ليه تركنا أرضنا؟! حتى عواصفها كانت أقل قسوة من صدى الهتاف.
- أخر كلمات البدوية زبيدة (فاتن حمامة) في فيلم "رمال من ذهب" ليوسف شاهين
أشرت في المقالين السابقين، إلى بعض ملامح رحلة توفيق صالح مع نموذج المثقف/الموظف، وإلى تقاطعات الطرق التي جمعته بيوسف شاهين، وكيف خرج كلاهما للمنفى في فترتين مختلفتين، وكل منهما ينجز فيلمين خارج مصر.
فبعد انتظار ومحاولات متتالية امتدت لشهور طويلة، يتمكن توفيق صالح من إنجاز فيلم المخدوعون في سوريا عام 1972. وينتظر ما يقارب الأعوام العشرة كي ينجز فيلمه التالي والأخير، في العراق، الأيام الطويلة. وبين الفيلمين يبحث المخرج عن أي فرصة للعودة إلى مصر بمشروع فيلم، ملاحقًا سراب أي مشروع جديد يستطيع أن ينجزه كما يريد، ومواجهًا، كغريب، سلطات مختلفة تذكره من حين لآخر بأنه غريب.
أما شاهين، الذي يؤكد أنه لم يختَر الرحيل، فأثناء وجوده ببيروت لتقديم فيلمه فجر يوم جديد، يقترح عليه الأخوان رحباني إنجاز فيلم بياع الخواتم عام 1965، عن مسرحية لهما ولفيروز. ويدخل مباشرة بعد إنجازه، وبالصدفة، في مشروع فيلم رمال من ذهب عام 1966، أول إنتاج مشترك بين إسبانيا وبلد عربي، لبنان، ممثلًا في "مدلل فيلم".
بينما يُصور شاهين الفيلم، الذي سيصفه لاحقًا بأنه أسوأ أفلامه، وبأنه كان "كومبينة إنتاج" لا تناسبه، يصل إلى قناعة أنه لا يستطيع العمل خارج مصر، وأن عليه العودة فورًا. وفعلًا، يُنهي شاهين تصوير الفيلم ليعود إلى مصر تلبية لرغبة صاحب السلطة، عبد الناصر، عام 1966، في الوقت نفسه الذي يواجه فيه توفيق صالح تعنت الرقابة والسلطات المختلفة مع فيلمه المتمردون.
صحراء الغربة والموت والسياحة
تحضر الصحراء في بعض أفلام يوسف شاهين وتوفيق صالح السابقة لمرحلة منفى كل منهما. لكن الصدفة، وربما ليست صدفة، أنها تحضر أيضًا في فيلمي المنفى؛ المخدوعون، ورمال من ذهب، كمكان أساسي، وتحضر الهجرة/الهروب كموضوع للفيلمين.
الصحراء بطل أساسي في "المخدوعون"، مع أننا لا نراها بوضوح في الفيلم. مجرد مساحة من اللون الفاتح المخيف، بلا تفاصيل، ولا يوجد في طريقة تصويرها تناقضات ضوئية، أو بين النور والظل، مما يلجأ إليه المخرجون عادة في مثل هذه الحالات. وجودها شديد الثقل والكآبة، ككتلة تمثل الموت. أما في فيلم شاهين، فهي صحراء مغربية ما، مكان صالح للسياحة، بها جدول ماء وبحيرة، يزورها الإسبان للفسحة، حاضرة في الربع الأول من الفيلم لتشهد قصة الحب بين البدويين طارق وزبيدة، وتختفي حين تنتقل الأحداث إلى إسبانيا.
يدور "المخدوعون" حول ثلاثة فلسطينيين يحاولون الوصول عبر التسلسل من شط العرب، وتحديدًا من مدينة البصرة في العراق، إلى الكويت؛ فلاح فقد أرضه، وشاب صغير مضطر للبحث عن عمل بعد أن تخلى أبيه عن أمه وأخوته الصغار كي يرتاح ماديًا عبر زواجه من امرأة تملك بيتًا من حجر وأسمنت وساقًا واحدة، وشاب مناضل سياسي، هارب من الأجهزة الأمنية الأردنية بعد أن شارك في محاولة اغتيال الملك الأردني.
