تصوير هاني المصطفى، المنصة
مائدة رحمن في حي العصافرة بالإسكندرية، 11 مارس 2024

مرة واحد مسيحي راح مائدة رحمن

منشور الأربعاء 12 مارس 2025

قبل عامٍ وفي أول رمضان أقضيه بمدينة الإسكندرية، استوقفتني لافتة للإعلان عن مائدة رحمن في حي العصافرة، كُتب عليها بخطٍ كبيرٍ واضحٍ "مائدة الرحمن لعباد الرحمن". لم أر من قبل صياغةً بليغةً كهذه على مداخل موائد الرحمن.

في العادة لا يُكتب شيء على مداخل الموائد إلا اسم صاحب المائدة إن كان في الأمر دعاية انتخابية، أو اسم شخص متوفى يقيم أهله هذه المائدة صدقةً جاريةً على روحه، أو تهنئة للصائمين بشهر رمضان، أما أن يختار سكان هذا الحي الشعبي البسيط عبارة "عباد الرحمن" ففيها دعوة تخلو من أي تمييز من أي نوع.

اقتراح مباغت وشهي

مائدة رحمن لكل عباد الرحمن؛ صائمين وغير صائمين، مسلمين وغير مسلمين. عادت بي هذه الخاطرة لرمضان قبل عامين حين أخبرني صديق مسيحي برغبته في تناول الإفطار بإحدى موائد الرحمن المنتشرة بطول القاهرة وعرضها. لم أندهش من رغبته بل من تخوفه من الذهاب بمفرده وطلبه أن أرافقه تجنبًا للتورط في أي مواقف محرجة.

لم تأتِ رغبته لمشاركة إخوانه في الوطن تجربةَ مواطنةٍ من أي نوع، فكلانا يسخر من كرتونية تناول الإعلام علاقة المسلمين والمسيحيين في مصر في زمن يؤجج فيه المتعصبون نارَ الكراهية في كل مناسبة. بل كانت أملًا في تناول طعام شهي مجاني يسمع عنه من زملائه المسلمين في العمل ظل الأزمة الاقتصادية، وهو السبب نفسه الذي يدفعني للإفطار على موائد الرحمن، فاتفقنا على التوجه إلى حي السيدة زينب، حيث عثرنا على مائدة رحمن متواضعة غير مزدحمة.

الهروب من أشباح الماضي

قبيل وصولنا، أسدل صديقي أكمام قميصه ليخفي الصليب الموشوم على معصمه الأيمن، حاولت إثناءه عن هذا الفعل لمعرفتي بتسامح أبناء البلد في حي عريق مثل السيدة زينب، لكني فشلت أمام توتره وخوفه.

سيدة مصرية مسيحية في حي الموسكي.

تعُود أصول عائلة صديقي إلى قرية صغيرة قريبة من قرية الكشح  في مركز دار السلام بسوهاج، والكشح شهدت مذبحة للمسيحيين ووجود كبير للحركات الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي.

يعرف صديقي أقارب وجيرانًا له هناك وقعوا ضحايا للإرهاب إما بالقتل أو بالضرب أو بسرقة ونهب المحال والبيوت.

أما عائلته المباشرة فظلت حبيسة المنزل بسبب التهديدات المعلنة من قبل تلك الحركات. انتقلت العائلة من منشأها إلى القاهرة حاملةً معها هذه التروما.

نشأ صديقي على مقارنة ما يسمعه في المنزل عن "الآخر" بما يراه في العلاقات التي كوَّنها في المدرسة ثم الجامعة، وتبنى موقفًا راديكاليًا ضد عائلته بدفاعه عن "الآخر" في جلسات الكراهية العائلية التي يجتمع فيها ضحايا التروما القادمين من الصعيد بتجار التعصب والفتن في العاصمة.

يخبرهم صديقي أن المسلمين لا يتوضأون بدماء الأضاحي يوم العيد، وأن صديقاته المسلمات المحجبات نظيفات ولا يرتدين الحجاب من أجل إخفاء القمل في شعورهن. كما أن عددًا ليس بقليل منهن لا يرتدين الحجاب من الأساس.

لم تميز جدتي ابن إمبراطور إثيوبيا الذي صعد مع أبنائها لتناول الغداء فسألته بالنوبية "أمك مين يا شاطر؟"

ذكرتني تلك الخرافات بأساطير مماثلة سمعتها من أنصار التيار السلفي عن أن المسيحيين يتباركون بماء يبصق فيه القساوسة، وأن النساء المسيحيات بالرغم من جمالهن فإن رائحتهن كريهة بسبب تناولهم لحم الخنزير.

