يقول أورهان باموق في كلمته باحتفالية جائزة نوبل، في 7 ديسمبر/كانون الأول 2006 "أكثر سؤال يُطرح على الكُتّاب هو: لماذا تكتبون؟".
بشكل ما تبدو دائمًا هذه مسألة تحتاج إلى تبرير، توضيح، الكثير من الأسباب.
لا يسأل أحد لاعب كرة القدم لماذا تلعب. لا يُقال لموسيقي لماذا تعزف. أمّا الكتابة، فتبدو دائمًا كسلوك وقح؛ يجب تفسيره. لماذا تكتبون؟ ولماذا تكتبون الروايات تحديدًا؟
كان جابرييل جارسيا ماركيز صريحًا جدًا حينما قال إن مهنة الكاتب إذا قورنت بمهن أخرى مثل السبّاك أو الكهربائي تبدو غير نافعة ولا فائدة منها. لا أحد يعتبر حكاية الحكايات مهنة مفهومة.
ماركيز نفسه من تمنى لو أنه كان حكاءً عربيًا يمر على البلدات والقرى، يحكي حكاياته. فإن أعجبت الناس دفعوا إليه نقودًا، وإن لم تعجبهم مات من الجوع. إنها مهنة شاعر الربابة الذي كان يجول القرى والمقاهي المصرية، يحكي السيرة الهلالية، وحكايات الزناتي خليفة، وقصص عنترة.
في بداية رواية "زقاق المدق" الصادرة عام 1947، يصف نجيب محفوظ نهاية عصر شاعر الربابة وحكاياته. يطرد المعلم كرشة الشاعر بعد عشرين سنة من الإنشاد في قهوته. فقد حل عصر الراديو.
يقول الشيخ درويش في الرواية "ذهب الشاعر، وجاء المذياع. هذه سُنّة الله في خلقه". لكن ذهاب الشاعر لا يعني ذهاب الحكاية. فالحكايات تعرف كيف تقاوم. وتتمدد. لأن هناك أمثال باموق، كما قال مبررًا لماذا يكتب "أكتب لأني لست قادرًا مثل الآخرين على أداء عمل اعتيادي". ويقول قاسم حداد "أكتب ربما لأنني لا أحسن شيئًا آخر".
بشكل ما تبدو حكاية الحكايات أشبه بالغريزة. لا يمكن للبشر أن يتوقفوا عن ذلك.
كيف بدأت هذه الغريزة؟
لعلها بدأت في كهف ما قبل آلاف السنوات. بعد أن فنت الديناصورات، وانقرض أسلاف الإنسان الأول. لعل رجل الكهف خرج إلى الصيد، وجلست الأنثى ترعى الأطفال وتحميهم. وهناك، داخل الكهف، بقرب النار، وفي انتظار عودة الذكر بالطعام، بدأت تخبرهم أول الحكايات، وتمرر إليهم المعرفة. لعلها حكت لهم عن أصلهم. من أين جاءوا. وكيف جاءوا.
هل لذلك ما زالت النساء هن أبرع من يحكي الحكايات؟ هل لذلك مازالت أجمل الحكايات هي التي نحكيها قرب النار؟
ربما هذا ما كان يقصده كارل يونج باللاشعور الجمعي. أننا نحل تجارب أسلافنا في لا وعينا. لذلك مازلنا نحب الحكايات. ربما لأنها غريزة لا نملك مقاومتها. نحب تلك القوة التي امتلكتها شهرزاد وهي تحكي لحوالي ثلاث سنوات حكايات لا تنتهي للملك المتوحش. روضته، وهذّبت السفاح داخله بالحكايات. تلك كانت القوة الأعظم. هل نكتب لأننا نطمع أن نروّض العالم كما روضت شهرزاد شهريار؟
يقول قاسم حداد "ليست لدي أوهام تتصل بتغيير الواقع عن طريق الكتابة . الكتابة لا تغيّر، وإلا كان عالمنا قد أصبح فردوسًا منذ آلاف السنين. على العكس، بنظرة واحدة نستطيع أن نكتشف مقدار البشاعة والظلم والوحشية التي يتدهور إليها الواقع والإنسان معًا، ثمة أحداث تجري تؤكد أن الإنسان لا يتغير. الطيب والشرير والجميل والقبيح، إذا ولدوا بهذه الصفة يواصلون ذلك حتى الموت. الإنسان الأول لا يزال يتحكم فينا. الكتابة لا تستطيع أن تفعل شيئًا في هذا المجال. بالنسبة لي، الكتابة شأن ذاتي قادر على حمايتي من هذا التدهور، فالكتابة قلعتي".
