(1)
2 يناير 2011
شاب نحيل الجسد، صلب العود، شعره مسدل على عنقه بشكل جميل، وملامح وجهه لا تفارقها الوسامة قط، ابتسامته الدائمة كانت خدعته الوحيدة، غير المقصودة، في حروبه الوديعة للتحرُّر من القهر الموروث من زمن الفراعين، يجلس على المقعد الأخير في قاعة تسكنها الدموع بدير مارمينا في كينج مريوط، غاضبًا، أثناء مراسم تشييع ضحايا حادث كنيسة القديسين في سيدي بشر.
حشود الأقباط تكتم غضبها في حضور رجال نظام مبارك؛ وزير الدولة للشؤون القانونية والمجالس التشريعية، مفيد شهاب، وزير الإسكان، أحمد المغربي، وزير الدولة للحكم المحلي، اللواء عبد السلام المحجوب، ومحافظ الإسكندرية، اللواء عادل لبيب.
الأنبا يؤانس، بعد أن قرأ كلمة البابا شنودة، حاول شكر حسني مبارك على تعازيه للأقباط، قال "نشكر الرئـ..."، قبل أن ينتهي ارتفع صوت الشاب الذي لم يكمل عامه العشرين "لأ". كانت نبراته قوية وحزينة، دفعت الأعناق إلى انعطافة سريعة للخلف لتبيان مصدر الصوت الصادق الشجاع، بدا وديعًا في عمر الأبناء في المنزل، عانقته الأعين، ظهر في جلسته البعيدة أمام مجسم صليب قاني يحمل جسد المسيح، مثل "حَمَلُ الله".
يؤانس، الذي كان سكرتير البابا، اضطر للصمت، تمالك نفسه قليلًا وقمع غيظه، قبل أن يعاود المحاولة مجددًا، فضجت القاعة بأصوات معظم الحضور "لأ لأ". رغم الغضب، أحس الشاب ذى الشعر الطويل، ببعض الرضا لأول مرة منذ يومين، حين استقل سيارة أجرة بعد منتصف ليل رأس السنة، من عزبة النخل حيث يسكن إلى وسط البلد، وشارك مجموعة من النشطاء الأقباط اجتماعًا بعد نحو ساعة من التفجير، ومن وسط البلد فجرًا استقل سيارة أخرى إلى الإسكندرية للمشاركة في الجناز.
مينا دانيال أول مرة يسمع الأقباط يحتجون ضد الرئيس، أتكون الثورة قريبة؟ ربما.
جنازة ضحايا كنيسة القديسين
(2)
3 يناير 2011
يشارك مع عشرات المسيحيين والمسلمين في تظاهرة أمام كنيسة السيدة العذراء مريم بمنطقة مسرَّة في حي شبرا، تنديدًا بمقتل 24 شخصًا في كنيسة القديسين، سمته اللافت للأنظار ونشاطه الملحوظ يدفع "الأنبا ي" إلى التحفز لاصطياده، ويفعل، يشهر مينا الصليب الموشوم على رسغه الأيمن، لأن رجل الدين قال إنه "مسلم مندس"، تذهب احتجاجاته طيات الرياح، يسّلمه إلى أحد أفراد الأمن بزي مدني.
يقول الأنبا "أنا عارفك.. انت اللي بوظت القداس في إسكندرية". يطلب من رجل الأمن "وديه عند إسماعين بيه" (اللواء إسماعيل الشاعر مدير أمن القاهرة المتمركز مع جنوده في محيط الكنيسة). من بعيد يرى المشهد بيشوى فوزي، فيركض مع بعض الشباب وينتزعه بالقوة وينقذه من الاعتقال.
