يمثل مبدأ "الحكم عنوان الحقيقة" واحدًا من الأسس الجوهرية لدولة القانون. نعم؛ يمكنك المجادلة في سلامة تلك العبارة بالطرق القانونية كالاستئناف والطعن ودعاوى البطلان، خاصة إذا ظهرت أدلةٌ جديدةٌ تنسف ما قام عليه الحكم. وتستطيع أيضًا التساؤل عن مدى دقة هذه الأحكام في الدول التي تفشل في إقامة الحدود بين السلطات مما ينال من استقلال السلطة القضائية. لكن يبقى الدفاع عن حجية الأحكام القضائية وسريانها على الكافة معيارًا جوهريًا لسلامة النظام القانوني والقضائي في أي بلد.
وفي هذا السياق، فإن الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا السبت الماضي بعدم دستورية تثبيت الأجرة في عقود الإيجار القديم، عنوانٌ لعدة حقائق. أبسطها؛ أن نظام الإيجار القديم غير دستوري ولا يصح استمرار العمل به بعد نصف قرن من التشوهات العنيفة التي تسبب بها في مسار حماية مصالح المستأجرين محدودي الدخل وحرمان ملايين المُلّاك من الانتفاع بعقاراتهم، تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة، بسبب العنصرين الأساسيين للإيجار القديم وهما: امتداد عقد الإيجار وتثبيت الأجرة.
وهناك حقائق أخرى أكثر أهمية في السياق الراهن، أبرزها أن الدولة لا تسعى بجدية إلى حلٍّ جذريٍّ ومتوازن يحمي مصالح الطرفين، رغم قرع أجراس الإنذار طويلًا وبشكل متواصل، وانتقال المعارك الضارية بين طرفي العلاقة الإيجارية من أقسام الشرطة والمحاكم إلى وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، مما ساهم في زيادة حدة التوتر المجتمعي وتعميق مظلومية المُلَّاك التاريخية، بالتزامن مع تصاعد قلق المستأجرين الفقراء من أي إجراءات جذرية تحرمهم الحقَّ في السكن.
إنها حالة تقاطع كلاسيكية بين مبدأين دستوريين: حماية الملكية الخاصة بما تمثله من مقوّم اقتصادي أساسي من جانب، والحق في المسكن الملائم والآمن والصحي الذي تتعهد الدولة بتوفيره للمواطنين "بما يحفظ كرامتهم الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية". يبدو المبدآن متعارضين، ولكن بالإمكان رسم صورة أخرى لتكاملهما، بإلزام الدولة أن تضع خطة وطنية للإسكان تتضمن عناصرَ عديدةً لتحسين جودة الحياة وحفظ حقوق الأجيال المقبلة.
وفي ظل الدستور الحالي وسابقيه، وصلت عشرات الدعاوى إلى المحكمة الدستورية العليا تطعن في دستورية نظام الإيجار القديم بمختلف عناصره، ولا أدري علامَ راهنت الدولة وهي تواجه كل هذا الاحتقان بالإهمال التام لنحو ربع قرن؟!
فن صناعة الكوارث
مع تعاقب الأجيال وتضاعف عدد المستفيدين والمتضررين من الورثة وتفاقم الأزمة الاقتصادية، تحول هذا الملف إلى حقل ألغام، حتى بدأ نظر مدى دستورية امتداد عقد الإيجار القديم للأشخاص الاعتبارية (الجهات الحكومية والشركات الحكومية والخاصة) في عام 2012، إلى أن صدر حكم بعدم دستوريته في مايو/أيار 2018، ومنح مجلس النواب مهلة حتى نهاية الدورة البرلمانية اللاحقة (يوليو/تموز 2019) لمعالجة الأمر تشريعيًا.