الجمال هو حقيقة الفن الوحيدة
إذًا، فالحكايات قوة، لكنها قوة تحمينا من العالم. ليس من الضروري أن تنتصر عليه، لكنها توفر لنا بعض الأمان.
الأمان الذي لقيته شهرزاد وهي تحكي الحكايات. بينما من يدري ما كان يفعله شهريار كل يوم في مجلس الحكم مع بقية شعبه. هل جعلته الحكايات أكثر إنسانية نهارًا؟
في رواية "ليالي ألف ليلة" يقول نجيب محفوظ عن شهريار "ما زال السلطان متأرجحًا بين الهدى والظلال، فلا تؤمن غضبته". الحكايات لم تشف شهريار تمامًا.
يقول الرواي في ليالي محفوظ "وخلا دندان إلى ابنته شهرزاد فقال لها: لقد تغير السلطان، وتخلّق منه شخص جديدٌ مليء بالتقوى والعدل".
لكن شهرزاد قالت "ما زال جانب منه غير مأمون. وما زالت يداه ملوثتين بدماء الأبرياء".
فالحكايات، قد لا تغير من يسمعونها. أو هي تغيرهم إلى درجة ما. لكنها تحمي من يحكونها. هي قلعتهم، كما قال قاسم حداد. لذلك حين عدّد جورج أورويل أسباب الكتابة جعل أولها "الأنانية المطلقة".
يشرح أورويل ذلك قائلًا "الرغبة بأن تبدو ذكيًا، بأن يتم التحدث عنك، بأن يتم تذكرك بعد الموت، بأن تنتقم ممن ازدراك في طفولتك، إلخ، إلخ".
من الدجل أن نتظاهر بأن هذا ليس دافعًا وقويًا. الكتاب يتشاركون تلك الخاصية مع العلماء والفنانين والسياسيين والمحامين والجنود ورجال الأعمال الناجحين – باختصار "مع القشرة العليا للبشرية".
هذه الأنانية، الغريزة البشرية القابعة في جيناتنا مع غرائز حفظ النفس وحفظ النسل. يرى أوريل أنها مشتركة مع دوافع القشرة العليا للبشرية. لكن هل لرواة الحكايات ذات فائدة المحامي، والجندي، والعالم؟
قد نتشارك في الدافع الذاتي، لكن ماذا عن المنتج؟
ربما تكون فائدة الحكايات أجلّ. فالحكايات لا شيء من غير أسلوب حكايتها. والأسلوب فن. والفن هو الجمال. حتى لو كان الموضوع قاسيًا أو وحشيًا. الشرط الرئيسي للفن هو الجمال. قد لا تكون الحكاية/ الموضوع جميلة. لكن الفن يجعل كل شيء جميل. في الحكاية، وفي غيرها.
قصة "الخير الروماني"، عن السجين الروماني الذي كانت ابنته ترضعه سرًا حتى لا يموت. موضوع شديد القسوة. قاس أن تسمع عنه، وأقسى أن تراه. لكن عددًا من الرسامين، مثل هانز بيهام، صوروه في لوحات. إنها لوحات قاسية. لكنها، لكونها عملًا فنيًا، جميلة.
كذلك الشعر، حتى لو كان موضوعه قاسيًا. إن قصيدة مثل "الأرض الخراب" لـ ت إس إليوت بموضوعها النقدي القاسي، وموقفها من عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، ليست موضوعًا جميلًا. لكنها عمل فني جميل.
الروايات، الحكايات، لها ذات المنطق. هي عمل فني لابد أن يكون جميلًا في البداية. الجمال هو حقيقة الفن الوحيدة. كل شيء آخر هو طارئ على الفن. يمكن تقديمه، ويمكن الاستغناء عنه. الرسالة، والهدف، والموضوع. لكن الحقيقة الجوهرية التي ينبغي ألا تغيب هي الجمال.
لذلك تعيش الحكايات. لذلك نكتبها. لأنّ محبة الجمال أصيلة في النفس البشرية. حتى مع انتشار كارهي الجمال. الذين يجنحون للهدم والقبح والبغيض. يمكننا رغم انتشارهم أن نرى داخل النفس البشرية ذلك الميل القديم إلى كل جميل. ومن أجل ذلك الميل، نكتب الروايات.