(3)
25 يناير 2011
في شارع ناهيا المكتظ بالبشر على مشارف الثانية بعد الظهر، يراقب من بعيد، ينتظر ظهور أحد يعرفه، يطل بعض النشطاء من شارع جانبي، ينضم إليهم، بعد قليل ارتفعت أعلام صفراء لـ كفاية وسوداء لـ 6 أبريل وتعالى الهتاف "عيش حرية عدالة اجتماعية" و"يسقط يسقط حسني مبارك". تحرَّرت حنجرته من الخوف بدفء الناس حوله، برد يناير صار صيفًا قائظًا، ركض، قفز، عانق من يعرفهم ومن لا يعرفهم، الناس في تزايد، المتاريس تنفتح تحت ضغط الأجساد الشابة، فتيان وفتيات يجمعهم هتاف وحلم.
وجد نفسه في التحرير في أول المساء، الآلاف يطوفون حول الكعكة الحجرية وقد تطور الهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام". تذكر نهار الإسكندرية ورفض الأقباط شكر الرئيس. اطمئن قلبه وترك المسيرات، جلس على رصيف يدخن سيجارة، هاتف أحد رفاقه، بدأ مكالمته بكلمة واحدة "سننتصر".
(4)
28 يناير 2011
لم يكن يعرف ماذا عليه أن يفعل، لو بقى خارج المسجد قد يُعتَقل، وليس عليه أيضًا أن يدخل. حسم أمره سريعًا، وتقدَّم إلى باب الجامع واختبئ وسط المصلين، صلَّى مثلهم، ركع وسجد على شرف الوطن، وبعد الانتهاء شاركهم في رجم الداخلية بالحجارة، لم يجد أحدًا يعرفه من المتظاهرين، تعوَّد كلما شارك في احتجاج أن يجد أغلب الموجودين من أصدقائه أو معارفه، في جمعة الغضب لا أحد يلتفت خلفه، لقد ذاب الرفاق وسط حشود الشعب في الشارع.
وصل ميدان التحرير على مشارف الليل، كان الشباب لم ينهوا الاشتباك مع الداخلية في شارع القصر العيني، تقدم للمساعدة، داهمته قنبلة دخان، فركض أمام الجامعة الأمريكية، فيما أجهز المحتجون على فلول الشرطة، وجرى تحرير الميدان تمامًا.
(5)
مساء 2 فبراير 2011
تعب من الركض والمقاومة. عاد إلى منتصف الميدان الخاوي من الناس بينما الجمال وراكبيها بالقرب من المتحف، بدا الحلم قريبًا من التلاشي، سينفض الشعب عن الثورة وستعود الحياة إلى ما كانت عليه سابقًا، كعادته عندما يحزن، انقبض قلبه وداهمته الدموع، بعد دقائق تمالك نفسه من جديد.
شاهده رفيقه، يحاول بيديه العاريتين انتزاع جزءًا هشًا من السور الحديدي المواجه للرصيف، سأله: ليه؟ رد بكلمات تسابق بعضها وتتعثر على لسانه "هدخل عليهم ولاد (...) مش عايز احدف طوب، ومينفعش أروح وإيدي فاضية.. معاهم سيوف".
نظر إلى عيني صديقه المندهشتين وقال بغضب والدموع مازالت تملء عينيه "شد معايا الحديدة".
ثم انطلق إلى قلب الموقعة وأصيب.
(6)
آخر فبراير 2011
صعد عصام شرف على الأعناق في التحرير، ثم أصدر بعدها بأيام قانون تجريم الإضراب والاعتصام، بقي ثوار قلائل في الميدان، كان البرد قارسًا، جلس مع الصحفى الاشتراكي خالد عبد الراضي وبعض ثوار القليوبية، يسخرون من قوانين حكومة الثورة، عند منتصف الليل هاجمت قوات عنيفة الميدان، لم يكن ثمة أمل في المقاومة، رجال أشداء طوحوا بالشباب في كل الاتجاهات بقسوة بالغة.
ركض مع خالد في أول شارع طلعت حرب، جندي فشل في إمساكه من شعره الطويل فتلقف وشاح خالد الأحمر، تمسك خالد بالكوفية وكان اعتقاله وشيكًا، سحبه مينا بقوة "سبهاله يغور بيها".