يخوض الثلاثة رحلة السفر داخل عربة خزان المياه التي يقودها "أبو الخيزران"، الفلسطيني مثلهم، والعاجز جنسيًا بعد أن شارك في الدفاع المسلح عن فلسطين عام 1948. وخلال الرحلة، يختنق الثلاثة ويموتون داخل الخزان، فيترك أبو الخيزران جثثهم في مقلب للقمامة، يبدو أنه على مشارف مدينة صحراوية لا نرى منها سوى حرائق متفرقة.
أما "رمال من ذهب"، فهو عن طارق البدوي، الذي يحب ابنة عمه زبيدة، ويهوى مصارعة البقر الصغير في قريته البدوية، ويمتاز بالشجاعة وبعض التهور. يكتشف بضعة سياح إسبان ممن يعملون في مجال مصارعة الثيران موهبته وجاذبيته وروحه المرحة والاستعراضية، فيأخذونه معهم، وخصوصًا أن إحداهن، ممولة استعراضات المصارعة، انجذبت لفحولته كذكر عربي.
يصل طارق لإسبانيا ليحقق سريعًا الشهرة والنجاح، لكنه يغرق في عالم العربدة مع النساء والخمر، فيتراجع مستواه، فيما تعبر حبيبته زبيدة البحر في قارب صيادين بحثًا عنه. يطاردهما بعض أبناء القبيلة غضبًا من زبيدة التي لوثت شرفهم بهروبها وراء حبيبها.
وفي لحظة انتصار طارق في مصارعته الأخيرة، يقتلون زبيدة.
المثقف تجريبيًا.. والمثقف ميلودراميًا
يثير "المخدوعون"، كأفلام أخرى لمخرجه، الآراء المختلفة والمتناقضة؛ بداية من الإعجاب الشديد، وصولًا للرفض الكامل. لكنه في الأساس مغامرة تجريبية شجاعة لتوفيق صالح على عدة جوانب مختلفة، أهمها الأسلوب. فهناك تقشف بالغ على مستوى لغة الفيلم السينمائية والمفردات التي يختارها المخرج للتعبير والحكي، هذا التقشف لا يبدو فقط كوسيلة للتبسُّط والبعد عن البهرجة واستعراض العضلات، بل أيضًا نزوع إلى حالة من التجريد الكامل، دخولًا لذلك الكابوس الذي يمتاز بإضاءة غامرة، وشمس حارقة، ودرجات فاتحة بين الأبيض والرمادي. تجريد يصل بالفيلم إلى أن يكون تجربة إبداعية شديدة الذهنية، وأيضًا المباشرة، على المستوى السياسي.
يحاول توفيق صالح تحقيق هذه الأجواء الكابوسية باللجوء للبرودة، بالرغم من الحر الخانق والمميت، بمعنى خلق مسافة باردة تفصل بين شخصياته وجمهوره طيلة النصف الأول من فيلمه، بينما تكتمل خطوطه الرئيسية ورسم خلفيات شخصياته، لنعرف ماضي كل واحد منهم عبر العودة المتكررة للوراء بقفزات زمنية متتالية، تكسر الترتيب الزمني الخطي لقصص الشخصيات الأربعة، فيتشكل ماضيها بالتدريج وبهدوء، دون أن ننشغل كمتفرجين أي حدث يسبق الآخر.
إن كان متاحًا أن نصف طارق بأنه معادل درامي لشاهين، فبالطريقة الرمزية نفسها، نستطيع أن نرى أبطال "المخدوعون" الثلاثة كمعادلين دراميين لتوفيق صالح
لكن في منتصف الفيلم، حين يلتقي الثلاثة وللمرة الأولى مع السائق أبو الخيزران، يبدأ توفيق صالح في إزالة هذه المسافة التي تفصلنا عن شخصياته، تدريجيًا، دون أن ننتبه، لنكتشف كمفاجأة في النهاية ارتباطنا عاطفيًا بهم، وتورطنا معهم في رحلتهم فيما يشبه الجحيم تحت شمس حارقة.
