اختارت الكاتبة كارولين كامل لروايتها فيكتوريا ألا تُبحر من شطوط النقمة والغضب، واختارت لصوت النص ذا الطابع الذاتي أن ينزل عن منصة التعالي الأخلاقي، الذي قد يتسرب لمن تتحدث من موقع الأقلية المضطهدة. هذان الشرطان اللذان أحاطا بالعمل حرَّرا الكاتبة والشخصية من كل المسلَّمات والافتراضات السابقة عن رواية تتناول حياة المسيحيات (والمسيحيين على التوازي) بين الأقاليم والعاصمة، وفي فضاء الطبقات المتوسطة المتعلمة، ووسط مجتمع الأغلبية المسلمة.
التحرر يعني بالتحديد أن تخرج النقمة ويظهر الغضب بأكثر صورهما صدقًا، وفي أماكنهما العفوية من الرواية، لا أن يتحددا بمشاعر الضحية المنكسرة وخطابها الاستعطافي، ولا أن تمنع البطلة التي تنتمي للأقلية نفسها من تناول شكوكها ونفورها وتساؤلاتها داخل مجتمعها المسيحي، سواء من ناحية ممارساته الدينية أو حركته في الفضاء الاجتماعي الأوسع؛ أفكاره ومعتقداته ونظرته للأغلبية وقناعاته عن نفسه.
كفّارة العار
حملتني الرواية في مشهد من أجمل مشاهدها لـواقعة إفناء خنازير حي الزبالين بالمقطم في 2009، وتذكرت شعوري بالغثيان والقرف وقتها بشكل جسدي محسوس فيما يعاد المشهد أمامي داخل النص، وشعوري المزدوج بين الرغبة في التبرؤ من أي انتماء يجمعني بأولئك الذين يصرخون "الله أكبر" بينما يُصب الجير الحي على آلاف الحيوانات التي تصيح وتتلوى ألمًا، وشعور بالعار يدفعني لمشاعر اعتذارية ظللت أحاول التخلص منها مع الوقت ولا أزال لا أنجح تمامًا، نحو المسيحيين الذين كبرتُ بينهم والذين لا أعرفهم أيضًا، وكأني ملزمة بكفارةٍ ما لقاء ما يعانونه.
رأيتُ في المشهد، على الحقيقة وفي الرواية، كيف انصهرت "الكراهية والوحشية" (بلغة إحدى شخصيات "فيكتوريا") في سبيكة غِل، اجتمعت الحشود على توجيهه نحو حيوان صار شيطانًا.
مسألة التصنيم الإيجابي التي يعتقد المتدينون أنهم متحررون منها (فهم تخلصوا افتراضيًا من عبادة الأصنام)، حاضرة في صورة تصنيم سلبي في شيطنة الخنزير، توطئةً لشيطنة من يربوه ومن يأكلوه، وكذلك في التصورات الصنمية الميتافيزيقية عن طقوس وعادات أصحاب العقائد الأخرى، التي تتضخم روائحها ورموزها وملامسها ودلالاتها لتمضي نحو إسقاطات مرعبة، أو على أقل تقدير تمثّلات حسِّية مقرفة.
القرف الثقافي
تتقصى دراسة عن الشعور بالقرف Disgust الأبعاد البيولوجية والتاريخية له، فتقول "القرف الكلاسيكي له جذور عميقة في أفكارنا عن التَجنُّب Avoidance- وإبعاد المواد غير المرغوب فيها، وإبعاد أنفسنا عما يمكن أن يصيبنا بالمرض".
تتحدث الدراسة عن الشعور بالقرف ذي الأدوار الصحية الإيجابية، نحو ما تعفّن من اللحوم أو ما تلوث من المأكولات، فصار حاملًا للفيروسات ومسببات المرض. أما "القرف الثقافي" فهو أيضًا ظاهرة تاريخية تراكمية، تحمل أبعادًا بيولوجية محسوسة، ترتبط باستجابات حسِّية مثل الغثيان والتعرُّق، ونفسية مثل أعراض الوسواس والبارانويا.
