انتهت فترة الاحتفالات السنوية بعيد الميلاد، وتحدث رؤساء الكنائس كالعادة عن رسائل السيد المسيح في المحبة والسلام، والإنسانية المشتركة، والاعتراف بالقيم التي توحد بين الجميع في ظل ظروف صعبة على المستويين المحلي والدولي.
في الوقت نفسه، أصبح من المعتاد كل عام أن تثار ما يمكن تسميته بمتلازمات أعياد المسيحيين، وإذا كانت المتلازمة طبيًا تشير إلى الأعراض والعلامات المصاحبة لمرض معين، فينطبق تعريفها على بعض القضايا التي أصبحت تتزامن مع فترة الأعياد، وتؤشر لخلل في العلاقة بين المواطنين من جانب، وطريقة تناول المؤسسات الدينية للظواهر الاجتماعية ودورها في التعامل معها من جانب آخر. نستعرض هنا بعض المتلازمات التي صارت جزءًا من طقوس أعياد المسيحيين.
الخوف من"العيدية"
مرَّ العيد هذا العام بسلام، لم يحدث ما يعكر صفو الاحتفالات، بخلاف حادث يوم 8 يناير/ كانون الثاني في مركز بني مزار، الذي بدأ بمشاجرة عادية تحولت لاعتداءات طائفية تم التعدي فيها على عدد من المسيحيين ورشق منازل بالحجارة.
ارتبطت الأعياد خلال سنوات سابقة بوقوع بعض الحوادث الإرهابية والطائفية، وهو ما دعا البعض لتسميه ذلك بالعيدية، في إشارة للكراهية والرفض لوجود الآخر.
يكفي أن تقدم القيادات الدينية التهنئة، إذا أرادت
بدأ ذلك مع استهداف المصلين في نجع حمادي عقب خروج المصلين من الكنائس عشية عيد الميلاد 2010، وتفجير كنيسة القديسين في فجر أول أيام 2011، ثم تفجير كنيستي مارجرجس بطنطا والمرقسية بالإسكندرية في أحد السعف 2017، وغيرها من الاعتداءات التي خلفت ورائها عشرات الضحايا والأسر المكلومة، ومما أدى لوجود مخاوف مزمنة من تحول الأعياد والاحتفالات إلى سرادقات للعزاء.
وعلى الرغم من تراجع هذه الاعتداءات مؤخرًا، يظل الخوف خلال فترة الأعياد حالة طبيعية في ظل العلاقات المجتمعية المتوجسة وخطاب التعالي والاستقواء ضد الآخر الديني، المنتمي لمجموعات أقلية.
من واقع تجربتي الشخصية، حيث قضيت بعض الأعياد في تغطية ومتابعة هذه الحوادث، لمست ما تتركه هذه الحوادث في النفوس من ألم يصعب شفاؤه.
حرمانية وجواز التهنئة بالعيد
مع كل عيد للميلاد، تنتشر فتاوى لشيوخ مشهورين، ليسوا بالضرورة من التيار السلفي، عن تحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم بحجة أن التهنئة قبول لعقيدة فاسدة، ومشاركة لأهلها في طقوس دينية محرمة.
في المقابل، ترد دار الإفتاء المصرية بفتوى مضادة، جاء فيها هذا العيد "لا مانع شرعًا من تهنئة غير المسلمين في أعيادهم ومناسباتهم، وليس في ذلك خروج عن الدين كما يدَّعي بعض المتشددين، فتهنئة شركاء الوطن من غير المسلمين بمناسباتهم وأعيادهم من حسن الجوار ورد التحية بالحسنى وحسن التعايش، وهي مبادئ إنسانية راقية يدعو إليها الشرع الشريف كتابًا وسنةً، ومارستها السيرة النبوية العطرة".
بطبيعة الحال، تبذل المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية، في مقدمتها مشيخة الأزهر ودار الإفتاء، جهودًا مشكورة لتصحيح هذه الصورة، خصوصًا فيما يتعلق بعيد الميلاد، والتأكيد أن التهنئة ليست خروجًا على الدين، وأنها نوع من البِر.
لكن تظل الأصوات الرافضة للتهنئة عالية وذات تأثير، وهو أمر لفت إليه مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، من أن تهنئة شيخ الأزهر للقيادات الدينية المسيحية بالعيد، المنشورة عبر صفحته على فيسبوك، لاقت 16 ألف تفاعل غاضب وساخر من الرافضين لفكرة تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد. وأرجع المرصد ذلك للجهل بتعاليم الدين والمفاهيم المغلوطة التي روج لها البعض حول تعارض ذلك مع العقيدة الإسلامية.
