
رحلة البحث عن "الحل الوسط" في قانون الإيجار القديم
سيضطر المهندس السبعيني المتقاعد محمد عبد المتعال لدفع 4500 جنيه إيجارًا شهريًا إذا أراد البقاء في شقته التي استأجرها عام 1988 في المهندسين، بدلًا من 112 جنيهًا يدفعها حاليًا، فالمبلغ يفوق المعاش الذي يتقاضاه بمائة وخمسين جنيهًا.
هذا السيناريو سيصبح واقعًا إذا أقر البرلمان مشروع القانون الحكومي الخاص بتعديل أوضاع الإيجار القديم، برفع قيمة الأجرة الشهرية 20 ضعف الحالية، ومنح المالك حق إنهاء العقد بإرادته المنفردة بعد خمس سنوات.
الثمن الاجتماعي الباهظ الذي سيرتبه تطبيق هذا المشروع، والمتمثل في تهديد حق ملايين المصريين في التمتع بحق السكن، يقابله على الجانب الآخر أن ملّاك العقارات لا يرون التعويضات التي يقدمها كافية مقارنةً بخسائرهم لعقود طويلة.
ولأن القانون لا يُرضي أيًا من الطرفين، فإن الرهان هو الوصول لحلول وسط تضع مصالح المالك والمستأجر في الاعتبار. ويمثل الإيجار القديم امتدادًا لسياسات للحماية الاجتماعية التي اتبعتها الدولة في مصر منذ الحرب العالمية الثانية، حتى تسعينيات القرن الماضي عندما حررت إيجارات الشقق الجديدة، ما زاد من الفجوة بين وحدات متجاورة، بعضها يُؤجَّر بجنيهات قليلة، وبعضها الآخر يبلغ إيجارها عدة آلاف، ويتجاوز كثير منها العشرة آلاف.
حلم "شقة المهندسين"
استأجر عبد المتعال شقة المهندسين بعد رحلة عمل في أوروبا، عاد منها بمدخرات وضعها في الشقة التي اعتبرها ثمرة غربته. لم يتردد في دفع مقدم إيجار للمالك 35 ألف جنيه. مبلغ كبير بحسابات تلك الأيام، "المالك أخد المقدم وبنى فوق شقتي دورين وجوِّز بنات من بناته".
دفع عبد المتعال المقدم راضيًا لتلبية حلم زوجته بالعيش في المهندسين. أما الأجرة فكانت في البداية 150 جنيهًا، يدفع نصفها ويُخصم النصف الآخر من مقدم الحجز إلى أن ينتهي. لكن المالك زادها بعد سنوات "زوده لـ225 جنيه علشان وأنا بوضب الشقة اللى كنت مستلمها خرابه عملت فيها تعديلات".
وفق عقد الإيجار الذي أبرمه مع المالك، ينتهي مقدم الحجز عام 2027 "لحد دلوقتي بيتخصم نص الإيجار من المقدم اللي دفعته سنة 88، والنص التاني بدفعه كاش، والقانون هيطلع كمان كم شهر"، يشرح المهندس لـ المنصة موقف شقته وهو لا يعرف المصير الذي سيؤول إليه إذا انتهت العلاقة الإيجارية على النحو الذي حددته الحكومة في قانونها.
يرى عبد المتعال أن التعديل التشريعي الجديد يضعه في ورطة، كونه لا يمتلك مصدر رزق إلا معاشه الذي يكفي بالكاد لتغطية مستلزمات معيشته الأساسية.
لا نسكن مجانًا
مثل عبد المتعال، دفع سعيد وادي الذي تجاوز الستين أكثر من 10 آلاف جنيه خلال السبعينيات مقدمًا لاستئجار شقته التي يقيم بها الآن في عابدين، وسط القاهرة، وهو ما يبرر به حقه في دفع 60 جنيهًا شهريًا حتى اليوم، ويرفض أن يُنظر إليه باعتباره "ساكن ببلاش".
بالنسبة لوادي، فإن ما يقترحه القانون حدًا أدنى للإيجار؛ أي ألف جنيه، سيشكل عبئًا كبيرًا بالنسبة له، فهو "20% من قيمة معاشي، وفيه 35% أدوية الأمراض مزمنة، هيفضل 45% من المعاش، كيف بالله نعيش بها؟".
يشير الموظف على المعاش إلى أن زيادة الإيجار ستمثّل أزمة بالنسبة له، في ظل تآكل الزيادة القانونية للمعاشات مع ارتفاع معدل التضخم، إضافة إلى الزيادات الأخيرة في أسعار الوقود والكهرباء.