في مقهى متواضع قرب شارع عبد الخالق ثروت بعد انتهاء التجريدة الأمنية فجرًا، وسط نحو ثمانية ثوار، تهكّم خالد "أنا من دار السلام.. مينفعش حد ياخد مني حاجة غصب". يضحك مينا "متزعلش، هنسمى دي موقعة الكوفية الحمرا".
(7)
ربيع 2011
غلبه التعب في ميدان التحرير، يعمل كهربائيًا مع شقيقه الأكبر، يبذل مجهودًا مضاعفًا بسبب اصراره على المشاركة في كل الاحتجاجات الثورية، ذهب كعادته إلى مسجد عمر مكرم لينال قسطًا من الراحة، قبل أن يغفو لكزه شخص ما، سأله عن ديانته، أخبره بابتسامة عريضة أنه مصري أبًا عن جد، هز الرجل قاسي الملامح رأسه وابتسم، طلب منه أن يغادر المسجد على الفور.
ينكسر في داخله شيء، يتمشى في الميدان بتكاسل، يصوب حصى الشارع بقدمه إلى حواف الرصيف بقهر، تقوده قدماه إلى مبنى جامعة الدول العربية، يجلس على الأرض، يشعر بمياه ساخنة تتسرب من عينيه، يهاتف رفيقه "عايز أشرب حالًا، تعالي شاركني".
سيقول مينا فيما بعد إن الرجل كان محقًا، ليس على الثوار أن يستفزوا المشاعر الدينية للمواطنين، عليهم أن يضعوا خطة للاستيلاء على نصف دور العبادة وتحويلها إلى أماكن إيواء للمتشردين، لكنه أيضًا سيعتقد (هو العابر للأديان والقوميات، أو بالأحرى موحدها في ذاته الإنسانية) أن المساجد أكثر بروليتارية من الكنائس، تساءل "المسيحي الشقيان يرتاح فين؟"
(8)
أول صيف 2011
يتوسط جلسة ثوار اتفقوا على أنها ستمتد للصباح، يجلسون أرضًا في صالة منزل الناشط الليبرالي بيشوى فوزي في حي الضاهر، مع المحامي اليساري هيثم محمدين وحسين البدري، بدا أن الليل طويل وأن لدى الأربعة سرديات مغايرة عما يراه كل واحد فيهم.
هيثم يلتقط طرف الحديث، يدافع أولًا ضد الهجوم على مواقف منسوبة لتنظيمه، ثم تخف حدة النقاش السياسي ويحكي عن كفاح والده العامل الراحل فوزي محمدين، تتصاعد آلام الطبقة في شرايين ابنها البار مينا، تنهمر دموعه دون توقف، لا يملك غيرها تحية لنضال والد رفيقه، لا يمتثل لتوسلات الأصدقاء، يكف هيثم عن الحكي، يطلب مينا منه بانفعال أن يكمل ثم يواصل البكاء.
يبكي ثم يبكي حتى تتحول عيناه إلى كأسي دم، يهذي عن الحرية والعدالة، عن مواريث القهر والجوع، عند الفجر لا تسعفه طاقته على مواصلة كربلاء الثورة فيغفو في مكانه.
في 2020: هيثم في السجن.
(9)
منتصف صيف 2011
لم ينل تعليمًا جيدًا، لم تمكنه الحياة من اكتساب مهارات مهنية غير العمل البدني الشاق، لكنه مثل فراشة، علمته الدنيا وروحه الطيبة أن الحب للجميع مهما قاسى من ظروف وكابد من مشقّات، مثل معظم الثوار، كان حالمًا ورومانسيًا، يستقبل الكل بابتسامة كأنها الفردوس المفقود، يحب الشعر ولا يجيد قوله، التقط من على لسان رفيقه في ليلة تسكع صيفية في شوارع وسط البلد مقطعًا سهلًا للبياتي من "نصوص شرقية"، ربما عبر عن طبقة نذر حياته من أجلها، حفظه عن ظهر قلب، كلما تألم أكثر كلما ترنَّم به أكثر وبكى أكثر:
المجوس وحدهم يعرفون
لماذا تتوامض النجوم في منتصف الليل وتبكي
أما أنا، ولست وحدي أعرف،
لماذا تصبح السماء حمراء
عندما يجوع الفقراء.
