"أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا" هكذا وبَّخ بولس أهل غلاطية، وهي مدينة قديمة تقع في آسيا الوسطى، على عدم إيمانهم وتفضيلهم للأعمال الصالحة عن الإيمان، ولكن لهذا النص دلالة بالغة على أهمية الرسم أو التصوير في المسيحية.
واللافت أن فن التصوير المسيحي له روافد في الثقافتين المصرية القديمة والهيلينية، حتى أن كثيرًا من الأيقونات الشهيرة تعميد لصور أقدم لآلهة وشخصيات أسطورية يونانية ومصرية.
منذ بدايات القرن الأول، بعد ظهور المسيحية بأقل من 30 سنة، كان المسيحيون يعبرون عن إيمانهم بالرسم، ويصورونه في رموز وحركات حسية، وهذا ما رصده أبو التاريخ الكنسي يوسابيوس القيصري (توفي 339 ميلادية) في كتابه "تاريخ الكنيسة"، حيث ذكر أنه رأى صورًا للمسيح والتلاميذ بل وبعض تماثيل للمسيح، ويقول باسيليوس الكبير (توفي 379 ميلاية) "إن الأيقونة وخصوصًا المتقنة الرسم، تجذب الأنظار وتجعل الحقيقة التي تمثلها أحب إلى عقولنا وأعمق وأسرع وأبقى تأثيرًا في نفوسنا".[i]
ترجع أقدم أمثلة لتصوير المسيح للقرن الثالث الميلادي، وتتواجد في ثلاثة أماكن، أقدمهم هي كنيسة دورا أوربوس بمحافظة دير الزور شمال شرقي سوريا، وهي أقدم كنيسة معروفة حتى الآن ترجع للفترة من 230 حتى 260 ميلادية، وتليها مقابر وسراديب روما وهي أكبر متحف للفن المسيحي في الفترة من 250 إلى 400 ميلادية، ثم مقابر البجوات في صحراء مصر التي تعود إلى القرن الثالث وحتى الخامس الميلادي.
من يتتبع فن تلك الفترة سيجده محصورًا في أنماط ثلاثة:
- تصوير قصص من الكتاب المقدس، كقصة الفتية الثلاثة أو نوح، وغيرهما من القصص.
- تصوير المسيح الراعي أو قصص من حياته.
- الرموز المسيحية مثل السمكة والعقاب والصليب.
لم يكن انتشر وقتئذ تصوير عظماء المسيحية من الشهداء والقديسين بشكل منفرد، فقط بضعة صور لتلاميذ ورسل المسيح، أما تصوير القديسين فبدأ منذ القرن الخامس الميلادي وما بعده.
تأثير الوثني على المسيحي
كان الفن المسيحي في بدايته بسيطًا جدًا، ولكن لما صارت المسيحية دين الدولة الرومانية في العقد الأخير من القرن الرابع الميلادي على يد الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير، ورثت إرث الوثنية من فنون وموسيقي وطقوس عبادة احتفالية، وعمَّدت الفن الوثني فجعلته مسيحيًا، في مصر مثلًا استغلت أماكن الأعياد المصرية القديمة وصنعت مزارات لقديسين بجوارها لتحول الشعب عن ممارسة الاحتفالات التقليدية القديمة لاحتفالات جديدة تتماشى مع الفكر المسيحي.
وهنا يرى بعض المؤرخين المسيحيين أن الأيقونة نتاج خبرة وثنية تم تعميدها، فيما يرى آخرون أن الأيقونة نتاج الخبرة اليهودية، معتمدين في رأيهم على بعض الاكتشافات الأثرية.
وعن تأثر الفن المسيحي بالفنون السابقة تقول الباحثة في الآثار والفنون القبطية أمنية صلاح إن الإرث الإنساني متصل بعضه ببعض، فكل فن يؤثر فيما بعده ويتأثر بما قبله من فنون، وهكذا هو الفن القبطي بشكل عام، والأيقونوجرافي القبطي بشكل خاص، سواء الصور الجدارية التي نُفذت على جدران الكنائس والأديرة، أو الصور الشخصية المعروفة باسم البورتريهات، التي يعتبرها البعض وريثة بورتريهات الفيوم بشكل أكثر بساطة وتجريدًا، إذ ناله من التأثر بالفنون المصرية القديمة والفنون اليونانية الرومانية ما ناله.
"الأيقونجرافي المسيحي فن رهباني تعليمي في المقام الأول.. تأثر في تكوينه الفني بما سبقه بشكل فطري، سواء في الفكرة أو الموضوع المصور" تضيف صلاح، وتوضح للمنصة "من حيث الفكرة، أرى أن المصريين اشتركوا على اختلاف عقائدهم في منطق وجود الوسيط الروحاني، سواء ضريح أو أيقونة، فلمسه وتقبيله وإيقاد الشموع له من الموروثات الشعبية القديمة المتوارثة في المجتمع المصري منذ القدم. أما من حيث الموضوع فصوّر الفنان القبطي الكثير من العناصر ذات الصلة بالميثولوجيا اليونانية والمصرية سواء عناصر بشرية أو إلهية، أو حتى بعض الطيور والنباتات والزخارف المختلفة".