انقضت تلك المهلة دون أن يصدر مجلس النواب أي تشريع لمعالجة الأمر، إثر خلاف رئيس مجلس النواب آنذاك علي عبدالعال مع الحكومة. وبدلًا من الإسراع إلى تسوية الأمر، تعطَّل إصدار القانون المنتظر حتى مارس/آذار 2022، أي بعد نحو أربع سنوات من الحكم ونحو ثلاث سنوات من انقضاء المهلة التي حددتها المحكمة. كما خيّبت الدولة آمالًا متفائلة بأن يعالج التدخل التشريعي جميع حالات الإيجار القديم، ليقتصر على إعطاء مهلة ورسم مسار للتفاوض لحالات الإيجار التجاري والإداري، ولم يقارب حالات السكن.
قضية الإيجارات أهم من عشرات القوانين التي ناقشها البرلمان مؤخرًا مما يضع أسئلة حول أولوياته التشريعية
استمرت الدولة في إثبات عدم جديتها مع بدء نظر الدعوى التي صدر فيها الحكم الأخير. فبيانات الدعاوى المنظورة أمام "الدستورية" ليست سرًا بل منشورة على موقعها الإلكتروني، وتُخطَر بها الأجهزة المعنية من خلال هيئة قضايا الدولة. لكن لم يحرّك أحد ساكنًا عند صدور تقريرين من هيئة مفوضي المحكمة بالدعوى، في فبراير/شباط ويوليو الماضيين. ومع أن التقرير الأول أوصى بعدم قبول الدعوى وأوصى الثاني برفضها، فقد كان لا بد من الاستعداد لكل الاحتمالات ومعاودة الاهتمام بالملف الذي يمس حاضر ومستقبل عشرات الملايين من المصريين.
والأكيد أن قضية الإيجارات أهم وأكثر إلحاحًا من عشرات المسائل التي ناقشها مجلس النواب خلال الأشهر الأخيرة، مثل مشروعات تعديل أو تغيير قوانين مستقرة مثل الإجراءات الجنائية والعمل، مما يرسم علامات تعجب واستفهام بشأن أولويات الأجندة التشريعية، خاصة في آخر دورة برلمانية في الفصل التشريعي الحالي، خاصة وأن آخر تحرك "مُعلن" من البرلمان كان مخاطبة لجنة الإسكان للحكومة قبل سبعة أشهر لموافاتها ببيانات إحصائية بوحدات الإيجار القديم.
خطر الهروب من المواجهة
ومع تتابع موجات التضخم واتساع الفجوة بين قيم الإيجار الجديدة والقديمة، يُبرِز الحكم حقيقةً أخرى: يصعب أن نخرج من حقل الألغام سالمين دون تغيير جذري. وقائمة الأسباب تطول من واقع الحيثيات، وتجربة قانون تسوية أوضاع الإيجار القديم للأشخاص الاعتبارية رقم 10 لسنة 2022.
أولًا: الحاجة إلى الضوابط الموضوعية
حددت المحكمة موعد دخول الحكم حيز النفاذ بنهاية الدورة البرلمانية الحالية الصيف المقبل، لكنها لم تقترح سياسة محددة للتعامل مع الأمر، وهذا ليس دورها، بل وضعت مجموعة من المحددات لإنتاج تشريع جديد يعالج تشوهات النظام القديم هي:
- مراعاة التوازن بين مصالح المالك واحتياجات المستأجر،
- ومراعاة معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية لقيمة الأجرة،
- وعدم جواز تثبيت القيمة،
- وعدم جواز اتخاذ إجراء يؤدي إلى تراجع عائد استثمار العقارات المؤجّرة.
وإذا أردنا ترجمة تشريعية لتلك المحددات، فلا بد من سن "ضوابط موضوعية" بتعبير المحكمة، لتحديد القيمة الإيجارية، وليس الاكتفاء بمضاعفة القيمة بنسبة معينة، مثل ما نص عليه القانون 10 لسنة 2022 بأن تكون القيمة الإيجارية خمسة أمثال القيمة القديمة ثم زيادتها سنويًا بنسبة 15%، لأن الواقع العملي يكشف تزايد لجوء المُلّاك إلى القضاء لعدم رضاهم بتلك القيمة، وصعوبة التراضي مع الجهات والشركات المستأجرة على قيمة إيجارية مختلفة.