(10)
سبتمبر 2011
يجلس على رصيف أمام حزب التجمع بجوار الناشط محمد فهمي العائد لتوه من تأدية العمرة مع والدته. فهمي هاتفنا من السعودية وسأل سؤالًا مدهشًا، كان يريد التأكد من أن كارلوس (فنزويلي بدأ حياته مناضلًا في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قبل أن يفصل منها، وهو الآن سجين متهم بالإرهاب في فرنسا) قد أشهر إسلامه بالفعل، لكي يؤدي له عمرة إكرامًا لنضاله السابق.
يضحك مينا "طب لو الموضوع كده كنت اعملي أنا عمرة، يا ابني كارلوس شيوعي، وانت رايح تصليله عند الوهابيين". يضحك ثم يتهم فهمي بأنه لم يتخل بعد عن أخلاق البرجوازية "لسه بتشرب سجاير مارلبورو". يحتج فهمي "مش كفاية بشرب معاكوا، انتوا هتموتوني، وخلاص ضيعتوا مفعول العمرة".
في 2020: فهمي في المنفى.
(11)
الجمعة 7 أكتوبر 2011
في مقهى بحر آخر كوبرى أكتوبر من ناحية شارع رمسيس، يجلس مع رفيقه، يفكران في كيفية نشر رواية للأخير، وفي قلبيهما حلم كبير وثورة صارت جزء من روحيهما. يقول "لازم تكتب عن الثورة والفقرا وتاخد بإيدهم للحرية".
في الطريق إلى محطة مترو جمال عبد الناصر عندما حان وقت الانصراف، يشدِّد على رفيقه لحضور مسيرة الأحد 9 أكتوبر/ تشرين الأول، من دوران شبرا إلى مبنى ماسبيرو، يرد الرفيق ضاحكًا بأنه علماني متطرف ولا يشارك في تظاهرات طائفية. يبتسم مينا ويقول إنهم أكدوا على منع كل المظاهر الدينية. يتهكم "بتكره الصليب وعامل علماني".
يبتسم الآخر، يتصنّع الجدية ويرد باقتباس من محمد الماغوط "كراهيتي للإرهاب لم تترك لي فرصة لمحبة الله". يضحك مينا بصخب وتظهر أسنانه المصفرة من كثرة التدخين "أهو الكلام المعوج ده هيخلى الثورة تتغلب، ارحموا دين أبونا.. والله انتوا دايمًا معطلين الناس".
يتعانق الاثنان في لحظة الافتراق، كان العناق الأخير.
(12)
الأحد 9 أكتوبر 2011
في بداية المسيرة كان فرحًا مع الفرحين، لا إشارات طائفية، فقط هتافات تطالب بالعدل، ابتسم، لكنه شعر أنه كبر كثيرًا، منذ أمس يسكنه شعور غريب لم يزره أبدًا من قبل، لم يخرج من البيت يوم السبت ولم يهاتف أحدًا، فكر أن عليه تأدية بعض الأمور، بعد انتهاء المظاهرة سيجلس في مقهى بحر مع صاحبته، سيهاتف رفاقه ويخرج لهم لسانه، هم أكثر انغلاقًا من الأقباط. لكنه لم يستطع أن يطرد الحالة الشعورية الثقيلة التي استوطنت روحه.
المصورون كالعادة اقتربوا ليلتقطوا له وصاحبته بعض الصور، لم يكن سعيدًا، شعر أن الابتسامة التي اشتهر بها عصيّة على أن تزين وجهه، حاول أن يبتسم، بمشقة استطاع.
أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون، انتحى مكانًا جانبيًا مع الحبيبة، كان يدخن شاردًا، عندما بدأ الهجوم دفعها إلى شارع يوصلها إلى دهاليز بولاق أبو العلا، يعرف أن رفيقه الشيوعي عبد الرحمن عبد اللطيف يؤمن بولاق وقت التظاهرات.
