تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
التضخم يرفع أسعار الإيجارات في مصر

فوضى الإيجارات.. اللاجئون متهمون ولكن "العيب في النظام"

منشور الأحد 1 سبتمبر 2024

"لو مش عاجبك فيه سوداني هياخدها"، هكذا رد مالك شقة في منطقة عين شمس الغربية بالقاهرة على الشاب الثلاثيني خالد إبراهيم عندما اعترض على دفع 5000 جنيه إيجارًا شهريًا لشقة لا تتجاوز مساحتها 90 مترًا، رغم أن الشقة ذاتها كان إيجارها 2000 جنيه فقط منذ 6 شهور، حسب خالد.

يُحمِّل خالد، وهو أسطى نقاش يحمل شهادة دبلوم ويبحث عن شقة للزواج، اللاجئين السودانيين، مسؤولية ارتفاع قيمة الإيجارات، لكنه في الوقت ذاته لا يعفي ملاك الشقق من الجشع، والسماسرة من الاستغلال، متهمًا الحكومة بالتقاعس عن ضبط سوق الإيجار.

لا توجد إحصاءات يمكن القياس عليها الآن، فآخر بحث عن الدخل والإنفاق صدر في 2020، أي قبل موجات التضخم المتتالية وتعويم الجنيه، ورغم ذلك رصد البحث أن الأسرة المصرية وقتها كانت تنفق نحو 19.2% من دخلها شهريًا على بند السكن وحده.

وحسب إحصاءات الإيجار في مصر 1986-2017، التي أصدرها مرصد العمران في 2017، بلغ متوسط ​​قيمة الإيجار الجديد في عام 2017 حوالي 1200 جنيه شهريًّا، وهو ما كان يمثل زيادة نسبتها 20% عن العام الذي سبقه.

اللاجئون مستأجرون

وفقًا لتقديرات أربعة سماسرة من مناطق فيصل وعين شمس والوايلي، شهدت أسعار الإيجارات زيادة تتراوح بين 100 و150% خلال عام. وقال وائل عثمان سمسار عقارات بعين شمس، لـ المنصة "الشقة اللي كانت بـ1500 و2000 جنيه أصحابها بقوا يطلبوا 3500 و4000.. الأسعار دي مكناش بنسمع عنها قبل السودانيين".

"لا يمكن أن نلوم الضحية"، يقول يحيى شوكت محلل سياسات الإسكان والعمران وشريك مؤسس بعشرة طوبة للدراسات والتطبيقات العمرانية لـ المنصة أن "الشخص المضطر يدفع إيجار مرتفع هو ضحية".

بينما يشير الناشط نور خليل، مدير منصة اللاجئين في مصر، إلى أن من نزحوا هربًا من الحرب وقطعوا رحلة طويلة "بيكونوا في حالة من الإرهاق والتعب لا يمكن وصفها، وهمّهم يلاقوا أي سكن حتى لو كلفهم كل ما يملكون، أحسن من النوم في الشارع" يقول خليل لـ المنصة.

مع تزايد القتال وقصف المدينة في يوليو/تموز 2023 غادر حسن عبد الإله بيته في حي العرضة بمدينة أم درمان، ثاني أكبر مدينة في ولاية الخرطوم، ووصل القاهرة بعد رحلة استمرت نحو شهر ونصف الشهر.

 رتَّب حسن مع أحد معارفه في القاهرة ليوفر له ولأسرته، زوجة وثلاثة أطفال، سكنًا مؤقتًا "رشحلي عين شمس، قال لي فيها كتير منكم (السودانيين) وما هتحس بغربة. استأجرت شقة أوضتين بـ5 آلاف جنيه شهريًا، ودفعت 10 آلاف تأمين، غير عمولة السمسار" يقول حسن لـ المنصة.

حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، دخل مصر في الفترة ما بين أبريل/نيسان 2023 ويونيو/حزيران 2024 حوالي 617,000 سوداني، مع تفاقم الحرب الأهلية.

وتستضيف مصر 682,945 لاجئًا وطالب لجوء مسجلين من 62 دولة، معظمهم من السودان وسوريا وجنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا، بالإضافة إلى أعداد أقل من اليمن والصومال، ویعیش معظم اللاجئين في المناطق الحضرية بالقاھرة ومحافظات الساحل الشمالي.

