في عام 2004 دعتني الهيئة القبطية الإنجيلية إلى المشاركة بورقة بحثية في منتدى "حوار الثقافات"، فذهبت إليه معتقدًا أننى سأكون أمام حالة مكررة، طالما عشتها في ندوات عقدناها في رحاب الأدب والمعرفة الإنسانية، لكن ما وجدته لم يكن على هذا المنوال أبدًا. كان تجربة مهمة في التدريب على التفاهم.
كان اللقاء منعقدًا في فندق بسيط بالإسكندرية، وصلنا إليه قلة من المثقفين ومعنا شباب ممن يقرأون لنا، ويتابعون ما نُنتج، ونعرف أسماء بعضهم. وزاد هذا وقتها من ظني أننا بصدد لقاء عابر، نقول فيه ما نريد، وينصت إلينا الحاضرون، ثم لا تكون لنا فرصة في اختبار وقع كلامنا عليهم.
كنا نعول على أن بعض من ينصتون إلينا سيدركون بعض المعاني ولو بعد حين، وذلك ما كنا نطمئن إليه في كل ما نقوله ونكتبه، وقد سبق وخبرناه وقت صبانا، حين كنا نقرأ شيئًا يتعارض مع أفكارنا وتصوراتنا، ونزوغ منه، ونرفضه، لكن ما إن نختلي بأنفسنا، حتى نعيد التفكير فيه، وكلما تمر الأيام تختمر المعاني وتنجلي، وتصبح محل مساءلة ونقد، ولا يبقى من صُلبها شيء غير قابل للتفتت والذوبان.
لكن اختبار هذا عمليًا مع آخرين، لم نره كثيرًا وعميقًا بما يشكل ظاهرة، إلا على سبيل التخيل والافتراض، دون أن نتشكك في أن بعضه صحيح. وكنا في حاجة، طوال الوقت، إلى اختبار نتائج القول، أو نرى التصورات النظرية كيف يمكنها التفاعل في دنيا الناس، منتقلة من سطور الكتب إلى الشوارع.
تمرين لاختبار التسامح
هيأت الظروف لي أن أدرك هذا التطبيق في تلك التجربة التي تهادت أمامي طيعة، مع الهيئة القبطية الإنجيلية.
ففى مكان واحد، يجتمع شيوخ من دعاة المساجد ومجموعة من وعاظ الكنائس ومثقفون مدنيون لديهم رؤية مغايرة حول التصورات الدينية وبعض إجراءات التدين في الفكر والسياسة والتصرف الاجتماعي، دون أن يكون لهم بالضرورة موقف مخالف للدين. ولد ذلك حالة من اختبار التسامح بين كل الأطراف.
هذا الخليط من أصحاب الاتجاهات والاعتقادات كان تمرينًا عمليًا لاختبار التسامح، أو هكذا بدا الأمر دون ترتيب منهم، حتى لو كان القائمون على المنتدى قد وضعوا ذلك ضمن الأهداف التي يسعون إليها.
بدأ التمرين بمحاضرات حول بعض القضايا التي تمثل همزات وصل بين الناس جميعًا، تقربهم أكثر مما تبعدهم، وتصنع بينهم ائتلافًا إن كانوا يرومون مصلحة أو حقيقة.
وبعدها يتم تقسيم الحاضرين إلى مجموعات مختلفة، يراعى أن يكون بينها ذلك التنوع قائمًا، ليختلوا إلى نقاش أو عصف ذهني، يقوده شخص من بينهم، يلعب دور المُيّسر، حتى يبلورون أفكارًا يدونونها، ويعرضونها أمام الكل في جلسة جماعية لتحظى بنقاش أعمق، شأنهم في هذا شأن المجموعات الأخرى.
لقد رأيت في أول هذا التمرين كيف كان المختلفون يتباعدون، حتى وقت تناول الطعام، كان كل طير يقع على شكله، فترى الأزهريين ودعاة الأوقاف حول طاولات متجاورة، وفي مقابلهم كان وعاظ الكنائس، أتباع كل طائفة يميلون إلى بعضهم بعضًا. ويجلس المدنيون والعلمانيون متجاورين. وهكذا نكون أمام جزر منعزلة، لا يصل بينها سوى سرسوب ماء ضحل.
الكل اكتشف أن ما ينقصه هو العيش في رحاب دولة تعلي من قيم الحرية والعدل والمساواة في تكافؤ الفرص
بين مسلمين ومسيحيين من كل الطوائف توالت اللقاءات والنقاشات وانفتحت الجزر على بعضها ضمن برنامج "حوار الثقافات" بالهيئة القبطية الإنجيلية، فاكتشف كل فريق أن بينه وبين الآخر الكثير، مما كان لا يعرفه لأنه لم يكلف نفسه عناء التفكير، أو لم تأته فرصة جديدة للقاء، بعيدًا عن الرواسب القديمة المعششة في الأذهان، كأنها وشم عتيق، لا يبليه الزمن.
ومع هذا الاكتشاف ذابت الأوهام التي طال بقاؤها في أيام الجفاء، والابتعاد المصنوع، بين الكل. وزالت عن كل طرف شكوكه، وأخذ عقله ينفتح، ونفسه ترحب، فأقبل على من يختلف معه إقبالًا لم يكن موجودًا أبدًا من قبل.
ولا أقول هنا إن كل الجفاء ذهب أو جميع الشكوك تهاوت، لكن على الأقل ما جرى من انفتاح كان كفيلًا بخلق حالة جديدة، نفسية وعقلية، بين الجميع. ورأيت هذا منعكسًا وقت الطعام والمقام وساعات الرحلة ذهابًا وإيابًا، بل إن كثيرين تبادلوا أرقام الهواتف والعناوين، وتواعدوا على اللقاء بعد انقضاء كل مؤتمر.
