه "مصر.. مائة سنة سينما"، يشمل مراجعات تاريخية لسنوات التكوين، وأعلام الصناعة، والاتجاهات والتيارات والمدارس الفنية، ودراسات تحليلية تتعامل مع الفيلم من زواياه وعناصره المختلفة: القصة، السيناريو، الحوار، الإضاءة، التصوير، المونتاج، التمثيل، الإخراج. وتتصدر الدليل نتيجة الاستفتاء على أحسن مئة فيلم مصري.
بعيدًا عن المسابقة الرسمية نظم المهرجان، عام 1996، جائزة نجيب محفوظ لأفضل عمل أول أو ثان للمخرج، ولها لجنة تحكيم دولية أخرى. وفيها شاهدنا "القبطان" لسيد سعيد. ومن خارج الأعمال المتسابقة، احتفظت ذاكرتي بأفلام "اليوم الثامن" للمخرج البلجيكي جاكو فان دورمال، و"كل شيء على ما يرام"، والترجمة الأكثر دقة هي "كل الأشياء عادلة" (All Things Fair) للمخرج السويدي بو ويدربرج، و"كسر الأمواج" للدنماركي لارس فان ترير، فسمعنا عن أفلام الدوجما. شاهدتُ "كل الأشياء عادلة" و"كسر الأمواج" أكثر من مرة، وبعد انتهاء المهرجان عرضهما سعد الدين وهبة في اتحاد الكتاب الذي اختير رئيسًا له، منهيًا احتكار اليمين ورمزه ثروت أباظة.
لا جديد في ثنائية الحب والخيانة إلا صدق التناول. وفيلم "كل الأشياء عادلة" جريء، لا يدين أحدًا. مراهق يتعلق بمدرسته التي تكبره بخمس وعشرين سنة. زوجها سكير عابث يطفئ روحها، فتنتعش ببراءة الخجول المقتحم. وفي "كسر الأمواج" تنويع آخر على اللحن ذاته، ولا أتخيل ممثلة أخرى مكان إميلي واتسون، هذا المزيج المدهش من السذاجة والتدين والشبق البريء تعبر عنه بالصمت، والنظرات الحيرى، والحوار مع الله. يحزنني أن أرى جمال إميلي يغرب بأسرع مما أتوقع. أما الفيلم الرابع "اعتراف" للمخرج الأذربيجاني جميل علييف (1996) فأتذكره رغم ضعفه. معالجة سطحت الرؤية في "اللص والكلاب".. رواية لمحفوظ، أو فيلمًا لكمال الشيخ.
مضى المهرجان بخطى تحقق الآمال أحيانًا، أو تدعونا إلى تمني عزل الرئيس. ثم جاء سمير فريد، وجعل الدورة السادسة والثلاثين (2014) حدثًا فارقًا. وفي السنوات الأخيرة جرت إضافات، وعاد حسين فهمي رئيسًا في الدورة الرابعة والأربعين (13 ـ 22 نوفمبر 2022)، فشاهدنا كلاسيكيات مرممة. شاهدتُ منها "اللاهث" لجان لوك جودار، و"الاختيار" ليوسف شاهين، وأعمالًا ستبقى "آل فابلمان" لسبيلبرج. ومن اليابان "الخطة 75" للمخرجة تشي هاياكاوا، و"شاطئ بعيد" للمخرج ماساكي كودو. ومن بلجيكا "الحب بحسب دالفا" للمخرجة إيمانويل نيكو، و"مُقرّب" للمخرج لوكا دون. ومن فرنسا "الابن" للمخرج فلوريان زيلر. ومن بولندا "إيو" للمخرج جيرزي سكوليموفسكي. ومن أيرلندا "جنيات إنيشيرين" لمارتن ماكدوناه.
في البانوراما الدولية، تمنيت مشاهدة فيلم "أرض دالي" للمخرجة الكندية ماري هارون. كيف رأت السريالي المجنون سلفادور دالي صاحب السيرة الذاتية التي اختار لها عنوان "يوميات عبقري"؟ ألغي العرض في اليوم الأخير. فتحت "كتالوج المهرجان" لقراءة نبذة عن الفيلم، ففاجأني أول دليل لمهرجان سينمائي، أو حدث ثقافي عربي، يُفتح ويقرأ من الشمال إلى اليمين.
ستايل إنجليزي مكتوب بالعربية والإنجليزية. أما تفاصيل الأفلام، وهي نصوص موجزة كتبها مدير المهرجان أمير رمسيس وآخرون، فتعتمد الأسلوب الشامي في استبعاد "الجيم" المصرية، واُستبدلت بها "الغين". للمرة الأولى في حدث فني أو ثقافي مصري نكتب: سبيلبرغ، غريغوريو غرازيوني، إيفان لوينبرغ، مارينا غورباخ. بداية "تشويم" مصر.
لديّ خطة لإعادة المهرجان إلى الشارع. خطة لا تكلف شيئًا، وتستعيد جمهورًا تخيفه دار الأوبرا، يراها قلعة تحميها الشرطة في مشهد خشن لا يطمْـئن الزائر، ويوحي بأن مصر لم تعد "المحروسة".
وخطة المصالحة تحتاج إلى مقال آخر.