"الملاك حصلوا بالفعل على قيمة العقارات خلال أول 10 سنوات من الإيجار، كما استفادوا من المقدم والخلو والدعم الحكومي في مواد البناء" يقول أيمن عصام، المستشار القانوني لرابطة مستأجري الإيجار القديم، مؤيدًا وجهة نظر موكليه في أنهم لا يسكنون مجانًا.
"لقد أسسوا منازلهم طوبة طوبة، ويتحملون الصيانة عن مالك العقار، وفي نهاية المطاف تريد طردهم" يبدي عصام استغرابه لـ المنصة.
لا يعارض مستشار رابطة مستأجري الإيجار القديم إقرار زيادة متدرجة في القيمة الإيجارية، لكن بنسبة لا تزيد عن 15% حدًا أقصى، أو تمليك الوحدات السكنية للمستأجرين بمقدم وتقسيط المبلغ المتبقي على 20 عامًا.
لا يُعوِّضنا تمامًا
على بعد بضع كيلومترات من شقة المهندسين التي يسكنها المهندس عبد المتعال، تتراص عمارات متقادمة بُنيت في ستينيات القرن الماضي في حي إمبابة، يمتلك مجدي حمدان اثنتين منها ورثهما عن أبيه.
معظم وحدات هذه العمارات مؤجرة وفق القانون القديم، ما يجعل حمدان لا يحصل على أكثر من 250 جنيهًا شهريًا من تأجير 23 شقة، "إيجار الشقة شوية جنيهات من الستينات والسبعينات"، لذا ينظر إلى المقترح الحكومي من منظور مختلف تمامًا، فهو يمثل بالنسبة له الفرصة الأخيرة لإحياء إرث أبيه الذي يصفه بـ"العدم".
يضيف لـ المنصة "المستأجرون استباحوا ما ليس ملكهم. أقاموا في شققنا ولم يخرجوا منذ عقود طويلة والحكومة أخيرًا وضعت يدها على بيت الداء. المستأجرون عندنا تزوجوا وزوجوا أبناءهم. لكن نحن أيضًا نريد شققًا لتزويج أبنائنا".
يدافع عمرو حجازي، نائب رئيس جمعية المضارين من قانون الإيجار القديم، عن فلسفة التعديل التشريعي المقترح من الحكومة، التي في رأيه "ليست منحازة للملاك على حساب المستأجرين، وإنما تحاول تصحيح أوضاع مقلوبة بإنهاء قوانين استثنائية قضمت حقوق الملاك وأضرت بحقوق الطرفين".
وسط هذا الاستقطاب بين الملاك والمستأجرين، تبرز أصواتٌ تسعى إلى حلول وسط يخرج الطرفان معها بأقل الأضرار
ورغم اتفاقه مع فلسفة المشروع الحكومي، يعترض على بعض تفاصيله، مثل نسبة الـ15% المقترحة لزيادة الإيجار سنويًا، ويراها بعيدةً عن معدلات التضخم الفعلية، وكذلك مهلة السنوات الخمس الممنوحة للمستأجرين قبل الإخلاء، مطالبًا بجعلها ثلاثًا فقط، مع تقديم الدعم الحكومي للأولى بالرعاية من أصحاب المعاشات وكبار السن الذين لا يملكون مصادر دخل.
وتقترح الجمعية الممثلة لمصالح الملاك الإسراع بإزالة الوحدات الآيلة للسقوط التي يقطنها مستأجرون بنظام الإيجار القديم، وتنفيذ أوامر إخلاء للوحدات المغلقة، كذلك تطالب بإنهاء عقود الأجانب الذين يسري عليهم القانون القديم كوحدات سكنية أو سفارات ووضعها ضمن أولويات الفترة الانتقالية التي تخطط لها الحكومة لإنهاء العلاقة الإيجارية.
الوقوف في المنتصف
وسط هذا الاستقطاب بين الملاك والمستأجرين، تبرز أصواتٌ تسعى إلى حلول وسط يخرج الطرفان معها بأقل الأضرار، عبر إقرار زيادات مُرضية في قيمة الإيجار دون إنهاء العقود، كما هو الحال مع الثلاثينية غادة عبد السلام، التي ورثت مع أشقائها الأربعة عن والدهم عقارًا في منطقة أرض اللواء في الجيزة، تحصل منه على أقل من ألف جنيه شهريًا، لكنها لا تؤيد إنهاء العلاقة الإيجارية بعد خمس سنوات.
"من مصلحتي تطبيق مشروع القانون الحكومي، بس احنا عندنا مستأجرة ساكنة مع بنتها الوحيدة بعد وفاة جوزها من عشر سنين وبتدفع 40 جنيه" تؤكد غادة لـ المنصة أنها لا ترغب في إثقال كاهل هذه المستأجرة بإيجار يقترب من متوسط سعر السوق، رغم حاجتها إلى ذلك واستحقاقها له.