أتذكر جيدًا جلسة مع صديقة من صديقات مدرستي بعدما صرنا كبارًا، وانتقلت حياتنا من مدينة بورسعيد الصغيرة للقاهرة، لتسكن مع والدتها في شقتهما في حي الضاهر، المعروف تاريخيًا بأنه يضم عددًا كبيرًا من المسيحيين.
كنا في العقد الأول من الألفية، وحكت صديقتي أن ولدين أو أكثر -لا أتذكر جيدًا- من سكان شارعهم ينتظرون يوميًا موعد عودة أمها أو عودتها للمنزل ليبصقوا عليهما من البلكونات. وأتذكر تمامًا ولا أزال، شعوري الجسدي بالقرف الشديد عند تخيل بصقة رجالية تسقط على رأس سيدة من أعلى، بلزوجتها وصعوبة التخلص منها، إذ يكبر شعور المهانة الذي سببته البصقة، وربما تزداد التصاقًا بك، مع محاولة تنظيفها.
المسيحيون كجماعة واسعة
تسير "فيكتوريا" على الخيط الحسَّاس بين الذاتي والجماعي وفق إيقاع رائع للكتابة وزمنها غير الخطي، وبين استطرادها وتكثيفها. هذا التنقُّل المتقطع/ المتناغم يسمح بإدراك عملية بناء التصور عن الذات بين الجماعة الأقلوية، التي تصبح ضاغطةً أكثر بكثير. بطلة الرواية وإن كانت تشارك البنات المصريات اللائي يكبرن في بيئة مسلمة التشكك بشأن جمالهن أو استحقاقهن أو أهليتهن، كما نكبر ونتربى جميعًا.
غير أن العلاقة بين الأفعال والقرارات الفردية وصورة الجماعة المسيحية عن نفسها، في مجتمع الأغلبية المتجبِّرة الهائجة، علاقة أكثر عمقًا ومصيرية. فكل ما تقوم به فيكتوريا، يدفعها بشكل لا إرادي للتفكير في أثره على والديها، والتساؤل عن رضا الأم المتوفاة والأب الذي تعيش في كنفه. ولكنه رضا لا يشبه رضا الوالدين العمومي الذي نعرفه، إذ أن الأغلبية هي التي تُعرِّف معنى "العمومي"؛ هو بالتحديد رضا الوالدين المسيحيين في المجتمع المسيحي، كما يدرك نفسه من ناحية، وكما تدركه الأغلبية المسلمة من ناحية أخرى.
تصرُّفات فيكتوريا الشخصية هي من مكونات صورة المسيحيين؛ المؤمنين إيمانًا صلبًا لا ينفذ إليه الشك في مواجهة الشيطان والأغلبية معًا، المنتظمين في الصلاة والصوم، الذين لا يأتون بتصرفات "المسلمين الهمجيين"، والمصابين بهواجس ووساوس وشعور متجدد بالتهديد في الشارع والجامعة والعلاقات، وعند دخول الكنيسة أو الخروج منها.
ومن الأثر على الجماعة الضيقة كالأسرة، تنتقل الرواية لتصوير أثر المناخ العام على المسيحيين كجماعة واسعة، واستقراء التطورات والحوادث الاجتماعية بشكل جماعي، لا يسمح بكثير من التنوعات واختلافات وجهات النظر، إذ أن حادثة واحدة مثل تفجير كنيسة القديسين في نهاية عام 2010 تكفي لتقرر عائلة متشعِّبة اقتلاع جذورها وتدبير أوراق هجرتها بكاملها خارج مصر. ولنا أن نتخيل كم حادثة وكم هجرة.
من أجمل المساحات التي فتحتها الرواية ذلك العالم البناتي المسيحي الذي اكتشفته فيكتوريا بدايةً من انتقالها للحياة في بيت الطالبات المسيحيات عند دخولها كلية الفنون الجميلة بالقاهرة. عشت التجربة نفسها عند دخولي الجامعة، وعاينت ثقلها الذي لم تخفِّفه إلا هؤلاء البنات- المسيحيات والمسلمات- اللائي عرّفنني على عالم متسع من داخله، يتحدى الناموس الحديدي الذي تفرضه الراهبة المديرة، التي يثير اكتشافها لأي واقعة خروج عنه رعبًا هائلًا.
