"الحسبة مبقتش نافعة" قال عادل وهو يضرب كفًا بالأخرى، بعدما أعاد مع زوجته حسبة مصروفاتهم الشهرية للمرة الثالثة دون جدوى، ففي كل مرة تتخطى المصاريف الدخل. يعمل عادل موظفًا حكوميًا في الشهر العقاري بينما ماجدة زوجته محاسبة في إحدى الشركات الخاصة، ولديهما طفلان في صفوف دراسية مختلفة.
يُعتبر عادل وماجدة من أبناء الطبقات الوسطى، التي من المفترض أن تتمتع باستقرار الظروف المعيشية. لكن إحساسهما بالضغط الدائم يدفعهما للتخلي عن مظاهر إنفاق الأسر المتوسطة والاقتراب لنمط حياة الأسر الفقيرة.
ولكن ما هي معايير الطبقة الوسطى في مصر؟ وكيف يعيش من تنطبق عليهم هذه المعايير في ظل الصدمات التضخمية التي أصبحت سمة مميزة لحياتنا منذ تحرير سعر الصرف في 2016؟
كيف نقيس موقعنا الطبقي
إذا أخذنا بتقديرات البنك المركزي المصري لمستويات المعيشة بحسب دخل رب الأسرة، فإن أسرة عادل وماجدة اللذين يصل مجموع دخلهما الشهري لنحو 5800 جنيه تعد من "محدودي" وليس متوسطي الدخل.
اعتبر البنك في التصنيف الذي وضع على أساسه شروط منح التمويل العقاري أن رب الأسرة المتزوج الذي لا يزيد دخله الشهري عن 6000 جنيه يقع تحت هذه الفئة، أما دخل رب أسرة من الطبقة المتوسطة فيقع بين 6 آلاف و 14 ألف جنيه.
لكن إذا قسنا مستوى المعيشة على أساس متوسط الاستهلاك الفعلي، بافتراض أن الأسرة المشار إليها لا تدخر أي جزء من دخلها، فإن الطبقات الوسطى، على أساس بيانات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تبدأ من الشريحة الخامسة التي يقع متوسط استهلاكها السنوي عند 53.7 ألف جنيه (أي نحو 4,400 جنيه شهريا ) وتصل إلى الشريحة التاسعة التي يصل حجم استهلاكها السنوي إلى 68.4 ألف جنيه (أي نحو 5,700 جنيه شهريا ).
التضخم ومواجهته
وبغض النظر عن اختلاف التصنيفات الاقتصادية للأسر، فإن عادل وماجدة وغيرهما من ملايين الأسر لا يشعرون أنهم من الفقراء لأنهم يستطيعون الوصول لكافة السلع والخدمات التي تضمن مستوىً معتدلًا من المعيشة. لكن الصعوبة البالغة التي يديرون بها معيشتهم بالغة تجعلهم يتشككون دائمًا أنهم لا يزالون من أبناء هذه الطبقة.
كان أول حل لجأت إليه ماجدة هو الاستعاضة بكل ما هو حكومي عن الخاص، حتى وإن كان أقل جودة، كنقل أبنائها من مدارس خاصة إلى أخرى حكومية، ما تصفه بـ "الانحدار" في مستوى معيشتها وأسرتها، بعدما كان دخلها هي وزوجها الشهري يكفي احتياجات الأسرة أصبح يقضي أقل من نصفها "العام القادم سيكون الالتحاق بالمدارس الخاصة شيئًا من الرفاهية، ربما يتأثر أبنائي بوضع المدارس الحكومية، لكن لا بد من التأقلم".
أكثر ما يؤرق ماجدة هو التآكل المستمر في دخلها الحقيقي نتيجة الموجات القوية التي عاشتها خلال السنوات الأخيرة، كان أبرزها في 2017 و2022 بسبب التراجع القوي لسعر صرف الجنيه أمام الدولار منذ أن قرر البنك المركزي تخفيف تدخلاته في سوق الصرف في 2016 بتوجيه من صندوق النقد الدولي.