ربما يبدو استنساخ حل القانون 10 لسنة 2022 مغريًا للبعض، فهو بالتأكيد أبسط تشريعيًا من وضع ضوابط موضوعية. لكنه محض تسويف وتهرب من المواجهة.
إن تكرار هذا السيناريو في علاقات الإيجار بين المواطنين وبعضهم سيضع المحاكم المدنية في مواجهة فيض غير مسبوق من الدعاوى لإلزام المستأجرين بزيادة الإيجارات استنادًا إلى حكم الدستورية، مما يؤكد الحاجة إلى "هندسة" ضوابط موضوعية تحول دون الزج بالمواطنين في منازعات تثقل كاهلهم بالأعباء المالية، وتفرّغ الحكم من مضمونه الهادف لتحقيق مصلحة الطرفين.
ثانيًا: عوامل تحديد الضوابط
هناك عوامل يجب دراستها بعناية قبل تحديد الضوابط، بعضها يتعلق بالأوضاع الاقتصادية العامة، وعلى رأسها معدل التضخم ومستوى الدخول، وبعضها الآخر يرتبط بالعوامل الحاكمة للقيمة الإيجارية كالموقع الجغرافي ومتوسط قيم الإيجارات الجديدة في المنطقة وطبيعة العقار ومساحته وقيمة مبانيه وعمرها ومميزات الوحدة السكنية وعيوبها. ثم.. أليس ضروريًا أن نأخذ في الحسبان فترة إقامة المستأجر وارتباطه بالوحدة؟ وأليس مهمًا أيضًا دراسة الحالة الاقتصادية للمستأجر وما إذا كان يملك عقارًا آخر من عدمه؟
يخبرنا آخر تقرير بحثي أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن اتجاهات الإنفاق والاستهلاك عام 2020، أن الأسرة المصرية تنفق بين 18.4% و23.1% من دخلها على السكن ومستلزماته، وأن نحو 6.7% من الأسر تقيم في وحدات إيجار قديم أغلبها في المناطق الحضرية. ولا نعرف ما إذا كانت لدى الدولة اليوم أرقام ترسم صورة أكثر دقة لتساهم في تحديد ضوابط قيمة الأجرة.
ثالثًا: اختبار لبقايا البيروقراطية المصرية
في حالة وضع ضوابط موضوعية، حسب توصية المحكمة الدستورية، فلا بد من إسناد عملية التقييم أو وضع مؤشرات للتسعير حسب المناطق إلى جهة معينة، ولدينا تجارب قديمة مع لجان تقدير القيمة الإيجارية التي كانت تابعة للمحافظة والمحليات، مع إتاحة تظلم المالك أمام مجلس أو لجان تختص بمراجعة القيمة، بناء على معايير من بينها ثمن المثل للأرض من واقع أسعار التعامل وأسعار التكلفة الفعلية لمختلف مستويات المباني مع أخذ النفقات في الاعتبار مثل الأساسات والتشطيبات والتوصيلات للمرافق، ومن واقع تطورات أسعار مواد البناء ونفقات العمالة.
ندفع ثمن الازدراء المستمر للبيروقراطية المصرية وتخفيض أعداد الموظفين بما لا يواكب زيادة سكان
وهناك وسيلة أخرى ربما يجدر التفكير في الاستعانة بها، وهي لجان الحصر والتقدير المنشأة وفقًا لقانون الضريبة العقارية، وهي مختلفة عن اللجان التابعة للمحليات، إذ تشكل بقرار من وزير المالية، بعضوية ممثل عن المحافظة وآخر عن المواطنين المكلفين بأداء الضريبة يختارهما المحافظ، وهناك نظام قائم لعمل تلك اللجان ومعايير تقدير القيمة الإيجارية في ضوء مستوى البناء والموقع الجغرافي والمرافق المتصلة بالعقار.
لكن العائق أمام إحياء لجان التقدير أو توسيع نطاق عمل لجان الضريبة العقارية يتمثل في التراجع الكبير لعدد موظفي المحليات في السنوات الأخيرة إلى حد تعدد الشكاوى من بطء البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء طوال السنوات الأربع السابقة، ما دفع الحكومة إلى تعديلات متتالية في منظومة التصالح لتقليل الإجراءات التي تتطلب انتقال الموظفين والمعاينة وإعداد التقارير الفنية وغيرها مما يتطلب عمالة كثيفة وخبيرة.
