برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا
دير مار إيليا في العراق (2005) قبل أن يدمره تنظيم الدولة الإسلامية

كنيسة المشرق المنسية

وريثة كنيسة إمبراطورية فارس

منشور الأحد 16 أبريل 2023

"إذا ضل أحد الإكليروس وتمرد، فاتبع معتقدات نسطوريوس أو سيلستيوس سرًا أو علنًا، فالمجمع المقدس يحكم أن العدل أن يسقط هذا وأمثاله من وظائفهم". - القانون الرابع من قوانين مجمع أفسس[1]

حينما تُذكر المذاهب المسيحية يذهب الغالبية لتقسيمها إلى ثلاثة مذاهب كبرى: الأرثوذكسية، الكاثوليكية، والبروتستانتية. لكنهم يغفلون مذهبًا رابعًا ضاربًا في العمق، فكنيسته تأسست في القرن الأول الميلادي واستقلت مذهبيًا وكنسيًا في أواخر القرن الخامس، ألا وهو المذهب النسطوري[2].

وريثة كنيسة فارس

يرجع ظهور المسيحية، حسب التقاليد المسيحية المختلفة، في منطقة الرافدين التي كانت تتبع مملكة فارس إلى القرن الأول الميلادي. أما تقليد كنيسة المشرق، فيقول أنها تأسست بعد تبشير توما، أحد التلاميذ الاثني عشر، ونظَّمها الرسولان أدي وماري في القرن الأول الميلادي. وظلت الكنيسة في أرض فارس والرافدين تتبع كنسيًا بطريركية أنطاكية، التي تقع ضمن أرض الدولة الرومانية، العدو التقليدي والاستراتيجي للفرس[3] مما تسبب في اضطهاد شديد لاتباعها.

اشتد الاضطهاد أثناء حكم سابور الثاني (339-379م) حيث كان ينظر لهم على أنهم جيوب للعدو. ولنفي ذلك الاتهام، عقد أساقفة كنيسة فارس مجمعًا في قطيسفون (المدائن) عام 410 ميلادية برئاسة مار إسحق، مطران قطيسفون، وأعلنوا أنفسهم كنيسة مستقلة تحت رئاسة البطريرك الكاثوليكوس/الجامع، مطران قطيسفون. وفي تلك اللحظة انقطعت الروابط بين الكنيسة في الأراضي البيزنطية والكنيسة في أرض فارس.

ساوبور الثاني والثالث

مع إعلان الانفصال، تم تأسيس كنيسة فارس التي رفضت مقررات المجمع الثالث المنعقد في أفسس في 431 ميلادية، وقبلت كل من حاكمهم المجمع بتهمه الهرطقة. ليس هذا فقط، بل وأعلنت نسطوريوس رئيس أساقفة القسطنطينية الذي حرمه المجمع وعدَّه مهرطقًا، قديسًا. وكذلك قبلت لاهوت ثيؤدور الموبسوستي/ المصيصي[4].

وبحلول القرن السادس الميلادي أصبحت كنيسة فارس المشرقية هي الكنيسة النسطورية، لتصبح هناك ثلاث كنائس في المشرق تعتنق ثلاث مذاهب مختلفة: الكنيسة اللاخلقيدونية الشرقية المسماة بـ"اليعقوبية"، وكنيسة فارس المشرقية المسماة بـ"النسطورية"، وكنيسة الروم البيزنطيين الخلقيدونيين المسماة بـ"الملكانية".

وخلال الفترة ما بين القرن الثامن وحتى القرن الرابع عشر الميلادي، كانت الكنيسة النسطورية هي أكبر الكنائس قاطبة من حيث الاتساع الجغرافي، وامتدت في العراق وشبه الجزيرة العربية وجزء من سوريا وتركيا، وإيران كلها، ومنطقة وسط آسيا والهند والصين.

لكن مع حلول القرن الرابع عشر فقدت الكنيسة النسطورية وجودها خارج أراضيها التاريخية، ما عدا الهند، حيث اعتنق المغول الإسلام وانقرضت المسيحية بينهم، وقضت أسرة مينج في الصين على المسيحية، بل حتى فقدت إيبارشياتها في الأراضي التاريخية لكنيسة فارس النسطورية، ولم يتبق سوى سبع إيبارشيات في أراضي فارس والرافدين[5].

تعاسة آشور

ومن هنا طوى النسيان تلك الكنيسة، التي ضربتها كذلك الخلافات الداخلية، فتركها البعض قاصدين الكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وفي عام 1552، وبسبب خلاف على تولي البطريركية، انشق نساطرة الموصل وشمال العراق عن نساطرة القوش وحكاري، وتكونت بطريركيتان منفصلتان؛ خط شمعون المؤسَّس حديثًا في 1552 على يد يوحنا سولاقا رئيس دير الربان هرمزد الذي تقبل رسامته بطريركًا من بابا روما يوليوس الثالث، وخط إيليا الممتد من القدم.