تعرض فيلم المخدوعون للكثير من الصعوبات والمعوقات الإنتاجية، على عكس ظروف إنتاج "رمال من ذهب"، الذي لا يتذكر بعض ممثليه الإسبان منه بعد سنين طويلة، سوى حالة الرفاهية وتمتعهم بأفضل الفنادق والمطاعم خلال تصويره. بل إن المشروع نفسه بدأ، حتى قبل وجود فيلم محدد صالح للتنفيذ، بحفل توقيع اتفاق الإنتاج المشترك الإسباني/اللبناني في السفارة اللبنانية بمدريد، بين المليونير إبراهيم المدلل، الذي يفتقد أي معرفة بالإنتاج السينمائي، وشركة إسبانية كانت تأسست للتو حينها، لتنتج عملًا دعائيًا لصالح النظام الإسباني الفاشي.
يعتذر المخرج الفرنسي الذي كان من المفترض أن يُخرج الفيلم الناتج عن ذلك الاتفاق، فتتم الاستعانة بيوسف شاهين كمخرج، شارك أيضًا في كتابة سيناريو وحوار النسخة العربية للفيلم مع إحسان عبد القدوس وكامل يوسف، باسم "رمال من ذهب"، بينما يُجري خوسيه لويس ميرينو تعديلات عليها، لتصبح النسخة الإسبانية من نفس الفيلم، باسم "بطل من رمال".
يأتي الفيلم في المرحلة التي يحاول فيها شاهين التخلص من سطوة قالب الميلودراما على الكثير من أفلامه، لكن الفيلم عاد بمخرجه للوراء، فكانت النتيجة ميلودراما تقليدية عن الحب ومعاناته وآلامه والتضحية والصدف المتتالية والموت كنهاية، مع توليفة من عناصر إنتاجية قادرة على جذب الجمهورين المختلفين؛ الإسباني عبر أجواء الصحراء والبدو وقصة الحب والسفر والرغبة، والوزة التي تحملها زبيدة في رحلتها وتتحدث معها، والعربي عبر طارق (مثل دوره الممثل الفرنسي المولود في تونس بول بارجيه)، مصارع الثيران الفحل، الذي لا تستطيع الفاتنة الإسبانية بيلار (إلينا ماريا تيخيرو)، إلا أن تشتهيه جنسيًا فور رؤيته، فتمنحه فرصة الشهرة والنجاح.
ولكلا السوقين، العربي والإسباني، عناصر جذب مشتركة؛ بكائية الميلودراما، مع بعض الهزل، والخيول والمطاردات، والقليل من التشويق. ولأنها كانت "كومبينة إنتاجية" بتعبير شاهين، وليست مشروعًا جادًا لعمل فيلم، يتقرر أن يتم تصوير نسختين، نسخة لإسبانيا ونسخة للعرب، فيضطر شاهين لتصوير مشاهد معينة ستذهب لجمهور محدد، وبعد أن ينفذها يبدأ في تنفيذ نفس المشاهد بعد تعديلها، أو يصنع مشاهد بديلة، للجمهور الآخر.
وربما لذلك يقول شاهين حرفيًا في أحد حواراته بعد الفيلم بسنوات "بينما أقوم بتصوير رمال من ذهب أدركت أنني وصلت للقاع، وأنني إن لم أعد للعمل في مصر، لن أعود للعمل أبدًا".*
هناك مرويات متناقضة حول هذا الفيلم، بين ما يحكيه شاهين عنه، وما يحكه الطرف الإنتاجي الإسباني. فعلى سبيل المثال يقول شاهين إنه لم يصور مصارعة الثيران لأن الإنتاج الرديء لم يوفر له حلقة مصارعة، ومصارع محترف، وثور. أما الإسبان فيقولون إن شاهين هو من اختار ألا يصور مشاهد للمصارعة، وأن يكتفي ببعض التفاصيل من لوحات لبيكاسو، وأنه تمسك بهذا الاختيار كقرار فني ليس لأحد أن يفرض عليه تغييره.