هذه المالكة في المقابل تشعر بعدم الإنصاف، وهي تتلقى مبالغ بسيطة عن وحدتها، بينما تضطر لدفع عشرة آلاف جنيه كل شهرٍ إيجارًا للشقة التي تسكنها مع أسرتها في المهندسين، ما يجعلها تأمل في الوصول لحل وسط يرضي المالك والمستأجر.
يواجه مشروع قانون الإيجار القديم ما لا تواجهه عادةً مشروعات القوانين التي تقدمها الحكومة للبرلمان؛ فحتى حزب مستقبل وطن صاحب الأغلبية البرلمانية، الذي مرر غالبية ما اقترحته حكومة مصطفى مدبولي من قوانين، أوصى بمراجعة نسبة الزيادات المقررة، وكذلك مهلة السنوات الخمس لتحرير العقود، لصالح المستأجرين.
وهذه ليست المرة الأول التي تُنَاقش فيها القوانين المنظمة للمساكن المؤجرة، فهناك محاولة سابقة في 2017 منحت المستأجرين لأغراض السكن فترة انتقالية عشر سنوات، لكن المقترح لم يتعدَ الأدراج خشية الصدام بين البرلمان والشارع. لكن النقاش تجدد هذه المرة بشكلٍ إلزامي مع حكم المحكمة الدستورية العليا بتثبيت أجرة المساكن المؤجرة في القانون رقم 136 لسنة 1981.
وصدرت عدة قوانين لتنظيم الإيجار في مصر بدءًا من 1920، ويشار للقانون رقم 136 لسنة 1981 بقانون الإيجار القديم، الذي وضع ضوابط لتحديد قيمة الإيجار للأماكن السكنية، عدا الفاخرة، بـحيث لا تزيد عن 7% من قيمة الأرض والمباني، لكنه تسبب في ثبات الإيجار لأنه نص على أن يحتسب على أساس سعر الأرض والمباني وقت الترخيص والإنشاء ولا تزيد هذه القيمة مع التضخم، وهو المبدأ القانوني الذي ألغاه حكم المحكمة الدستورية الأخيرة.
من جانبها، لا ترفض إلهام عيداروس، وكيلة مؤسسي حزب العيش والحرية، تعديل قانون الإيجار القديم من حيث المبدأ، لكنها تعارض الزيادة التي اقترحت الحكومة أن تبلغ 20 ضعفًا، وترى أنها تتجاهل الالتزامات التي أوفى بها المستأجرون منذ تحرير العقود مثل المقدم ومصروفات التأسيس التشطيب والصيانات.
تنتقد في حديثها لـ المنصة تقاعس الدولة في إنفاذ القانون الذي يسمح بإخلاء الوحدات المهجورة والمغلقة أو التي يشغلها أشخاص من غير المستحقين للامتداد، دون الحاجة لسن قوانين أو وضع قواعد جديدة.
تشدد إلهام على ضرورة أن تكون الزيادة في أجرة المساكن وفق معيار قانوني وليس سوقيًا، لأن منطق السوق برأيها سيؤدي إلى انفلات كبير في إيجارات العقارات المؤجرة وفق القانون الجديد، وهي بالفعل ارتفعت في بعض المناطق ضعفي سعرها في الأعوام الماضية، وذلك ما "أسال لعاب ورثة الملاك لتغيير القانون والاستفادة من ممتلكاتهم رغم أن آباءهم وأجدادهم حصلوا على ثمن الوحدات حين أبرمت العقود بخلو غير قانوني وقيمة إيجارية باهظة بالنسبة لزمنها".
وترى أن "أي تعديل تشريعي على قانون الإيجار القديم استجابة لحكم المحكم الدستورية يجب أن يقتصر على زيادة الأجرة فقط ولا يتطرق لفسخ التعاقد بشكل نهائي، أما امتداد العقد فهي مسألة حسمها عام 2002 حكم المحكمة الدستورية الذي سمح للمستأجر بالبقاء في الوحدة المؤجرة مدى الحياة وللجيل الأول من بعده"، كما تضيف.
"استحملونا الكام سنة اللي فاضلين في حياتنا، معندناش بدائل لا بيوت ولا مدخرات"، بصوت مبحوح غلبته الدموع يتحدث عبد المتعال عن أزمة آخر العمر التي وضعته فيها الحكومة بمشروعها الجديد، فهو لم يتخيَّل طوال حياته أن يقضي وزوجته أمتارهما الأخيرة من الحياة في رحلة للبحث عن شقة للسكن.