وبين هؤلاء يشكل السودانيون الفئة الأكبر، إذ بلغ عددهم حتى 30 يونيو/حزيران الماضي 402,224 شخصًا بنسبة 59% من إجمالي اللاجئين وطالبي اللجوء، ووفقًا للمنظمة شهدت السجلات زيادة مقدارها ستة أضعاف في عدد السودانيين المسجلين لاجئين، معظمھم من النساء والأطفال، منذ بداية الحرب.

المالك المتمرس والمستأجر الضعيف

يعد وضع حسن أفضل من عبير الفاتح، التي قُتل زوجها في قصف مدفعي على قرية السماني بولاية سنار جنوب شرق السودان، في فبراير/شباط الماضي، فأصبحت فجأة مسؤولة عن طفلتين. وصلت عبير إلى القاهرة في أبريل/نيسان الماضي، واستضافتها أسرة سودانية في الحي العاشر بمدينة نصر لمدة شهر.

"كنت أدور على شقة صغيرة أقعد فيها أنا وبناتي، مشينا كثير والآخر لقينا شقة غرفة وصالة في فيصل أدفع لها 4 آلاف جنيه كل شهر" تقول عبير لـ المنصة.

تعرضت عبير للنصب من اثنين من السماسرة السودانيين "ما راعوا ظروفنا وأخدوا فلوس مني وضحكوا عليا".

يشير يحيى شوكت إلى مصطلح "المالك المتمرس"، وهو الشخص الذي يملك خبرة كبيرة في التعامل مع المستأجرين، ويعرف نقاط الضعف والقوة في قانون الإيجارات، لافتًا إلى أن هذا النوع من الملاك يستطيع بخبرته أن ينتقي "المستأجر المستضعف"، حتى يكون تحت سيطرته طول الوقت. وليس هناك أضعف من هارب من الموت إلى بلد لا يعرف بها أحدًا، يقول شوكت "زي ما بنقول كده حد ملوش ضهر، وبالتالي سهل أتحكم فيه وأكسب منه أضعاف اللي هكسبه في العادي".

يتفق معه نور خليل، منطلقًا من صعوبة الحالة التي يصل فيها اللاجئ إلى مصر "يتضاعف الاستغلال مع الحالات الأكثر ضَعفًا، مثل الأشخاص الذين لا يحملون مستندات ثبوتية، والأم العزباء".

يظن خالد أن قبول اللاجئين بأسعار الإيجارات المرتفعة لا ينبع من يأسهم وسوء حالتهم "دي ناس بتاخد فلوس من الأمم المتحدة بالدولار، دا غير أنهم جايين من السودان بفلوس ودهب كمان".

بينما يبرر إبراهيم غنيم، السمسار في منطقة فيصل، لـ المنصة بأنه "في الغالب لا تسكن أسرة سودانية واحدة في الشقة، فحتى لو الإيجار 10 أو 15 ألف جنيه بيتقسموا على عيلتين"، ويضيف "أنا أجرت شقة 3 غرف في الطوابق بفيصل لأسرة بـ9 آلاف جنيه. بعد أسبوع بقى فيها 3 أسر، يعني هتقف على كل أسرة بـ3 آلاف، أنا أصلًا كنت بأجر الشقة بالـ3 من كام شهر".

يرى نور خليل أن السودانيين مثلهم مثل الشعب المصري، في كل أسرة شخص يعمل في الخليج، وقد يكون أحد الأقارب في أوروبا "وطبيعي لما العائلة تتعرض لضائقة كبيرة زي الحرب والنزوح أن الجزء من العائلة اللي في مكان آمن وبيشتغلوا ومستقرين يساعدوا اللي في الأزمة"، مشيرًا إلى أن عددًا كبيرًا من اللاجئين يستدينون من أجل السكن وبالتالي تزيد أزمتهم.

"أنا أحب أدفع أقل لأني ما أعرف إذا جايلي فلوس تاني ولا لأ"، تقول عبير ردًا على اتهام السودانيين برفع قيمة الإيجارات في مصر.

ويشير الباحث العمراني أحمد زعزع في حديثه مع المنصة إلى أن مصر تعاني من فوضى في سوق الإيجارات منذ فترة طويلة، لافتًا إلى أن القانون الحالي لا ينص على معيار لزيادة قيمة الإيجار بعد انتهاء المدة الإيجارية بين المالك والمستأجر.