ومع تزايد العدد وتجدد المؤتمرات أخذت الهواجس تتساقط شيئًا فشيئًا، وانفتحت نوافذ، تبعتها أبواب، ليفهم الكل أن ما يجمعهم أكبر كثيرًا مما يفرقهم. فالأديان في جوانبها الروحية والأخلاقية تتقارب، بل تتطابق أحيانًا، وتتوحد أهدافها.
كما أن الدور الأخلاقي للدين، في تحريمه للكبائر من قتل وسرقة وزنا وظلم، لا يختلف عليه دين أو ضمير حي أو فلسفة إنسانية. وهذه القيم المشتركة تكون، من دون شك، قاعدة للتلاقي والتفاهم، خاصة حين ينصت كل طرف إلى أخيه، ويرى أنه يعض بالنواجذ على هذه القيم، أو على الأقل يحترم دورها، ويعلي من قدرها.
علاوة على هذا فإنَّ تطرق النقاش إلى أمور اجتماعية وسياسية واقتصادية، تخص الجميع، ساعدهم على إدراك أنهم في سفينة واحدة، وأن القضايا الحيوية، أو التي تمس حياتهم بشكل مباشر، ليست محل اختلاف، فالكل اكتشف أن ما ينقصه هو العيش في رحاب دولة تعلي من قيم الحرية والعدل والمساواة في تكافؤ الفرص، وأن الاختلافات الفكرية حول هذه القيم لا تؤدى إلى فصال تام بين أصحابها.
في تحقيق الوئام
إن هذه كانت من التجارب التي رأيت التسامح يولد فيها أمام عيني، وسمعت صوته، موزعًا على كل الأصوات التي كانت حريصة على المشاركة في النقاش بحثًا عن نقاط التقاء. ورغم أنه لا يمكن الزعم أن كل من شاركوا في هذه التجارب تخلوا تمامًا عما كان يعشش في أذهانهم ونفوسهم قبل أن ينخرطوا فيه، فإني متأكد، ليس كشاهد عيان إنما كمشارك منخرط تمامًا، أن هذه التجربة تركت بصمتها على أذهان المشاركين ووجدانهم.
وأستدل مبدئيًا على ذلك التأثير، بما رأيته بعينىَّ من تحول في الخطاب والتصرف لدى هؤلاء الذين مروا بهذه التجربة، أو سنحت لهم هذه الفرصة، ويمكن لكثير من القائمين عليها أن يقدموا شهادة ناصعة حولها. لكن بناء برهان أكثر رسوخًا يستحق دراسة أكبر، يمكن لمن يعدها أن يلتقط عينة ممثلة من هؤلاء، أو حتى تشملهم جميعًا، لا سيما من منتجي الخطاب الدينى، لنعرف حجم التأثير واتجاهه، وبذا نقف على مدى جدوى التجربة، وكيف يمكن أن تكون أكثر فاعلية في المستقبل.
نعم، أتاحت عودة كثير من هؤلاء للمشاركة في لقاءات تالية فرصة لنعرف، لأول وهلة، أن هناك تغييرًا إيجابيًا طرأ على أفكارهم، لكن هذا ليس كافيًا، فربما هناك من يبدي تكيّفًا مع هذا المحيط الاجتماعي المؤقت، فيظهر عكس ما يبطن، أو بمعنى أدق، بعض ما يبطن، فيتحدث ويفعل ما يوافق الحال، محتفظًا بآرائه الحقيقية لنفسه. ومن ثم فإن متابعة أكثر عمقًا، عبر دراسة ميدانية، تصبح عملًا مهمًا ومفيدًا في هذا المضمار.
كما أن مثل هذه الدراسة ستبين أيضًا ما إذا كان الهدف الأوسع لمثل هذه اللقاءات قد تحقق أم لا، فمنتجو الخطاب والدعوة الدينية الذين يشاركون، هم ممن يتحدثون في الناس أو يعظون ويرشدون إلى ما يرونه العمل الصالح، وبذا فإن ما التقطوه من أفكار، واقتنعوا به، سينقلونه إلى من ينصتون إليهم، وبذا تتتابع دوائر التأثير.
كما أن هؤلاء، خاصة في الريف، لهم دور في تحقيق الوئام أو السلام الاجتماعي، وكثيرًا ما يتدخلون في فض المنازعات التي تنشب من آن لآخر لأسباب دينية أو غير ذلك لكن يتم سحبها على الطائفية، فإن كانوا هم أنفسهم تعلموا فضيلة الحوار، والبناء على المشترك، والتقليل من التأثير السلبي للمختلف عليه، فمن دون شك سيساعدون كثيرًا على جذب الآخرين إلى التفاهم، بل إن اتفاقهم وتوافقهم في حد ذاته يضرب مثلًا ناصعًا في هذا الاتجاه، ويشجع الأغلبية على أن تحذو حذوهما، أو على الأقل تنصت إليهما في إمعان.
وهناك بالطبع تجارب مشابهة عدة، قامت بها مؤسسات المجتمع المدني المصري، لا سيما في السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين، تحت لافتات "قبول الآخر" و"ثقافة الحوار" و"حقوق المواطنة وواجباتها"، لكن أيًا منها لم يكن بهذا التتابع والتكثيف والخضوع لتصور متماسك، وفق منهج شارك في صياغته عدد من الخبراء المتعاونين مع برنامج "حوار الثقافات" بالهيئة القبطية الإنجيلية، وصنعَ مسارًا جديرًا بالنظر والتقدير، لكل من يريد أن يؤسس لتفاهم أو تسامح طوعي، تنسج خيوطه على مهل، فيكون أبقى وأبهى.