حين يكون الواقع ثقيلًا ومُقبضًا لكنه في الوقت نفسه ثريٌّ بالأحداث المتلاحقة والحكايات والصور المتدفقة، فإنه يفرض نفسه على أي أديب، لا سيما إن انحاز إلى الكتابة الواقعية، أو كان ممن يرون في الروايةِ تاريخَ من لا تاريخ لهم، مدفوعين بالرغبة في تسجيل واحد من الأحداث الكبرى، أو التعبير عنه فنيًا.
لكن الكاتب حسام صابر مرسي في روايته سرايا مصر الجديدة لم يأتِ فقط بأبطال مخترَعين، ممثلين لمن كانوا في خلفية الأحداث التي وقعت في العقود الأخيرة، خصوصًا السنة التي سبقت ثورة يناير 2011 التي أعقبتها، إنما نجده أيضًا يقدم شخصيات حقيقية، مثل مينا دانيال، كانت ملء السمع والبصر أثناء الثورة، ثم يغلف سرده كله بأخبار وقعت، وبيانات صدرت، وقوانين سُنت، وأبيات شعر دالة على ما جرى، وأغنيات تتواءم كلماتها معه أو ترتبط بالحدث ذاته.
يدفع الكاتب هذه القلائد في أول كل فصل من روايته، ليس للزينة، لكنها تبدو افتتاحيات أو أمثولات أو لافتات تقول لنا طوال الوقت إن هذه رواية تنحاز إلى ما جرى، ولن تُخرجها أي حيلة فنية أو دفقة خيالية عن الخط الذي سارت فيه الأحداث، وسمع عنها ورآها المصريون كافة، كل من الزاوية التي يقف فيها. سواء كانت محمولة على الوعي والإدراك، أو الشعور والعاطفة، أو على المصالح والمنافع التي تحدد مواقف البعض من ثورة يناير خصوصًا.
لحظة الفعل بالنسبة ليوسف
تغوص الرواية، الصادرة عن دار كتوبيا للنشر والتوزيع مطلع هذا العام، في زمن مضى عن طريق آلية الاسترجاع، لتبرر اللحظة التي مثلت ذروة السرد وذروة الأحداث السياسية في آن، ألا وهي قيام ثورة يناير. فيبدأ الكاتب من خلال تتبع تطور أسرة بطل الرواية يوسف ميخائيل بشاي منذ ما بعد 1952، وكيف جاء التأميم أيام عبد الناصر ليغير الأوضاع الطبقية، وكيف حاز البعض ثروات بالتحايل والإزاحة والتلاعب بالقوانين، قبل أن يتعمق الفساد مع الانفتاح الاقتصادي.
ويمكن للبعض رؤية أن الخيال الواقعي، أو الواقع المتخيل، إن صح الجمع بين النقيضين، يتمثل في العلاقة الإنسانية التي قامت بين مسيحي ومسلم سلفي، جمعتهما دراسة الهندسة في جامعة القاهرة وقربتهما الظروف، إذ إن كليهما مثقل بأعباء السياق الاجتماعي الضيق ممثلًا في الأسرة، والسياق الاجتماعي الأوسع الذي يصنعه نهر الحياة الدافق. فنشأت بينهما صداقة عميقة.
والسياق الضيق يعبِّر عنه البوح المشترك، والتوحد الوجداني الذي جمع بينهما، إذ يقول البطل/الراوي: "أعجبت بحلو حديثه، وحكيت له عن كنيستي، وأنني أعد الموعظ لشعبنا، وحكيت له عن واقعة دق الصليب على يدي، وأنا طفل، ومباركة أبي معاندة لأمي الرافضة لهذا الأمر غير عابئ بألمي ووجعي، ووجدت ياسر أيضًا يحكي لي عن العنف الذي واجهه مع أبيه وأمه عند طهارته طفلًا".
وتأثير السياق الاجتماعي الأوسع في الرواية تحمله رغبة دفينة لدى كليهما في التغيير. تأتي الثورة، كحدث كبير، لتعبر عنه تعبيرًا لافتًا، يأخذ مساحة واسعة من السرد، بل يشكل أيضًا مركزًا للرواية، وربما يمثل الهدف الرئيسي من إبداعها، بوصف كاتبها واحدًا ممن عاشوا أحداثها، معوّلًا عليها في تحقيق آمالٍ عريضةٍ تطلَّعَ إليها.
لكن الكاتب لم يشأ الدخول إلى هذا الحدث الكبير مباشرة، من خلال الأدوات الفنية المتعارف عليها للسرد، لا سيما أنه سيكون مقيدًا، بل محاصرًا، بوجهات نظر الآخرين فيما جرى أمام عيونهم، بل ساهموا في صناعته، في زمن الرواية الأساسي عامي 2010 و2011.