وقال "إنه في الغالب لا يؤجر مالك لساكن أكثر من ثلاث سنوات، ومع نهاية المدة لا يكون لدى الساكن أي علم أو حتى توقع بقيمة العقد الجديد، ويكون من حق المالك تحديد أي قيمة يريدها ويكون المستأجر أمام خيارين فقط، إما الاستجابة أو البحث عن سكن آخر".

وأكد زعزع أن تحميل اللاجئين مسؤولية زيادة قيمة الإيجارات يغذي روح العداء لكل أجنبي، فيما يرى شوكت أن خطاب الكراهية ضد اللاجئين الذي نتابعه الآن بسبب ارتفاع أسعار الخدمات، حدث ويحدث في الأردن ولبنان وألمانيا وكل الدول التي تستقبل اللاجئين "السوشيال ميديا أظهرت المشكلة للجميع، لكن دي حاجة حصلت قبل كده في موجات استقبالهم في التسعينيات وبعد الحرب الأمريكية على العراق".

يطرح الباحث العمراني حلًا للمشكلة بقوله "لا بد من إقرار قوانين تنص على عدم التفرقة بين المستأجر المصري والأجنبي، وتضع ضوابط للإيجارات بشكل عام أيًا كانت جنسية المستأجر".

تاريخ قوانين الإيجار

عرفت مصر نظام الإيجار في بداية القرن العشرين، وخلال الفترة ما بين 1920 و 2020، صدر 16 قانونًا لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر. ويلفت شوكت إلى أنه مع بداية القرن العشرين ظهر من يمكن تسميتهم "الملاك الكبار"، الذين كانوا عادة من الأعيان وكانوا عادة يؤجرون للأفندية ومن لهم دخل ثابت. ومع الحرب العالمية الثانية بدأ توافد الأجانب إلى مصر، فانضموا إلى الفئات المؤجرة، وعليه رفع المُلاك الإيجارات على الجميع.

وفي عام 1920 صدر أول قانون للإيجارات، الذي حدَّد قيمة الإيجار بـ7% من قيمة الأرض، وفيه تم النص على عدم جواز طرد المستأجر إلا بحكم محكمة. بعد نحو 20 عامًا، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية تزايد أعداد الأجانب في مصر، ولما زاد الطلب استغل بعض الملاك الموقف، فصدر قانون 1941، وفيه مُنع المالك من رفع قيمة الإيجار أو طرد المستأجر لظروف الحرب.

وبعد 1952 صدرت عدة قوانين خفضت قيمة الإيجار للمستأجرين القدامى، بهدف تحسين ظروفهم المعيشية، إلى أن صدَرَ قانون الإيجار الموحد في 1981 والتزم بأن يكون الإيجار 7% من قيمة الأرض، مع إمكانية زيادة الإيجار كل 5 سنوات بنسبة 10%، وفي هذا القانون سُمح للمالك ببيع العقار المُؤجر مع استمرار المستأجر في السكن، لكن مع دفع قيمة إيجارية جديدة تحددها المحكمة.

مع كل القوانين السابقة كانت الدولة بشكل أو بآخر متدخلة في العلاقة بين المالك والمستأجر، إلى أن صدر قانون الإيجار الجديد في 1996، الذي حرَّر مدة التعاقد بين المالك والمستأجر، وسمح بزيادة الإيجار سنويًا بنسبة تصل إلى 10%.

"تحديد الإيجارات ليس اختراعًا مصريًا، بل هو نسخة من القوانين الإنجليزية"، حسب شوكت، الذي يضرب المثل بألمانيا، وهي دولة اقتصادها خليط بين الرأسمالية والاشتراكية لكنها استطاعت تحقيق توازن ما، "لكن هذا لا ينفي وجود استغلال من جانب بعض الملاك مع موجات اللاجئين التي دخلت ألمانيا".

ويرى شوكت ضرورة أن يهدف تدخل الدولة في تنظيم سوق الإيجارات إلى إعادة التوزان بين المالك والمستأجر "قانون الإيجار القديم كان به تدخل مفرط من جانب الحكومة، فيما جاء قانون الإيجار الجديد على النقيض، إذ ترك العلاقة بين المالك والمستأجر حرة تمامًا دون أدنى انضباط، وهو ما يستدعي معالجة حقيقية".

يتفق معه الباحث أحمد زعزع بقوله "أن تدخل الدولة في تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر بات ضرورة ملحة وشيئًا حتميًا"، مقترحًا إجراء تعديلات تشريعية على قانون الإيجار الحالي "زي ما بينص على زيادة سنوية 10% ينص على نسبة معينة للزيادة بعد انتهاء مدة العقد".