وهو يستعد للركض إلى الصفوف الأمامية شاهد مصابا يتألم، حمله إلى مكان آمن وتركه في يد رجل عجوز، استدار إلى الأمام وبدأ في العدو، فجأة توقف قبل وصوله منطقة الاشتباك، شعر بشيء حارق يسرى في جسده، سرعان ما تحول إلى برودة بالغة، نظر إلى هناك، شاهده يبتسم، شعر بالعجز وتمنى من الرب أن يمنحه 5 دقائق فقط حتى يصل.
لم يستطع الحركة، خارت قواه، استسلمت قدمه اليسرى وانهارت، التوت اليمنى تحت ثقل جسده، استند على يد وبالأخرى كتم نهر الدم، حاول ألا يسقط كليًا، بدا راكعًا على ركبتيه ونظره معلَّق إلى فوق، شاهده أحد المتظاهرين، اقترب "محتاج مساعدة". قال الشاب. "قومني" رد المصاب بحسم وخيوط عرق غزير تنفر من جبهته.
(13)
مساء 9 أكتوبر 2011
أمام المشرحة يقف مايكل كرارة شاردًا ووجهه شديد الإصفرار، وبيشوى فوزي يبكي "مينا مات".
المشرحة في المستشفى القبطي مكتظة بجثامين الشهداء، مينا مسجّى على كتلة خرسانية مرتفعة، مفتوح العينين وتحت جسده بركة دماء، عيناه تشي برغبته في الحياة، كان من المفترض ألا يموت. حوله أجساد كثيرة بعضها ضاعت ملامحها من أثر الدهس تحت عجلات المدرعة.
يقترب رفيقه، يدنو منه ويهمس بأبيات عبد الوهاب البياتي في أذنه. تبدو علامات القهر على محمد فهمي ويبكي دون صوت، يتقدم صديقه السلفي طارق معوض ويتمتم بكلمات قرب أذنه ويغلق عينيه، ربما كان يقرأ بعض القرآن.
(14)
ليل 9 أكتوبر 2011
الصحفى اليساري إسلام أنور يتعثّر على أرصفة حي الفجالة، دائخًا من روائح الموت، الشوارع مظلمة، يشعر ببقايا زجاج مكسور أسفل قدميه، يجد نفسه أمام الجيزويت، أين المستشفى القبطي؟ يدور مرة أخرى حتى يشاهد محمد السعيد وأسامة سعدي وهيثم محجوب.
يتوافد الرفاق، الكل يبكي والبعض في ذهول. فجأة يتعرض المستشفى إلى هجوم من دهماء تحت تأثير دعاية المذيعة التي طلبت من الشعب أن ينزل للشارع ويحمي جيشه من الأقباط.
المسيحيون مشغولون بالحزن، يسارع كل الرفاق المسلمون بالحجارة وبأيدى عزلاء إلى رد الهجوم وحماية المستشفى، يركض الجميع إلى شارع رمسيس وينجحون في إبعاد الرعاع إلى نقطة بعيدة. لقد صارت لحظات الحزن النبيلة ترفًا في تلك الليلة المظلمة.
في 2020: هيثم في السجن.
(15)
عصر 10 أكتوبر 2011
تأخر خروج جثامين الشهداء من المستشفى، يرفض الأهالى التقرير الطبي وتشخيص سبب الوفاة، حشود من المصريين داخل الكاتدرائية المرقسية في العباسية وخارجها.
رجائي موسى يصطدم بالناس رغمًا عنه، مغبّر الوجه، تائه النظرات، كان في الإسكندرية وقت الحادث وعاد على الفور، يلقي نفسه بين يدي الرفاق كأنه يبحث عن راحة بعيدة، يقول بحزم "محدش يقول مينا مات.. مينا اتقتل.. قتلوا مينا".