لكن الأسطورة التي كانت تُضحك صديقي بحق تلك القائلة بأن القساوسة يربون أسودًا داخل الكنائس لاستخدامها يومًا ما في مواجهة المسلمين. كنا موقنين بأن تلك الأساطير تنافي المنطق ولكن الكراهية هي السبب الوحيد الذي يدفعهم لتصديقها.

إمبراطور إثيوبيا في ضيافة المصريين

عائلتي من حارة النصارى في حي رمسيس بالقاهرة، حيث يمكن أن يعيش مواطن مسيحي قمحي أو أبيض إلى جانب مواطن مسلم أسمر من أبناء النوبة. بيئة خصبة للتعصب بسبب الدين أو اللون. ولكن لسبب ما لم يحدث ذلك منذ أربعينيات القرن الماضي وإلى الآن. 

أطرف الحكايات التي سمعتها ما وقع عام 1959 عندما زار هيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا، مصر، لأول مرة، والتقى الزعيم جمال عبدالناصر، بعد أن دعاه ناصر لتصفية الأجواء المتوترة بين البلدين وقتها بسبب احتواء مصر للطلبة الإثيوبيين المتمردين على حكم الإمبراطور.

استقبال الرئيس جمال عبد الناصر لإمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي، 24 يونيو 1968

دعاه البابا كيرلس للإقامة في مقر الكاتدرائية بالكنيسة المرقسية في حارة النصارى أيضًا لتصفية الأجواء بين الكنيستين المصرية والإثيوبية. ويوم وصوله، دخل الإمبراطور حارة النصارى في موكب رسمي وشعبي وهو يرى فرحة سكانه بزيارته ينظرون في الشرفات والنوافذ ويلوحون له بالورود.

ظنُ البابا خطأ أن النوبيين الواقفين في الشرفات هم أفراد الأقلية الإثيوبية المتمردة المقيمة في مصر، وتأثر لهذه اللفتة الطيبة، فأخبر المسؤول المصري الرسمي المرافق له بأنه على استعداد لفتح صفحة جديدة معهم وترتيب عودتهم إلى أثيوبيا سالمين. ليخبره المسؤول المصري بأن من يشيرون إليه مصريون بل ومسلمون أيضًا!

تزداد سعادة الإمبراطور بهذه الحفاوة ويلوح لهم بيده امتنانًا، فسمح لابنه باللعب مع أبنائهم وكان من بينهم أبي وأعمامي الذين كانوا وقتها من أطفال الحارة. وعندما نادت جدتي من الشرفة على أبنائها في يوم تال لتناول الغداء، اصطحبوا معهم  ابن الإمبراطور. لم تتعرف جدتي عليه فسألته بالنوبية "أمك مين يا شاطر؟"!

المسيحي المزيف والمسلم المزيف  

ولدتُ بوحمة خضراء على ساعدي الأيمن، قريبة في الشكل والموقع للصليب الذي تُوشم به سواعد المسيحيين المصريين. وبسببها تعرضت لمواقف عدة، منها عندما يتعرف عليَّ شاب مسيحي متعصب فيسألني بتودد ولهفة عن كنيستي التي أنتمي إليها، ثم يُحبط عندما أخبره أنني مسلم فينتهي الود بلا رجعة. ومنها عندما يراني مسلم متعصب أصلِّي في الجامع فيستبشر، ثم يُحبط عندما أخبره باسمي الثاني والثالث والرابع مما حُمِّد وعُبِّد.

دخلنا أنا وصديقي مائدة الرحمن تاركين حمولاتنا التاريخية والاجتماعية وراءنا، عاقدين العزم على اقتناص وجبة إفطار شهية مجانية.

استقبلنا منظم المائدة على مدخل الشارع بابتسامةٍ وأدعيةٍ بتقبل الصيام والقيام. يتأكد صديقي من تغطية كُمِّ قميصه لمعصم يده قبل أن يمدها لمصافحة صاحب الوليمة. بينما أمد يدي المكشوفة دون تحفظ.

تتوقف عينا صاحب الوليمة لكَسْرٍ من الثانية على وحمتي الخضراء المستقرة في مدخل كف يدي الأيمن، فتتسع ابتسامته وتسقط كفه على ظهري مرحبًا، ويدخلني بنفسه ليجلسني على رأس المائدة، تاركًا المسيحي الأصلي يأخذ مكانه وسط المسلمين.