لذا، أراد أن يغوص قليلًا في التاريخ، غير مكتفٍ بالجانب المعلوماتي إنما عبر وسيلة فنية أطلَّت منها وجوه شخصيات، وتوالت في ثناياها حكايات، حتى نصل إلى اللحظة التي أراد فيها بطل الرواية "يوسف" إنتاج فعل إيجابي، يتخلص فيه من إحباطاته المتوالية عاطفيًا ومهنيًا واجتماعيًا.
يردم يوسف في فعله الإيجابي هذا ولو جزءًا من الهوَّة بين عالم الحلم الذي كونه من حكايات الأم ومعسكر الكشافة وتجربة إسحق الجنايني من جهة، وواقعه الصعب من جهة أخرى، خاصة بعد اكتشافه فساد أبيه رجل الأعمال، والقلق الذي ساوره حيال أساس الثروة التي آلت إلى أسرته.
أصوات متعددة تتحدث عن الفقد
مكان الرواية الرئيسي هو مصر الجديدة، حيث تقع السرايا التي يعيش فيها البطل، والشقة البسيطة التي يسكنها المهندس ياسر السلفي في المنيرة، وبالقرب منها ميدان التحرير حيث تجمع الثوار ذات أيام. وهناك أماكن ثانوية، مثل معسكر الكشافة وكلية الهندسة وبعض الأماكن العامة والمقهى، لكنها لا تلعب أدوارًا كبيرةً في تشكيل الأحداث، ولا ينشغل الكاتب بوصفها.
يُخلص صابر مرسي فقط للثيمة الأساسية التي تمثل عصب روايته، وهي الفقد. فأغلب أبطاله يعانون منه، سواء كان حنينًا إلى زمن ولى، أو لوعة على راحلين، أو رغبة في أن يكون الزمن الآتي مختلفًا، على المستوى الفردي والعام، لكن تذهب هذه الأمنية سدى.
ليس الفقد وحده هو الذي يسيطر على الرواية التي تقوم على تعدد الأصوات، إنما أيضًا الانكسار والخذلان اللذان يحلان بأبطالها من الشباب حين يتعثرون في تغيير واقعهم، بل يبدأون في دفع ثمن رغباتهم ومحاولاتهم إحداث هذا التغيير، حين تبرد الحناجر، وتكل السواعد، وتطل القوى المضادة للثورة برأسها من جديد، وتبدأ في أخذ زمام الأمور.
وتأتي البنية الدائرية في الرواية لتعمق هذا الانكسار، إذ تبدأ الرواية ببطلها محبوسًا في زنزانة، قبل أن يتدخل أهله أصحاب المكانة للإفراج عنه، وهنا يقول "ليلتان قضيتهما في عتمة غرفة لا أعرف ما الذي جنيته. حشرات فوق جدران كالحة أراقب رحلة صعودها إلى أعلى، ثم لا تلبث أن يغيبها الظلام، فأظل مستيقظًا".
ولا يخبرنا الكاتب كيف أتى بطل الرواية إلى الحبس إلا في الصفحات الأخيرة، حين نعرف أنه تم القبض عليه في المطار، وهو يغادر البلاد بعد أن مات صديقه ياسر، وأخفق في الحب، وتبددت آماله في التغيير، وهنا يقول: "وبينما أوراق سفري أمام ضابط الجوازات يتفحصها، إذ يأتي رجلان من خلفي وينادونني: المهندس يوسف موريس؟ وقبل أن أجيب: محتاجين حضرتك خمس دقائق".
لا يمكن القول إن هذه الرواية، التي تكونت من 21 فصلًا جاءت كدفقات سريعة، تفادت الغرق في الحدث السياسي، لكن كاتبها لم يستسلم لهذا كليةً، حين فتح بابًا للماضي يعرض بعض أحداثه، وكذلك حين لم يغفل الجوانب النفسية والحياة الخاصة لأبطاله، وحين تبادلت فيه خمس شخصيات سرد الرواية بضمير الراوي؛ يوسف وموريس وماجدة وإسحق وسنية، وبعضهم لا علاقة له بالحدث الثوري، أو ليس منغمسًا فيه، كما هي حال يوسف.
ولم يكن من المتوقع أن تتفادى رواية تمثل ثورة يناير خلفيتها الفضاء العام المقبض الذي أعقب تعثر الثورة ثم التعمية عليها، بل وعقابها، ولهذا سكن الحزن نفوس كل الشخصيات تقريبًا، وتعثرت حيواتهم بفعل الموت أو السجن أو تدخل آخرين بقسوة في تحديد مصائرهم، وهذا ما يمكن أن يكون قد حدث للثورة نفسها بالفعل، باعتبارها المسار السياسي المؤنسن والمشارك في بطولة الرواية.