المفارقة هنا أن شاهين، الهارب من البيروقراطية المصرية، أو من الاستبداد، أو من الرقابة، يعاني من تعنت الرقابة الفرانكية مع الفيلم، التي ترفض السيناريو الأصلي، وتشترط الكثير من التعديلات عليه. من بينها التقليل من مساحة زبيدة في الفيلم، كي تكتسب بيلار مساحة أكبر من البطولة، وأن يتم التقليل من مشاهد لقاءاتها الجنسية بطارق. وحين يتم إنجاز التعديلات والتصريح بتصوير الفيلم، تتعثر تصاريح عرضه حتى بدايات السبعينيات، ما يقارب ستة أعوام بعد زمن انتاجه.
المثقف متأملًا مصائر أبطاله
أنهى شاهين على الأرجح تصوير الفيلم وعاد للقاهرة، حين أدرك أنه لن يستطيع العمل بالشكل الذي يرضيه كمخرج خارج مصر. وهي عودة ضرورية بعد سنتين من المنفى حقق خلالهما فيلمين متواضعين. بينما نستطيع أن نرجح، مجرد ترجيح، أن توفيق صالح حلم بتكرار ضربة "المخدوعون" مرة ثانية وربما ثالثة، سواء في سوريا أو العراق.
يقرر شاهين في الوقت المناسب، وربما لأن ردود أفعاله أسرع من توفيق صالح، ألا يكون مصيره مثل مصير "طارق"، البطل البدوي لفيلمه، الذي يذهب إلى إسبانيا لتحقيق حلمه في أن يصبح نجم مصارعة ثيران، لكنه، وبسبب غروره وتصوره أنه حقق مكانة لا ينافسه فيها أحد، يخسر كل شيء؛ الشهرة والنجاح والأموال والنساء وحبيبته زبيدة. فيعود شاهين إلى مصر قبل استكمال مونتاج الفيلم، تاركًا للطرف الإسباني البحث عن مصارع ثيران يشبه طارق جسديًا، لتصوير بعض مشاهد المصارعة لتلفيقها مع المشاهد الأخرى، خلال مرحلة إنهاء مونتاج الفيلم.
إن كان متاحًا أن نصف طارق بأنه معادل درامي لشاهين؛ المخرج الموهوب الراغب في السفر والرحيل والشهرة والنجاح خارج بلاده، الباحث دائمًا عن اعتراف العالم به، بالرغم من أنه لم ينل الهتاف مثل طارق، فمن المتوقع أن يكون طرح على نفسه سؤال زبيدة "ليه تركنا أرضنا؟!". فنستطيع أن نرى عودته لمصر، رمزيًا، من هذه الزاوية، هربًا من مصير طارق، وافتتاحًا لأهم مراحله السينمائية بداية من نهاية الستينيات وصولًا لبداية التسعينيات.
بالطريقة الرمزية نفسها، نستطيع أن نرى أبطال "المخدوعون" الثلاثة كمعادلين دراميين لتوفيق صالح في رحلة سفرهم، مغامرتهم، بحثًا عن حياة أفضل، وإن كان عبر المغامرة القصوى. يموت أبطال توفيق صالح داخل الخزان، دون الوصول لهدفهم، يموتون مختنقين فيما يخضع السائق لاستجواب موظفي الحدود الجالسين في الهواء المكيف، عن علاقته براقصة متخيلة اسمها "كوكب"، أثناء محاولته إنهاء أوراق عبور الحدود الكويتية. موت رمزي للثلاثة، ضحايا البيروقراطية والأنظمة والبله، يُجسد رحلة توفيق صالح السينمائية، من مصر إلى سوريا إلى العراق، إلى مصر مرة أخرى.
ارتبط سؤال مرير بفيلم المخدوعون، ومن قبله برواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" المأخوذ عنها الفيلم، وهو سؤال "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟". لكن المحبوسين داخل الخزان طرقوا جدرانه قبل أن يختنقوا، ولم يسمعهم أحد. وطرق توفيق صالح بدوره جدران خزانه، وعلى الأغلب لم يسمعه القادرين على فتح الخزان، أو أنهم سمعوه لكنهم لم يرغبوا في فتحه.
* بعض المعلومات المتعلقة بالظروف الإنتاجية لفيلم "رمال من ذهب" مأخوذة من دراسة أرشيفية قام بها المؤرخ السينمائي الراحل ألبرتو إلينا، ونشرت في كتاب "يوسف شاهين.. النار والكلمة"، الصادر عن مهرجان سينما الجنوب بغرناطة 2007.