نظرت إلى صديقي لأراه وقد تنبه لغباء إخفاء صليبه لكن بعد فوات الأوان. ظل طبقي ممتلئًا طوال مدة الإفطار، فقبل أن أنتهي من قطعة دجاج، تحتل مكانها خرطة مكرونة بالبشامِل، وقبل أن يفرغ الجزء المخصص للأرز تقفز بداخله سمبوسات الجبن واللحم المفروم، بأوامر من صاحب المائدة، وبيده هو نفسه أحيانًا.

"البلد دي المسلمين واخدين حقهم فيها حتى وهُمَّا عاملين مسيحيين!"

"معلش! أصل ده ضيفنا! حقك عليا"، ثم يسحب صاحب المائدة الطعام من أطباقهم ليعطيه لي. وعندما رأيته يأخذ أصابع الكفتة من طبق صديقي ليضعها في طبقي وصديقي يهز رأسه لي ليَّ متوعدًا، حشرت ملعقة كبيرة من الأرز في فمي حتى لا أنفجر ضاحكًا.

خرجنا بأعجوبة من كمين الضيافة هذا، وواصطحبنا الرجل الطيب حتى مدخل الشارع حيث التقينا. وألح عليَّ لنعود مرة أخرى أنا ومَن شئت من أصدقائي. لم أكشف هويتي له حتى لا أُفسد سعادته، كل هذا وصديقي يتحسر على ما فاته بإخفائه هويته تحت كمِّه.

"البلد دي المسلمين واخدين حقهم فيها حتى وهم عاملين مسيحيين!" كان هذا تعليقه الأول بعد وصلة ضحك هستيرية على أحد المقاهي القريبة من مائدة الرحمن. قلت بعدما أعجبتني اللعبة أن علينا معاودة التجرية في أماكن أخرى، لكنه رفض وصمم أن أشتري له طعامًا عقابًا لي على تناولي الكفتة التي سُحِبت من طبقه.

بعدها بأيام غيَّر صديقي رأيه، واتصل بي ليخبرني أنه يريد الذهاب إلى مائدة مختلفة، وأنه يريد اصطحاب أصدقاء مسيحيين إلى هناك ليكسر الصور النمطية لديهم. اتفقنا على اليوم، واخترت له مائدة أكثر ثراءً.

قابلته في اليوم المحدد، لكن لم يأت من أصدقائه سوى واحد فقط. صديقه هذا يحلم أن يكون مطربًا، وكان يبحث عن فرص للغناء بعيدًا عن الترانيم الدينية مع كورال الكنيسة. بدا متحفظًا وربما جائعًا ومفلسًا مثلنا، فلم أُثقل عليه بالأسئلة، وجلسنا في انتظار الإفطار.

لم يسدِل صديقي أكمام قميصه هذه المرة. بل مدَّ يده بلا خجل للشابة المحجبة التي قدمت لنا الوجبات المغلَّفة. ترددت عندما وقعت عيناها على أيدينا الممدودة بعلاماتها الخضراء، فأخبرها صديقي ضاحكًا "أيوه أنا مسيحي حضرتك! تِسلم إيدك!" رأينا وجهها مرتبكًا وهي تشيح به بعيدًا عنا. همّ صديقنا المطرب بفتح العلبة، فأوقفه صديقي طالبًا منه انتظار أذان المغرب. ابتسم خجلًا، وتعلل مازحًا بأنه جديد على الصيام.

قتلنا دقائق الانتظار في كسر الجليد بالحديث عن الفروق بين صيام المسلمين والمسيحيين، ثم طلبت منه أن يغني شيئًا مما يحب، فخجِل، وغيَّر الحديث بالسؤال عن مطربينا المفضلين واتفقنا على حب عبد الحليم حافظ وفيروز ومحمد عبد الوهاب. وبمجرد سماعنا لآذان المغرب، فتحنا أغلفة وجباتنا والتهمنا قطع الدجاج المقلية.

توقف عن تناول طعامه فجأة، فظننت أنه يلتقط أنفاسه بعد ابتلاع كل هذا الكم من الكوليسترول في وقت قياسي، وقبل أن ينتهي المؤذن من المغرب، فوجئنا به يردد معه بصوته الهادئ الجميل "الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله"، ويرد شركاء المائدة عليه "أحسنت، أنعم الله عليك"!