لكن الاتحاد بين خط شمعون وبين الكنيسة الكاثوليكية لم يمتد أكثر من قرن، حيث انقطعت كل العلاقات بينه وكنيسة روما في 1672، وأعلنوا إيمانهم بالإيمان القديم النسطوري. ولذا في 1700 كان هناك بطريركان نسطوريان وبطريرك كاثوليكي سيم عام 1681.

نعم، صار هناك ثلاثة بطاركة لنفس الأمة التعيسة صغيرة العدد. وفي 1804 انتهى خط إيليا بموت إيليا الثاني عشر وانضم مؤيدوه للحزب الكاثوليكي، وفي 1834 أصبح هرمزد بطريركًا للكلدان الكاثوليك وأصبح خط شمعون هو الممثل الوحيد للكنيسة النسطورية.

ومن سخرية القدر أن الجزء الذي انفصل عن الكنيسة النسطورية ليتحد بروما أصبح الممثل الوحيد للكنيسة النسطورية، وذاك الذي رفض الانضمام لروما أصبح هو البطريركية الكلدانية الكاثوليكية.

لكن التعاسة لم تقف عند ذلك الحد، بل نال نساطرة حكاري ما نال بقية مسيحيي الدولة العثمانية من مجازر وتشريد، قتل على إثرها البطريرك مار شمعون بنيامين في 1918، مما دفع بخليفته مار شمعون بولس بالهرب ببقية رعيته في تغريبة بعيدًا عن موطنهم في جبال حكاري إلى أورميا، ومات منهم الآلاف في الطريق ومنهم مار شمعون بولس البطريرك. ولذا اُنتخب الطفل بطريركًا في 1920 باسم مار شمعون إيشاي، وكان إيشاي في الثانية عشر من عمره وظل بطريركًا حتى اغتيل في 1975.

البطريرك شمعون إيشاي

وكانت بطريركية شمعون إيشاي سلسلة من المآسي، حيث ظلت منطقة الرافدين أرض توتر وصراع ما بين الأكراد والآشوريين والإيزيديين والقوات البريطانية والعرب والأتراك. وبعد أن كبر إيشاي ودرس في بريطانيا قاد حركة قومية آشورية واسعة للتحرر، مطالبًا بإنشاء منطقة حكم ذاتى للآشوريين.

لكن طلبه قوبل بالرفض، بل وقامت الحكومة العراقية بتحالف مع العشائر الكردية والإيزيدية بارتكاب مجازر وعمليات نهب وتهجير ضد القرى الآشورية، ما عرف بمذبحة سميل عام 1933. ولولا توسط بطريرك الكلدان الكاثوليك (الفرع الكاثوليكي من الآشوريين) مار عمانوئيل توما لدى الحكومة العراقية لأبيد كل الآشوريين.

واحتجزت الحكومة العراقية إيشاي ونفته قسريًا إلى قبرص، ومنها انتقل للولايات المتحدة الأمريكية وحصل على جنسيتها في 1949. وقبلها كان أصدر دعوته للآشوريين في الشرق والعالم ليكونوا مواطنين كاملين وأمناء لأي دولة يعيشون في ظلها، وبذلك انتهى الحلم الآشوري بالحكم الذاتي، وتحول الآشوريون إلى أقلية مشتتة في العالم كله.

لكن لم تكن تلك آخر الأحزان، ففي عام 1968 أصدر إيشاي مرسومًا إصلاحيًا يختص باستعمال التقويم الغريغوري، مما أدى إلى انفصال إيبارشيات الهند وغيرها عن كنيسة المشرق الآشورية، مكونين ما يعرف بـ"كنيسة المشرق القديمة". واُنتخب توما درمو كاثوليكوسًا بطريركًا لها، ليرجع ثانية الوضع لما قبل 1804 حيث يوجد بطريركان نسطوريان.

تزوج إيشاي في 1973 عكس كل التقاليد والأعراف، مما دفع شاب آشوري لقتله أمام باب منزله في كاليفورنيا في 1975. وبهذا انطوى العهد الأكثر مأساوية للكنيسة النسطورية، الذي دام 55 سنة، تغير فيها وجه الكنيسة والأمة الآشورية النسطورية، لتصبح الكنيسة المنسية.

يقدر الآشوريون حاليًا بحوالي مليون فرد، ينقسمون بين ثلاث كنائس، الأغلبية تتبع بطريركية الكلدان الكاثوليك (الجزء الآشوري الذي اعتنق الكاثوليكية وانتظم من 1834)، وأقلية تتبع كنيسة المشرق الآشورية تنتشر في العراق والهند وسوريا ولبنان وأستراليا وأمريكا الشمالية، وأقلية صغيرة تتبع كنيسة المشرق القديمة (التي انشقت عن كنيسة المشرق الآشورية في 1968) تتواجد بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا.

الكنيسة المنفية

أدى اختلاف لاهوت كنيسة المشرق عن باقي الكنائس في الشرق والغرب واعتبارها أن نسطور قديسًا، لابتعاد باقي الكنائس عنها، لتصبح جزيرة معزولة في وسط مسيحيّ الشرق، وكأنها كنيسة منفية. فلا شركة لها مع أي كنيسة ولا هي محسوبة على أي مذهب معروف.