اتبعت ماجدة وأسرتها نهج الاستغناء عن أي وكل شيء من شأنه عرقلة الميزانية، وما لم تستطع الاستغناء عنه استبدلته بما هو أرخص. وهكذا استعاضت عن التكييف بالمروحة تجنبا لفواتير الكهرباء المرتفعة، وحتى الاشتراك الشهري للنادي الذي يمارس أبناؤها فيه رياضتهم المفضلة أصبح عبئًا زائدًا تم الاستغناء عنه.
لم يكن الأمر سهلا ولكن لم يكن أمامها خيارات أخرى، تقول "كنا بنخرج نتفسح مرة كل أسبوع، قللنا خروجاتنا من أربع مرات في الشهر لمرة واحدة بس، وكمان احتياجاتنا من الأكل بقيت بادور على الأقل كمًا وجودة وسعر في الأجبان والزيوت والرز وغيره".
قدرة محدودة على المناورة
تعكس بيانات جهاز الإحصاء قدرة محدودة للأسر على المناورة في أوقات الضغوط التضخمية. يكشف متوسط توزيع نفقات الأسر المصرية أن أكثر من ثلث النفقات يذهب للطعام والشراب، وهو بند من الصعب أن تتقشف فيه الأسر، كذلك يذهب نحو 20% من النفقات للمسكن ومستلزماته و10.4% للصحة وهي بدورها من النفقات غير المرنة.
لذا ليس أمام هذه الأسر سوى البحث عن خدمات أقل جودة في الانتقالات، التي تستحوذ على 6.7% من الإنفاق أو التعليم، الذي يوجه إليه 5.7% من الدخل، أو التوقف عن الترفيه الذي تقتصر نفقاته على 2.3%.
"الفئات الأعلى دخلًا لديها حلول لزيادة دخولها النقدية بشكل أسرع، مثل العمل في وظائف أخرى أو العمل عن بعد، لذا هي أقدر على مواجهة ارتفاعات الأسعار. وكلما هبط السهم في خريطة توزيع الدخل، تنخفض هذه المرونة"، كما يشرح الباحث الاقتصادي محمد سلطان.
ويرى سلطان أن "الحل لدى الطبقات التي لا تمتلك نفس المرونة يكون في تخفيض الإنفاق على بنود هامة مثل الصحة والتعليم وغيرهما على حساب بنود أخرى غير مرنة مثل الغذاء".
لم يرض هذا نادية مهدي، 35 عامًا، فحاولت اللجوء لحل آخر غير التقشف. قررت تقسيط شراء كل ما تحتاجه، لكن بعدما نجحت في ذلك تراكمت عليها الديون وباتت تحت ضغوط مستمرة بسبب الفوائد.
تعمل نادية في مجال العلاقات العامة، هي وزوجها، ويبلغ دخلهما سويًا نحو 6 آلاف جنيهًا "عندي بنت في سنة رابعة ابتدائي في مدرسة خاصة، وابن في سنة تانية إعدادي، مقدرش أنقلهم من مدارسهم التي مصاريفها ومستلزماتها بقت غالية جدا، لكن قدرت أدفع المصاريف واشتري مستلزمات المدرسة بسبب شركات التقسيط".
أصبحت نادية تقسط فواتير الكهرباء والغاز والمياه والهاتف الأرضي، تجمعها كل ثلاثة أشهر وتدفعهم بالتقسيط عبر الشركة. وكذلك ابتاعت ياميش رمضان بالتقسيط، وتدفع اشتراك النادي لأبنائها من خلاله.
أثقلت الديون كاهل نادية "حاسة إني بأعرج من كتر الديون والأقساط والفوائد، باشتري الخدمة فوري في وقتها ولكن الفوائد تقيلة أوي بحس بتقلها بعدين، الأسعار بتزيد وأنا وجوزي دخلنا مبيتحركش، هم الـ 6 آلاف جنيهًا شهريًا مبيزيدوش".