(16)
نوفمبر 2011
بعد أيام من قتل مينا اجتمع نحو عشر شخصيات من أصدقائه في نادي الشبان المسيحيين في رمسيس، منهم السيدة إحسان محمد والناشر رجائي موسى والصحفي رامز صبحي، وأسسوا حركة راديكالية تحمل اسمه، كانت شرسة للغاية وضمت كل تنويعات القوى في الميدان بسبب شعبية مينا، وطغى عليها الخطاب اليساري، قبل مرور الشهر الأول على مجزرة ماسبيرو، بالتحديد يوم 4 نوفمبر/ تشرين الثاني، تظاهروا أول مرة برايات حمراء وأعلام مصر، أحد هذه الإعلام سيكون شاهدًا على ما جرى في شارع محمد محمود محمولًا على ذراعي طارق معوض ومايكل كرارة، وسيقود كوادر الحركة الميدانيون ساحات القتال.
الجيفاري هيثم منير، أحد مؤسسي وأبطال الحركة، درويش الثورة كما يسميه أصدقاؤه، بعد استشهاد مينا قلَّ كلامه وزاد شروده وأفرط في التدخين، باع سيارته الحديثة وفضَّل التنقل بدراجة نارية، ترك عمله مهندسًا مدنيًا وتفرغ للثورة، قُبض عليه في 2012، قضى أشهرًا صعبة في حجز قسم السيدة زينب.
عائلته المحافظة المنتمية اجتماعيًا للطبقة الوسطى العليا وسياسيًا للتيار الديني، أجبرته على الدخول إلى مصحة في المعادي، ربما لأن الثورة جنون وإدمان، سيلقى حتفه شهيدًا في نوفمبر 2012 إثر حريق في المستشفى؛ لم يلتهم إلا غرفته ولم يصب إلاه ولم يُحقَّق في أسبابه.
في 2020: ضاعت دماؤه هدرًا؛ لم يستطع رفاقه تحريك القضية لأنه في يوم موراته الثرى، أصيب عضو الحركة الحسيني أبو ضيف أمام الاتحادية واستشهد بعدها بأيام، فضلًا عن أن التيار الديني المتهم بالتسبب في الحادث، بالإهمال على الأقل، حسب رفاقه، كان حاكمًا.
(17)
ديسمبر 2011
خرجت ماري دانيال من قوقعة الطائفية بعد استشهاد شقيقها الأصغر، حسبما ذكرت في فيلم أثر الفراشة، للمخرجة أمل رمسيس، ستخوض غمار الثورة وسيظهر في حياتها عمر، فتى وديع ومسالم يسكن في حدائق القبة ويدرس في الثانوية العامة ويشجِّع النادي الأهلي وينتمى لأولتراس أهلاوي، شبَّ على الميادين تنوء بالهتاف، فالتحق بحركة مينا دانيال.
عمر لازم ماري في كل تحركاتها؛ في البيت بعزبة النخل وفي ميدان التحرير أثناء الاعتصامات وفي مقاهي وسط البلد، يناديها "ماما" ويقول "اعتبريني مينا"، يحمل بسعادة علم مينا دانيال في أوقات السِلم بديلًا عن طارق ومايكل، في منتصف 2013 سيختفي من الميدان ويلتحق بالكلية الحربية.
في 2020: استشهد الملازم أول عمر عبد الصبور في 23 يناير 2018 في سيناء.
وماري مع اثنين من أشقاء مينا في المنفى.
(18)
يوليو 2020
تثير العَربة موجات من الغبار في طريق تحاصره الأتربة من الجانبين، من بعيد تبدو كاتدرائية الملاك ميخائيل في المجاورة 5 بمدينة 6 أكتوبر مثل مبنى يضم أشخاصًا هجروا ملكوت هذا العالم بكل ضجيجه، تقطن ربوة عالية بعد مقابر المسلمين مباشرة في منطقة صحراوية هادئة تمامًا (المقابر تضم رفات هيثم منير).
في الكاتدرائية أسفل المذبح قاعة تحوي رفات شهداء ماسبيرو، في أغلب الأحيان توجد بعض الورود تركها الأحباء على باب الغرفة التي تستقبل الزائر بجدارية تحفظ أسماء الشهداء، وعن سبب القتل كُتب بالنص "برصاص ومدرعات الجيش المصري".