البنات اللائي ينتظرن نوم المديرة ليدب فيهن نشاط لا ينقطع خلال الليل، يمتد من طبخ ولائم عشاء جماعي، وتجارب الماكياج ونزع الشعر بالحلاوة، وتبادل الآراء في الملابس الجديدة، وتشغيل الموسيقى وحفلات الرقص البلدي، وحواديت الحب والعلاقات الميئوس منها، والسخرية من الرجال وتهافت منطقهم، والبكاء والتشكِّي من وعورة مسالك العلاقات الشائكة والضعف حيال المشاعر.
صاغت كارولين كامل عبر ذلك العالم الصوت النسائي والمسيحي المناوئ، الذي يفاوض ضغوطًا اجتماعية هائلة بروح تسعى ألا تغتالها الكآبة والكبت والانعزال المفروض. عبر شخصية هِبَة، تنتصب مرآة جدلية في مواجهة فيكتوريا، تناقشها وتثير أسئلتها، تحرِّك فيها عواطفَ مشوِّقة وتفتح عيونها على حياة المسيحية التي تهرب من أقلويتها وتعتز بفرديتها في كبرياء، وتنفر من الهواجس الحمائية لدى أسرتها. تقول لها هبة في جملة جارحة "افردي ضهرك يا شيخة. تعرفي المسيحيين في الشارع من مشيتهم، كلهم ماشيين موطيين وبيبصوا في الأرض".
عرفت أولئك المسيحيات، ربما عرفت منهن نساءً أشجع من المسيحيين الرجال في مواجهة شروط الأغلبية وسلوكياتها، من حملتهن الظروف على الخروج عن سمت التواطؤ الاجتماعي الذي يُزيِّن استمرار الوضع على ما هو عليه، الذي يجيده الرجال أكثر ويحظون بسببه بحظوظ أكبر في التكيُّف والتعايش. تكفي حادثة شخصية واحدة، مثل أن تقع مسيحية في حب مسلم أو العكس، أو أن ترث المسيحية نصف ما يرثه أخوها حسب الشريعة الإسلامية، لينكشف الغطاء عن ذلك التواطؤ والسلم المنافق، وتثور عاصفة من الغضب والتساؤلات لدى المسيحية (أو المسلمة) التي تقع في مواقف من ذلك النوع. ربما لهذا السبب ارتسمت ملامح شخصية يوسف، الحامية المحافظة الفظة بعض الشيء، وفق كتالوج رجالي لا نلمح فيه تمايزًا كبيرًا بين مسلم ومسيحي.
عشت طفولتي ومراهقتي بين أصدقاء أغلبهم مسيحيين، في مدرسة راهبات واحدة، يبدو داخلها العالم مقسَّمًا بالتساوي بين مسلمين ومسيحيين، سواء مدرسين ومديرين أو طلَّاب. ولكن العالم في ما بعد تغيَّر بينما يتوسع، يتوسع لينغلق وتضيق الرؤى المطروحة أمامي فيه، وصولًا لدخولي كلية الطب وقت انفجار ظاهرة الدعاة الجدد. دخلت السنة الدراسية الثانية بالجامعة لأجد كل الشباب تقريبًا قصّروا البناطيل وأطلقوا اللحى، وكل البنات اللائي كن محجبات أصلًا توقفن عن السلام على زملائهن من الشباب باليد. وكلما مرت السنوات داخل الحرم الجامعي الكئيب المُنفِّر كنت أنعزل أكثر أنا وزميلة واحدة غير محجبة عن تلك الأغلبية الساحقة.
في سنة البكالوريوس، سمعت بالصدفة حديثًا بين زميلتين، عني وعن زميلتي:
- مش دول الدكاترة المسيحيين؟
- لا يا بنتي مش مسيحيين.
– أصل على طول مش باشوفهم غير واقفين في شلة المسيحيين.