هذا الجدل المثار في كل عيد يُظهر أن الإصرار على نشر فتوى جواز تهنئة المسيحيين يقلل من قيمتها، ويهين بشكل ما متلقي التهنئة، إلى جانب أنه يحقق عكس ما تهدف إليه هذه المؤسسات، والتي تظهر أنها تحاول تبرير مخالفة ما من أجل صورتها العامة، لا سيما مع العبارات المستخدمة من قبل "جواز التهنئة" و"ليس فيها خروج عن الدين"، مما يقدم مساحة للأصوات الرافضة في إعادة الظهور والانتشار.
يكفي أن تقدم القيادات الدينية التهنئة، إذا أرادت، كما فعل شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، في تهنئته هذا العام، بدون تبرير ولا تفسير كنموذج عملي يحتذى به.
ومن الأمور التي تثير الدهشة خلال السنوات الأخيرة، ظهور أصوات بين المسيحيين أنفسهم، وإن كانت ليست بنفس الحدة. بعض المنتمين للتيارات المتشددة من الأرثوذكس أعلنوا رفض مظاهر الاحتفال بالتزامن مع أعياد الميلاد وفقا للتقويم الغربي يوم 25 ديسمبر، حتى لو قام بذلك أقباط المهجر في المجتمعات التي يعيشون بها. وانتشرت شعارات منها "أنا مسيحي أرثوذكسي ولا أحتفل بأعياد الكاثوليك أنا عيدي 29 كيهك".
على المسؤولين عن تنظيم الاحتفال إداراك أن هذه السلوكيات لا تليق بصلوات دينية
يستند كل من الطرفين إلى نفس الأسباب التي ترى العقيدة من منظور ضيق وتتشدد في تفسيراتها، ولا تكتفي فقط بنشر فكرها، إنما تحاول إلزام الآخرين به، مستغلين الميل العام المحافظ المنتشر بين المصريين.
بشكل عام، أرى أن التهنئة بالعيد في حد ذاتها سلوك اجتماعي مهم ومطلوب، ليس له علاقة بالدين أو العقيدة، لكن لا يمكن إجبار الناس عليه، كما أنه فقد كثيرًا من معناه بفعل التطور التكنولوجي.
أتذكر في قريتنا، وهى نموذج لأغلبية القرى المصرية، أنه في يوم العيد كان الأهالي يمرون في مجموعات على المنازل لتقديم التهنئة بالأعياد المسيحية والإسلامية للجميع. هذا الشكل انحسر حتى داخل الأسرة الواحدة إلى مكالمة تليفونية، أو رسالة مكتوبة، ثم إلى صورة على واتساب أو ماسنجر!
محتلو الصفوف الأولى
أصبح من قبيل العادة، قبل عظة البابا أو الأساقفة في الكنائس الكبرى خلال صلوات عيدي الميلاد والقيامة، أن يتلو قائمة طويلة من أسماء الحضور أو الذين أرسلوا برقيات بالتهنئة، يعقب كل اسم تصفيق، وأحيانًا زغاريد، تختلف حرارته حسب المسؤول وطبيعة منصبه.
بدأت هذه الظاهرة مع عودة البابا شنودة من التحفظ بدير الأنبا بيشوي يناير 1985 بشكر مبارك و كبار القيادات العليا للدولة، ثم تطورت لتشمل قائمة طويلة من الوزراء ومساعديهم وقيادات مؤسسات الدولة والهيئات العامة وأعضاء مجلسي النواب والشيوخ، وعشرات مما يطلق عليهم الشخصيات العامة.
وأصبح هناك من يذهب لحضور قداس العيد خصيصًا ليظهر على شاشات التليفزيون، أو ليُذكر اسمه من أجل تحقيق منافع خاصة، خصوصًا أن الدعوات ترسلها الكنائس إلى قوائم محددة سلفًا، سواء للمهنئين أو الحضور، وهناك من يتوسط ليجد مقعدًا في الصفوف الأولى بجوار قيادات البلد.
على المسؤولين عن تنظيم الاحتفالات إدراك أن هذه السلوكيات لا تليق بصلوات دينية، لأنها حولتها من مناسبة يفترض أن يسودها الخشوع والهدوء والتفكر في قيم الميلاد والقيامة ورسائل المسيح، إلى مهرجان احتفالي تكريمي، وكأن "فقرة" شكر المهنئين هى الأساس. خصوصًا أن كثيرًا من الحضور يغادرون الكنيسة عقبها مباشرة. كما لاحظنا هذا العام إجهاد البابا وتعبه وعدم قدرته على استكمال القداس.
هذه الممارسات محل انتقاد قطاع واسع من الأقباط، فنحن لسنا في فرح شعبي تتم فيه الحفاوة بمقدمي النقوط.
يكفي أن يقدم البابا أو الأساقفة الشكر لرئيس الجمهورية أو محافظ الإقليم لما تمثله الزيارة من دلالة ومعنى، ثم يقدم البابا الشكر لجميع الحضور بدون ذكر أسماء. ويمكن أن تنشر الأسماء على موقع الكنيسة لتكون متاحة لمن يريد تصفحها.
كل عام والجميع بخير وسلام.