"كانت هراوة السلطة المشرعة، وهي الرقابة، مستعدة دائمًا لدق رأس كل من تسول له نفسه الاقتراب من نظام الحكم حتى لو كان مشوبًا بالحذر، أو متلحفًا عباءة التاريخ أو متدثرًا بأقنعة الرمز، فتلك منطقة ملغومة ما أن يتماس معها الفنان حتى تنطلق شياطينها من قمقمها تنفث النار في وجهه، تكاد تحرق عقله وعمله".
(كلمات في هجاء الرقابة للرقيب علي أبو شادي)
لن نعرف أبدًا أسبابًا نستطيع أن نثق في صحتها، دفعت رئيس أول شركة قطاع عام للإنتاج السينمائي "فيلمنتاج"، المخرج صلاح أبو سيف، ليس فقط لسحب مشروع فيلم "بين القصرين" من توفيق صالح، وإسناده لحسن الإمام، بل للتربص به، ومحاولة إفساد مهمته منذ البداية، بناء على رواية توفيق صالح نفسه، التي لم تظهر، على حسب علمي، أي مروية أخرى موثقة وقادرة على تفنيدها. لتظل دوافع أبو سيف من ضمن الألغاز الكثيرة في تاريخ السينما المصرية.
تبدأ القصة في جانبها المعروف بمشاركة صلاح أبو سيف، صاحب المكانة والنفوذ في بدايات الستينيات كأحد أهم مخرجي السينما المصرية، في كتابة المعالجة السينمائية المبدئية لـ"بين القصرين" مع الكاتب يوسف جوهر.
وكان سيخرج الفيلم بنفسه، لكن الدولة عينته في منصب رئاسة الشركة، فكلف توفيق صالح بإخراجه. ثم وافق على السيناريو الذي كتبه يوسف جوهر، في حين أن توفيق صالح، الذي لم يكن أخرج سوى فيلمين، ولم يكن مشهورًا، نقل ملاحظاته شفويًا وكتابيًا على المعالجة والسيناريو، واصفًا كلاهما بالسطحية، وعدم إدراك مغزى الرواية الأساسي، مقترحًا أن يكتب سيناريو جديدًا.
تبقى لنا بعض المرويات والتكهنات حول وجود خلافات شخصية بينهما سبقت تكليف توفيق صالح بإخراج الفيلم، وإن تعنت صلاح أبو سيف ازداد بعد ما اعتبر إرسال توفيق صالح لملاحظات مكتوبة على المعالجة السينمائية والسيناريو إهانة له، ثم اضطرار الأخير للرد في الصحافة على ما وصفه لاحقًا "بأكاذيب" أبو سيف وتربصه به وبالمشروع.
يحكي توفيق صالح في وثيقة نُشرت من ضمن مقدمة كتاب "رسائل توفيق صالح لسمير فريد"، عما اكتشفه لاحقًا؛ فأيامها، بداية الستينيات، كانت مروية صلاح أبو سيف أنه من اختار توفيق صالح لإخراج الفيلم مكانه. لكن صالح يقول إنه اكتشف بعد مرور عقدين، أي في بداية الثمانينيات، أن مسؤولًا سياسيًا كبيرًا هو من أمر بتكليفه بإخراج الفيلم بعد أن شاهد فيلمه السابق "صراع الأبطال".
وهي المعلومة التي فسرت لتوفيق صالح تعسف أبو سيف منذ البداية، ونيته إزاحته عن المشروع، بتأجيله توقيع العقد معه، ورفض منحه عربونًا على العمل، مثلما كان شائع وقتها وحدث مع مخرجين آخرين، استلموا عرابين على أعمال لم يوقعوا عقودها أصلًا. لتتضخم الأزمة أكثر بين الاثنين بعد قراءة نجيب محفوظ لملاحظات توفيق صالح على السيناريو، وإعجابه بها، وتعبيره عن رغبته في أن يخرج الفيلم المأخوذ عن روايته بذلك الفهم.