ثم أصبح هناك توجه عدائي واضح ضد كنيسة المشرق ورفض انضمامها لمجلس كنائس الشرق الأوسط في عهد بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، البابا شنودة الثالث​​​​​​[6]

ورجوعًا لقرارات المجمع المقدس للكنيسة القبطية في جلسته المنعقدة فى يونيو/حزيران 1996 نجد النص التالي:

"اتضح بعد بحث ما جرى في الحوار السرياني في فيينا في يونيو 1994 وفبراير 1996 أن الآشوريين هم نساطرة يقدّسون نسطور مع ديودور الطرسوسي وثيؤدور الموبسويستي ويخطّئون القديس كيرلس. وذلك بالرغم من الحوار الذي أجرته معهم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وبعد أن تظاهرت الكنيسة الآشورية بالموافقة على الإيمان السليم. وهناك اتفاقيات تمت بينهم وبين الكاثوليك. ونحن مصممون على موفقتنا برفض دخولهم كأعضاء في مجلس كنائس الشرق الأوسط، إلى أن يعترفوا بعقيدة وقرارات المجمع المسكوني الثالث في أفسس"[7].

قال جورج طرابلسي، الباحث في الشؤون الآرامية للمنصة إن الأقباط "رفضوا أية علاقة، وعلى يدي، وتوسطت بين البطاركة، بل رفضوا مجرد الاستماع أو اللقاء بهم مؤخرًا أكثر من مرة". وعن سبب الأزمة يرى طرابلسي أن "أغلب الأساقفة القبط إما أسيرو نظرة الماضي التي تقول عن إيمان المشارقة ما لا يقولوه هم أصلًا، أو يخشون ردة فعل التيار المتشدد. وحتى المنفتحين منهم، وهم قلة قليلة جدًا، غير ملمين بكافة التفاصيل عن المشارقة، ولا يفضلون التصدر لئلا يلاموا أو يشهَّر بهم داخليًا".

عن دوره في التوسط لحل الوضع المتأزم، قال طرابلسي "توسطت أكثر من مرة لعقد لقاء بطريركي أو حتى أسقفي تمهيدي، لكن الغالبية العظمي فضلت الابتعاد. تدخلت على مستوى كنائس العائلة وأبدوا استعدادهم للمبادرة، لكن القبط رفضوا"، ورغم ذلك يتفاءل طرابلسي بأن الأزمة ستنفرج، معللًا ذلك برحيل الجيل المتشدد فكريًا المعادي لكنيسة المشرق.

وفي محاولة لجمع الشتات، اجتمع قادة الكنائس ذات التراث السرياني المشترك بدعوة من بطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، مار إغناطيوس أفرام الثاني، في ديسمبر/كانون الأول 2022، في لبنان. وكان منهم بطريرك كنيسة المشرق الآشورية، مار آوا الثالث. وصدر عنهم بيان مشترك أكدوا فيه على خمسة محاور تجمع كنائسهم؛ الروحانية السريانية، الحضور السريانى في الشرق، الحضور السرياني في بلاد الانتشار، شراكة في الشهادة، التراث السرياني المشترك.

ويبدو أن الوقت حان لتظهر كنيسة فارس المنسية، وتأخذ وضعها بين أخواتها من الكنائس الشرقية، فهذا ما عبَّر عنه المحور الرابع في البيان المشترك "نشكر الله على كل الجهود المبذولة من أجل انفتاحنا ككنائس على بعضنا البعض، وسَعينا الدائم نحو التقارب والوحدة الإيمانية المنشودة، لا سيّما عبر اشتراكنا في اللجان المختلفة للحوارات اللاهوتية الرسمية بين الكنائس. ونتعهّد باحترام الخصوصيات اللاهوتية والعقائدية لكل كنيسة من كنائسنا، مشدّدين على رباط مسكونية الدم، الذي يوحّدنا في شهادتنا لإيماننا بالرب يسوع ودفاعنا عن وجودنا وحضورنا في بلادنا، فضلًا عن التزامنا المشترك في خدمة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله".


 [1] هو اجتماع مائتي من أساقفة الكنائس من كل العالم عام 431 م في مدينة أفسس حاليًا في تركيا، المرجع الراهب القس أثناسيوس المقارى، قوانين المجامع المسكونية ص115

[2] Brock, Sebastian P; Coakley, James F. "Church of the East". Gorgias Encyclopedic Dictionary of the Syriac Heritage

[3]  الكنائس الشرقية و أوطانها – ج1 – الراهب القس أثناسيوس المقاري

[4] كنيسة المشرق، التاريخ المصوَّر للمسيحية الآشورية، كريستوف باومر

[5] كنيسة المشرق: التاريخ - العقائد - الجغرافية الدينية يوسف حبي)

[6] يا أخوتنا الكاثوليك، متى يكون اللقاء؟ حلمي القمص يعقوب

[7] القرارات المجمعية في عهد صاحب القداسة والغبطة البابا شنودة الثالث، المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، ص59