إننا ندفع بصور مختلفة ثمن الازدراء المستمر للبيروقراطية المصرية واستسهال تخفيض أعداد الموظفين بما لا يواكب الزيادة السكانية، والانصراف عن الاستثمار في تقويم الجهاز الإداري للدولة وتحسين كفاءته؛ تارة بحجة استشراء الفساد، وتارة أخرى بدواعي التحول الرقمي، دون أن يقابل ذلك تطور تكنولوجي متكامل وناجع.
كما ندفع ثمن إهمال الاستحقاق الدستوري بتشكيل منظومة جديدة للمحليات، التي كان من الممكن اليوم إسناد ملف الإيجار القديم لها، وصقلها بصلاحيات وخبرات معاونة فنية وإدارية ومالية، فتخفف الأعباء عن السلطة التنفيذية، وربما تؤدي أيضًا دورًا توفيقيًا يقلل المنازعات القضائية.
رابعًا: الاحتياج لمنظومة شاملة
يخشى البعض التصريح بسبب رفضهم لوضع ضوابط موضوعية للقيم الإيجارية. أعتقد أن السبب ببساطة هو التخوف من انعكاس تلك الضوابط ومؤشرات التسعير أو القيم الاسترشادية للمناطق المختلفة على سوق الإيجار الجديد الأوسع بطبعه، والمنفلت تمامًا، والذي زاد انفلاته في العامين الأخيرين بسبب تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار وزيادة أعداد المهاجرين من الدول العربية المأزومة.
ولذلك يطالب قسم واسع من مُلّاك العقارات بالعمل على تحرير العلاقة التعاقدية سريعًا، ولا يعيرون مسألة الضوابط الموضوعية للقيمة اهتمامًا، لأن الهدف النهائي هو إخلاء العقارات وإعادة تأجيرها بتحرر كامل من أي ضوابط.
لا جدال في ضرورة حماية الملكية الخاصة وحق استغلالها، لكن أعتى الدول الرأسمالية لا تخلو من آلية تشريعية/تنفيذية متكاملة لضبط القيم الإيجارية، ليس فقط لحماية مصالح المالك والمستأجر، بل أيضًا لضمان حق المواطنين في الحصول على سكن ملائم بسعر مناسب.
وهناك نماذج متكاملة في بريطانيا وألمانيا وفرنسا والإمارات تقوم إجمالًا على خمسة عناصر:
- دليل استرشادي للقيم الإيجارية بكل منطقة عمومًا أو بأدق تفاصيل العقارات،
- إتاحة الدليل إلكترونيًا للكافة مع تحديثه وفقًا لمعدل التضخم وسعر الفائدة وحجم العرض والطلب،
- إتاحة بدائل مختلفة لتشجيع الملّاك على التنافس في تخفيض السعر،
- تلقي الشكاوى من المالك أو المستأجر،
- رعاية المفاوضات الودية ومحاولة التوفيق دون العرض على القضاء.
إن تكلفة اقتباس أحد تلك النماذج أو الدمج بينها تتطلب استثمارًا حكوميًا طويل الأمد، لكن العائد سيفوق ذلك على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وسيساهم في إنعاش سوق العقار المتوسط باستغلال ملايين الوحدات المغلقة والقضاء على مشاكل السكن وإعانة آلاف الشباب محدودي الدخل المقبلين على الزواج وتحسين جودة المعيشة.
يرى كثيرون حكم "الدستورية" بابًا لفرجٍ طال انتظاره، ويعتبره آخرون نقمة. ربما تراه الدولة مأزقًا صعبًا ومكلّفًا، ويتخوّف مراقبون من آثاره المزلزلة ويحذرون من انفجار. لكنه أيضًا فرصة كبرى لتحديث منظومة الإيجارات في مصر، ونحن لا نملك رفاهية إهدار المزيد من الفرص.