المثقف صاعدًا وهابطًا مع المشروع القومي
إن لجأ الأب المستبد الذكي للقمع المباشر والعنيف، يحاول عادة ألا يشوه صورته كأب حكيم، فيبدو وكأنه أعلى من النزاعات، يلجأ إلى الابن الأكبر، يمنحه بعض السلطات وتفويضًا لممارسة القمع بالنيابة عنه تجاه الأبناء الأصغر، ويلعب أحيانًا دور الحكم بين الأطراف المختلفة. وهو ما لا يبتعد عن صورة عبد الناصر المكرسة بالتدريج، باعتباره الأب الذي يقسو أحيانًا على أبناءه/الشعب، أو على من يتمرد منهم. لكنه يظل في النهاية الأب الراعي، المحب، القادر على العفو، وإعادة الأبناء الضالين للطريق القويم الذي يعرفه هو.
هذا النموذج المعمم في أنظمة التحرر الوطني خلال الخمسينيات والستينيات، تعتمده دولة الأب/ناصر، وتطبقه في نموذج المثقف أو الفنان المتحول إلى موظف. فتختار من بين المثقفين والفنانين، أشخاصًا مقبولين وعلى علاقات طيبة بالكثيرين منهم، بحيث يتحولون لممثلي السلطة بينهم.
في عصر الصعود والمشروع القومي وبدايات القطاع العام السينمائي تكون السلطة من نصيب سينمائي مرموق كصلاح أبو سيف. لكن هذا النموذج سيتدهور لاحقًا وبالتدريج، لنجده في عهد مبارك، في زمن "إعادة المثقفين للحظيرة"، بعد أن قل الموهوبون وأصحاب الإمكانيات الحقيقية الحائزون على ثقة السلطة.
ولأن الدولة نفسها افتقرت فكريًا وثقافيًا، وفقدت رفاهية تعدد وجوه ممثليها المقبولين بين المثقفين، يتغير النموذج خلال مرحلة الانحدار، وصولًا لاختيار مثقف/موظف وحيد ليمسك بكل المناصب والسلطات، كالناقد علي أبو شادي، صاحب الكلمات التي تستهل هذا المقال في الهجوم على الرقابة، ليصبح، من ضمن مناصب أخرى، رئيس المركز القومي للسينما، ومستشار وزير الثقافة، ورئيس مهرجان سينمائي تابع للدولة، والرقيب؛ ممسكًا بالعصا التي تحدث عنها.
كأن مهمة الفنان أن ينجز عمله، وأن يركض باتجاه رئاسة الجمهورية، ليطرق أبوابها متسولًا منها النجاة
لا يهم هنا إن تناقضت طبيعة المهام الملقاة على عاتق الموظف نفسه، الشاغل لمكاتب مختلفة في أماكن مختلفة، بل أن رحلة الانحدار التي لا تنتهي تصل بنا في نهايات عهد مبارك، وعهد السيسي لاحقًا، لنموذج الدكتور خالد عبد الجليل، ممسكًا بالعديد من المناصب بدوره، بما فيها أن يعلم طلاب قسم سيناريو بمعهد السينما أن يبدعوا، أن يتخيلوا "بحُرية"، أن يكتبوا أفلامًا ستمر عليه لاحقًا لبترها أو رفضها إن أراد. وإن كان التحول المأساوي في هذا العقد الأخير هو بخل سلطته كرقيب في إصدار تقارير مكتوبة برفض بعض الأفلام أحيانًا، أو بحذف بعض مشاهدها، لتكتفي بالكلام الشفوي.
لعنة التمرد
يتولى الفنان المخرج صلاح أبو سيف منصبًا يسمح له بالتحكم في المسيرة المهنية لزملاءه، فيحكم على توفيق صالح بالبطالة طيلة فترة إدارته، هو و"شلته" بتعبير توفيق صالح، لشركة القطاع العام. ولا يُسمح له بالعمل سوى بعد تغيير إدارتها. لكن اللعنة لا تنتهي، فحين يستعيد مثقف السلطة لاحقًا، وبعد عقود، سيرة توفيق صالح، يستعيدها مجتزأة، يحذف منها أحيانًا ما يريد، ويرويها حسب أهواءه. وهو ما يفعله علي أبو شادي مع توفيق صالح حين يقرر، لسبب ما، الكتابة عن بعض أفلامه في مطلع التسعينيات.