مخاطر الانزلاق في الفقر
تغير أسر الطبقة الوسطى في أجندة نفقاتها اليومية للتعايش مع التضخم، أو تلجأ للاستدانة والتقسيط، حتى تصل لمرحلة معينة تجد نفسها مضطرة للاستغناء عن سلعة أو خدمة أساسية، هنا تصبح الأسرة "فقيرة".
وبحسب سلطان فإن الطبقة الوسطى في مصر كانت تتآكل بالفعل خلال السنوات الأخيرة، والدليل على ذلك هو اتساع دائرة الفقر "الاهتمام بملف الفقر والطبقات الأفقر وملف الأسعار بشكل عام، هو ضمانة غير مباشرة للحفاظ على الشرائح المتوسطة من الدخل بعيدًا عن التآكل".
وبحسب بيانات جهاز الإحصاء فإن الفقر في مصر كان في صعود مستمر منذ عام 2000، حيث ارتفعت نسبته من المجتمع من 16.7% إلى 32.5% في 2018 قبل أن تتراجع قليلا في 2020 إلى 29.7%.
وقد تبدو الصورة أسوأ إذا قسناها بمؤشرات أخرى، تقول الباحثة الاقتصادية سلمى حسين "هناك خط فقر في البنك الدولي يحتله من يحصلون على 5.5 دولار في اليوم، ويعني هذا الشخص الذي ينفق على مأكله ومشربه وعلاجه أقل من 100 جنيه في اليوم، وقياسًا بمصر فنحو 60% من المصريين أسفل ذلك الخط".
وبالنظر إلى المبلغ المطلوب شهريًا لضمان عدم الوقوع في الفقر، فإن أسر مثل عادل وماجدة تقف على حافة هذا الخطر، حيث يحدد جهاز الإحصاء أن الأسرة المكونة من فردين بالغين وطفلين تحتاج إلى 3,218 جنيهًا على الأقل، أو بتعبير آخر فإن أسرة عادل وماجدة تقع فوق خط الفقر بـ 2,600 جنيه فقط.
وإذا قررت هذه الأسرة الإنجاب من جديد ستصبح أقرب للفقر، حيث يقول جهاز الإحصاء إن نسبة الفقر في الأسر المكونة من 4-5 أفراد تصل إلى 25.2% وترتفع النسبة حتى تصل إلى 80.6% في الأسر التي يصل عددها لعشرة أفراد فأكثر.
.. وظروف العمل تعزز احتمالاته
أمام الضغوط المستمرة للأسعار يبدو الملايين من أبناء الطبقة الوسطى بدون حماية، ما يجعلهم أكثر عرضة للسقوط في الفقر.
تقول سلمى حسين إن 7 من كل 10 أفراد في القطاع الخاص الرسمي يعملون بعقود عمل بلا تأمين صحي أو اجتماعي ويمكن تسريحهم في أي وقت، بينما النسبة في القطاع الخاص غير الرسمي تصل إلى 9 من كل 10 وفي الحكومي 3 من كل 10 يعملون بلا تعيين.
وتوضح أن تلك النسب هي انعكاس لما آلت إليه أوضاع الطبقة المتوسطة والذين يعملون تحت تهديد ويمكن الاستغناء عنهم، مضيفة "هذا النوع من العمل قاسٍ للغاية، لا يوجد به أي تطوير أو زيادة في المرتبات في وقت ترتفع فيه الأسعار بشكل متزايد".
في مواجهة تكاليف المعيشة، سعت رقية، أم لثلاثة أبناء، للعمل ساعات أطول، حيث يستحيل أن تستمر الحياة بدخل الأسرة الراهن، واستطاعت فعلًا الوصول لفرصة عمل إضافية، لكنها شعرت أن حياتها الطبيعية تنهار أمام شدة الضغوط.
تعمل رقية مُدرِّسةً في مَدرسةٍ حكومية وتتقاضى 3,000 جنيه، أما زوجها فيدير "شيفت" في مصنع حكومي ويتقاضى 2,900 جنيه، ليصبح إجمالي دخل الأسرة 5,900 جنيه، لم تعد تكفي مع الغلاء المتكرر للأسعار.