تضرب صلاح مثالًا بالأيقونة الشهيرة لمارجرجس، وهو راكب على حصان ويقهر الشيطان الساقط على الأرض، التي يعود أقدم نموذج لها إلى القرن السابع الميلادي، وتقول إنها إعادة إنتاج لأيقونة الإله هيرون الفارس، الذي مثَّل إله الحماية في آسيا الصغرى، وانتشرت عبادته في مصر أيضًا، حتى أن له أيقونتان خشبيتان خرجتا من الفيوم؛ واحدة تمثله وحيدًا والأخرى تصوّره مع ليكورجوس وتتشابه كثيرًا مع أيقونة سرجيوس وواخس، الشهيدان المسيحيَّان الصديقان.
ولهيرون أيضًا جدارية موجودة في بيت في قرية كرانيس المندثرة بالفيوم والمعروفة حاليًا بمنطقة كوم أوشيم، إذا رأيتها لخيّل لك أنها جدارية للعذراء تُرضِّع المسيح وبجانبهما شهيد مسيحي، ولكنها جدارية وثنية تصوِّر إيزيس ترضع الإله حربوقراط المعروف بـ"حورس الطفل"، الذي عُرف منذ العصر اليوناني الروماني في مصر رسميًا بإله "الطفولة"، وإلى جوارهما الإله هيرون راكب على حصان، وهنا نلاحظ وجود هالة نور حول رؤوسهم، التي هي في الأصل تصوير وثني هيليني، إذ كانت تُرسم محيطة برؤوس الآلهة قديمًا.
ومن قديسي المسيحية، كان الشهيد ثيؤدوروس أول من صُوِّر راكبًا على حصان، مثل أيقونة هيرون أو منحوتته المعروفة، ومن بعده انتقل ذلك التقليد للشهيد جيؤرجيوس أو المعروف في مصر بمارجرجس الروماني، ولكن جذور لوحة الانتصار على الشر ترجع في الوجدان الإنساني إلى ما هو أقدم من هيرون، حيث نرى منحوتة تصوِّر حورس الإله المصري الحامي راكبًا على حصان و منتصرًا بحربته على تمساح أسفله، وهي نفس صورة مارجرجس الأشهر، ولكن تحوَّل التمساح إلى تنين مشابه للتمساح في تكوينه، بل وأيضًا صورة الملاك ميخائيل المعروفة، وهو يقهر الشيطان تحته قدميه فاردًا جناحيه.
وهناك جدارية ست إله الشر في معبد آبيس بالواحات بمصر وهو يقتل أبيب الحية العظيمة، إله الفوضى في الميثولوجيا المصرية القديمة.
أما الشهيد فيلوباتير مرقوريوس، الملقب بـ"أبو سيفين" فله أيقونة شهيرة وهو يدحر الإمبراطور الوثني يوليان، التي تشبه إلى حد كبير شاهد قبر يعود للقرن الرابع الميلادي للفارس اليوناني ديكسيليوس، يصوره على صهوة جوادة وهو يقهر عدو ملامحه مرتعبة من ديكسيليوس.
حتى أيقونة أو جدارية العذراء المُرضعة، فهي بمثابة تعميد لجدارية إيزيس التي تحمل حورس في حجرها، فحلت الثيؤطوكوس أي "والدة الإله"، محل إيزيس رمز الأمومة.
ومن أقدم التصاوير المعروفة التي تم فيها تمثيل المسيح وهي الموجودة في سراديب روما وتعود إلى القرن الثالث الميلادي، تم اقتباسها من الميثولوجيا اليونانية، فجدارية الراعي الصالح ما هي إلا تصوير كريوفوروس (حامل الكبش) الأسطورة الوثنية الخاصة بهيرميس المخلِّص الذي حمل كبشًا على كتفه لخلاص المدينة.
ويُلاحظ أن أقدم الجداريات والأيقونات الشبيهة بالإله هيرون خرجت بالأساس من آسيا الصغرى ومصر حيث عبادة هيرون، ومن المدهش أيضًا كيف أن المسيحية التي تحمل بغضًا واضحًا للعنف وشعار مؤسسها، أن "مملكتي ليست من هذا العالم"، قبلة بشعبوية جداريات الفرسان والحروب، فانحسرت أيقونات الشهداء الواقفين في وداعة ناظرين للمؤمنين، وظهرت أيقونات الشهداء الفرسان المنتصرين على الشر وذابحي التنانين.
في بدايات المسيحية في مصر، كان هناك فريق مسيحي متصالح مع سياقه الثقافي سواء الحضارة المصرية القديمة أو اليونانية الهلينستية، وطوَّر السياق واستخدمه لخدمة المؤمنين وتعليمهم، وكذلك لتزيين كنائسهم التي أصبحت كاتدرائيات فخمة بعد أن كانت مجرد قاعات عبادة داخل المنازل.
اختفت المعاني الأصلية للأيقونات الوثنية وحلت أيقونات ثيؤدوروس وجيؤرجيوس وديمتريوس، وغيرهم من الشهداء الجنود المسيحيين محل هيرون، وحل مكان ديكسيليوس فيلوباتير مرقوريوس، ومحل حورس أو سِت المجنح الملاك ميخائيل، ومكان إيزيس العذراء مريم، ومع مرور الزمن ذابت المخرجات الفنية القديمة وحلت محلها المخرجات المسيحية، فإن رأيت تمثالًا لهيرون قد تظنه منحوتة عظيمة لمارجرجس.
[i] سامر سمعان، نشرة بطريركية الروم الأرثوذكس، السنة الثالثة مارس/ آذار 1994 الجزء الثالث ص 15