بعد سنوات طويلة من إنتاجه، وفي سياق دفاعه عن نظام يوليو ونفيه لغياب الديمقراطية، يتناول علي أبو شادي فيلم المتمردون (1966) لتوفيق صالح في كتابه "السينما والسياسة"، الصادر عن دار شرقيات (1998)، كتجميع لعدد من مقالاته. لا يشير في إحدى هذه المقالات إلى أن السلطة الناصرية أجبرت صناع الفيلم على تغيير نهايته، بالرغم من أنه يذكر واقعة التغيير ومنع الفيلم طيلة عام ونصف، بشكل عابر في مقال آخر.
يتحدث الناقد/الرقيب/الموظف عن بعض المآسي التي تعرض لها "المتمردون"، وأفلام أخرى لتوفيق صالح، مثل يوميات نائب في الأرياف، لكنه ينتهي إلى نتيجة مثيرة للدهشة، وهي أن عبد الناصر لو كان شاهد المتمردون كان سينقذه غالبًا من ذلك المصير ويسمح بعرضه، مستشهدًا بمواقف أخرى للزعيم.
نشعر من استنتاجات علي أبو شادي أن توفيق صالح أخطأ لأنه لم يستنجد بعبد الناصر، وكأن مهمة الفنان أن ينجز عمله، وأن يركض باتجاه رئاسة الجمهورية، ليطرق أبوابها متسولًا منها النجاة! لكن الأهم هي إشارة علي أبو شادي في عدد من المقالات التي يتضمنها الكتاب إلى مسألة تناول السينمائيين لماضي ما قبل يوليو 1952، وليس الوقت الحاضر، فيفسره بمحاولة السينمائيين التملص من القيود الرقابية ومن سطوة السلطة، فيلجأون إلى الماضي لإسقاطه على الحاضر. وهو ما يتكرر كثيرًا في تاريخ السينما المصرية، على سبيل المثال الإشارة التي وضعت في بداية المتمردون أن أحداثه تدور عام 1950.
من ضمن السمات الأساسية للمثقف/الموظف في لحظة انحدار الدولة، أن يكون قادرًا على تغيير كلامه وتوجهاته عند الضرورة
لكن أبو شادي ينفي في الفقرة التالية ما سلم به في الفقرة السابقة، فيقول "إن العودة إلى الماضي لم تكن قط، كما يرى البعض، خوفًا وخشية، ونتيجة لحكم العسكر وغياب الديمقراطية، بل كانت في بعض الأفلام نوعًا من استلهام هذا الماضي، ومحاولة الإفادة من دروس التاريخ، واستيعابه لمواجهة الحاضر".
المثير للضحك المرير هنا أنه يتحدث عن المتمردون تحديدًا، عن فيلم يُدرك من يشاهده أن شخصية الدكتور عزيز/شكري سرحان معادل درامي واضح لعبد الناصر نفسه. وأن هذه المجموعة المتمردة التي يقودها الدكتور عزيز في مصحة العلاج من الدرن هي معادل درامي لسلطته السياسية، وأنها تفشل في إدارة المستشفى/البلد بسبب افتقادها للسياسة الواضحة وعشوائيتها واستبدادها، وفساد بعض من ينتمون إليها.
يصبح إذن من المستبعد أن ينقذ ناصر الفيلم الذي ينتقده في لحظة قوته، قبل انكساره وانهيار مشروعه في حرب الأيام الستة. فإن كان سمح بعد الهزيمة بأفلام من نوعية شيء من الخوف، أو ميرامار، أو القضية 68 (لصلاح أبو سيف)، فلأنه كان مضطرًا، بسبب ضعفه وهشاشة نظامه، فالقليل من "التنفيس" و"الفضفضة" ربما تنقذه.