تقول رقية "كان لازم أدور على مصدر دخل تاني، بقيت بعد ما أخلص اليوم الدراسي في المدرسة بدي دروس خصوصية للتلاميذ في بيوتهم عشان سعرها أعلى من المجاميع، زاد دخلي ألفين جنيه في الشهر، وجوزي اشتغل سواق على عربيتنا الخاصة مع شركة من الشركات الجديدة بعد ما يخلص ورديته في المصنع".
ولكن تكلفة ذلك الحل فعليا أن أصبحت رقية وزوجها يعملان أكثر من 18 ساعة في اليوم، بل ويبحث الزوج عن عمل ثالث في الوقت الحالي. تقلصت ساعات نومهما، وباتا مجهدان طوال الوقت "ولادي الثلاثة حاسين تجاهنا بالغربة لأنهم شبه مقيمين عند والدتي عشان ترعاهم، واحنا بس بنشتغل عشان نجيبلهم فلوس".
تفاوت طبقي يتسع
لا تعني القصص السابقة أن كل أبناء الطبقات الوسطى يعيشون في ضغوط دائمة، وإلا فلن نرى إقبالًا على شراء العقارات الفاخرة والسيارات ذات العلامات التجارية باهظة الثمن وغيرها من مظاهر الترف.
الواقع أنه في الوقت الذي كانت تنحدر قطاعات لكي تقترب من الفقر، كانت أسر أخرى ترتفع معيشتها لتصبح من الأثرياء، هذا ما يسمه الاقتصاديون بعدم المساواة في توزيع الدخل والثروة.
وبحسب موقع world inequality data base كانت طبقة الـ 1% الأعلى دخلًا تتمتع تقريبًا بنصيب يساوي نصف المجتمع بأكمله في منتصف التسعينيات. لم يتوقف الأمر على ذلك، ولكن اتسعت الفجوة بحيث أصبحت هذه الطبقة المميزة تتمتع بنصيب أكبر وصل إلى نحو 20% من دخل المجتمع في 2018 مقابل 14.6% لنصف المجتمع الأدنى دخلا.
وتحذر الباحثة الاقتصادية سلمى حسين من اتساع الفجوة بين متوسط دخول الطبقات، موضحةً أنه يخلق عدم استقرار يأخذ شكل تظاهرات أو ثورات أو عنف وتشتت أسري وارتفاع معدلات الجريمة، وعدم القدرة على خلق أفراد يحققوا دخول أعلى في المستقبل وبالتالي يكسرون دائرة الفقر.
أما الدكتورة هويدا رومان، وهي رئيسة سابقة لقسم بحوث قياسات الرأي العام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية، فترى أن هناك تمزقًا في نسيج الطبقة الوسطى، إذ تتعرض إلى عملية إفقار شديدة جعلتها طبقة غير متجانسة؛ لأن الشرائح العليا منها لحقت بالطبقة الرأسمالية، والشرائح الدنيا منها تداعت وتدهورت وأصبحت تحت خط الفقر.
وخلصت رومان إلى أن "الهرم الطبقي الذي يضم ثلاث طبقات مجتمعية به تفاوت ضخم للغاية، يؤدي إلى عدم توازن المجتمع المرتبط بالعدالة الاجتماعية"، مضيفة أن "سلامة المجتمعات تتحقق من خلال عدالة توزيع الدخل والصرف بما يضمن ألا تحدث انتفاضات فيه نتيجة الفوارق الطبقية الضخمة".
هذه الثقوب التي تتسع في طبقات المجتمع، تهدد عادل وماجدة ونادية ورقية وعائلاتهم، وكثيرين غيرهم كانوا حتى سنوات قليلة مضت قادرين على توفير أساسيات حياتهم، بالانزلاق إلى بؤرة الفقر، حيث من المستبعد أن تفلح أسلحة التقسيط والاستغناء والمزيد من العمل في إنقاذهم على المدى الطويل.