"ولو خايفين من ظلم الملاك ممكن يحصل تعديل للنسبة كل فترة أو مع زيادة التضخم أو غيره من المعايير التي تضمن حماية المستأجر وما تكونش خسارة للمالك" يقول زعزع.

ولا يخفي زعزع مخاوفه من ترك الأمر للمحليات، "مش عارفين إزاي هيتم التعامل مع الموضوع وكلنا عارفين تاريخ الفساد في المحليات، والأفضل يحصل من فوق بإدخال تعديلات على القانون".

بينما ترى أمنية خليل باحثة الأنثروبولوجيا في شؤون العمران ضرورة ألا تترك الدولة أسعار الإيجارات للسوق المفتوحة التي تقودها السياسات النيوليبرالية.

تقول أمنية لـ المنصة "الناس بتلوم المستأجرين، ويطالبونهم برفض الأسعار عشان أصحاب الشقق يبطلوا يرفعوا السعر، لكن في الوقت نفسه المستأجرين لا يملكون آليات أو وسائل للاعتراض على الإيجارات".

تعتقد أمنية أن الأزمة تتمثل في أننا نعيش في ظل نظام غير عادل لكل الأطراف، فالأزمة الاقتصادية الحالية لها تداعياتها على المؤجرين أيضًا "اللي عنده شقة بيحاول يجيب من وراها أكبر كمية فلوس ممكنة".

عقارات غير مستغلة

لا تخضع سوق الإيجارات في مصر لقاعدة العرض والطلب، فهي "سوق غير منضبطة" حسب توصيف شوكت، "حتى نهاية السبعينيات لم يكن لدينا تخمة عقارية، وكان من الطبيعي ارتفاع الأسعار بمقياس العرض والطلب، دلوقتي عندنا وحدات كتير غير مشغولة".

 

يشير الباحث الاقتصادي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية محمد رمضان إلى أنه في معظم الاقتصادات المستقرة يكون سعر الفائدة مرتبطًا بالعائد الإيجاري، وهو أمر غير متحقق في مصر، وبالتالي "حتى زيادات الإيجارات الآن ما زالت أقل من تكلفة الفرصة البديلة للفوائد في البنك".

ويضيف رمضان أن التفسير المنطقي الوحيد لكثرة الوحدات المغلقة هو أن العائد الإيجاري لها غير مجدٍ، وبالتالي يكون رهان مُلاك هذه الوحدات ارتفاع قيمه العقار نفسه.

ويلفت رمضان إلى أن إجبار ملاك هذه الوحدات على إدخالها في سوق الإيجارات يحتاج آلية لفرض ضريبة على العقارات المغلقة سنويًا تختلف عن الضريبة على الإيجار الموجودة حاليًا "الضريبة دي هتشجع الناس إنها تحط وحدات أكبر في السوق، وبالتالي تنزل بسعر الإيجارات بشكل كبير"، حسب رمضان.

وتابع "على الناحية الثانية هذه الضريبة سوف تُساهم في تقليل ضخ المدخرات بشكل مكثف للقطاع العقاري، الذي أصبح متخمًا بمدخرات المصريين، وهو ما يعطل عجلة الاقتصاد في بلد أساسًا معدلات الادخار فيه متدنية".

ولكن ليست كل الشقق مدخرات مركونة. لا ينشغل محمود حسين، مالك شقة في حي فيصل بالجيزة، بالتحليلات الاقتصادية والاجتماعية لسوق العقارات في مصر "الشقة اللي بأجرها هي مصدر دخلي الرئيسي" يقول لـ المنصة.

"زي ما الصنايعي كان بياخد 50 جنيه في شغلانه وبقى ياخد 300 جنيه على نفس الشغلانه أنا كمان من حقي أرفع دخلي" يقول محمود لافتًا إلى أن من يتحدثون عن جشع الملاك لو أتتهم الفرصة سيفعلون ما يفعله تمامًا "من الآخر محدش بيقول لأ للفلوس". 

ما يشرحه كل هؤلاء الأطراف من لاجئين وخبراء وملاك لا يشغل خالد كثيرًا في رحلة بحثه عن شقة في عين شمس، خاصة مع اقتراب موعد زواجه "أنا أجلت فرحي مرتين عشان الشقق ومش عارف أعمل إيه.. فرحي باقي عليه شهر واحد بس".