المثقف متباكيًا على السينما وصانعيها
يكتب علي أبو شادي مقالات معادية صراحة لفكرة الرقابة في مطلع عقد التسعينيات، وينشرها في كتاب في نهاياته بعد أن احتل منصب الرقيب. لكنه كان رقيبًا يملك سلطة اقتربت في جانب منها مما امتلكه أبو سيف أو نجيب محفوظ في إدارة القطاع العام السينمائي، أو إدارة محفوظ للرقابة، فهي سلطة محملة بخطاب موجه للمثقفين والمبدعين؛ أنني في النهاية منكم، فمن الأفضل أن تكون السلطة في يدي، بدلًا من أن تكون في أيدٍ غريبة لا نعرفها، في تكرار لنموذج الأخ الأكبر بعد أن تهلهل.
من ضمن السمات الأساسية للمثقف/الموظف في لحظة انحدار الدولة، أن يكون قادرًا على تغيير كلامه وتوجهاته عند الضرورة، وهو ما نجده في هذه التوليفة من مقالات علي أبو شادي؛ غياب كامل لأي نسق فكري له تماسكه، أو موقع واضح يرى منه حال السينما في مصر. أما الجانب الآخر من هذه السمة فأن يكون جاهزًا ليحتد، أن يكون عنيفًا في النقد، ليس في نقد السلطة بالطبع، بل في نقد زملاءه.
التناقضات عند أبو شادي تتبدي في هذا التوصيف الدقيق للرقابة، التي لا تحتمل أي اقتراب من نظام الحكم أو نقده، وطبيعتها كعصا، بينما كان يمسك بالعصا التي يرفضها، ويُحمل السينمائيين المصريين مسؤولية عدم مواجهتهم لها، ويصفهم صراحة بأنهم جبناء.
وفي الكتاب نفسه، الذي يهاجم فيه الرقابة ويتحدث عن معاناة السينمائيين معها، يؤكد أحيانًا أن حال السينما المصرية سيئ بسبب هؤلاء السينمائيين أنفسهم، الذين أحجموا -وكأنه بإرادتهم- عن الاشتباك مع السياسة. بل يصل لوصف السينما المصرية بمجملها كسينما مستأنسة، وديعة، تمارس دورها في تغييب الواقع وتزييف الوعي، وأنها لم تكن على مستوى الأحداث، فلم تقدم على سبيل المثال أفلامًا تليق بحرب أكتوبر. وكأن أعمالًا مثل العمر لحظة أو الرصاصة ما تزال في جيبي، لم تكن مناسبة لوعي السادات بوظيفة حرب أكتوبر الضيقة، ورؤيته السطحية لها المفروضة على مجتمع كامل باستبداد وشخصانية.
يلجأ المثقف المرتدي لثوب الموظف للتعميم أحيانًا، مشهرًا العصا في وجه الجميع، فيصف من يسميهم أهل السينما في مصر بأنهم "لا يجيدون إلا نبش القبور.. وفن منازلة الموتى!! واستخدام أحط الوسائل في التزييف والتزوير والتضليل والتشهير". وبالطبع وكأي ذكر تقليدي في زمن بداية التسعينيات، يستخدم التلميحات الجنسية التي تُدين المرأة ضمنيًا، حتى وإن كان الحديث عن السينما، فيصف السينما المصرية بتهكم بأنها "شريفة.. لا تستطيع خدمة سيدين في وقت واحد".
انتهت صورة صاحب السلطة كأب حكيم بموت عبد الناصر، عادت إلى جوهرها بتعبير "السيد" المطلوب خدمته الذي يستخدمه علي أبو شادي. مات الأب بينما كان توفيق صالح في المنفى، بعد رحلة طويلة دفعته إليه، من لحظة الأزمة بينه وبين الفنان المحبوب صلاح أبو سيف بسبب "بين القصرين"، لتمتد للتضييق عليه ممن منحهم الأب تفويضات بممارسة السلطة. وهنا، مع موت الأب، يحزن توفيق صالح في رسالة من دمشق، ويعبر في جمل قليلة عن وعيه بأن الانحدار سيستمر.