تصميم أحمد بلال، المنصة
إن جدال الهويات جدال فارغ من الأصل، لأنه ينفي الواقع التاريخي الطبقي للمجتمع.

إحنا عرب والنبي عربي.. وضامنَّا

قصة فيسبوكية للقومية المصرية

منشور الاثنين 2 سبتمبر 2024

انتشرت في الآونة الأخيرة على السوشيال ميديا دعوات لتبني القومية المصرية، لكن من منظور جديد لم نألفه من قبل، ارتفعت وتيرتها مع تصاعد التوغل الصهيوني والعدوان على غزة.

يحدث ذلك على السوشيال ميديا دون أي أصداء في الشارع المصري المنهمك في حساب أسعار البانيه والبطاطس والطماطم والمواصلات، والمحاولات اليائسة لاستخراج "الجنيه" من بطن الحوت. يتزامن ذلك مع تعاطف ملموس، لكنه صامت، مع القضية الفلسطينية، نراه في انتشار أعلام فلسطين على سيارات الأجرة والمواصلات العامة والملاكي والتكاتك. إذ إن المصريين، ولظروفٍ معلومة، ليس لديهم متسع للتعبير عن تعاطفهم سوى بالإشارة المكتومة.

لا تبدو لي تلك "الحملات الفيسبوكية" مستقلة أو عفوية، فضلًا عن كونها متقنة، شأنها شأن كل ما هو مُوجَّه. بقولٍ آخر، لا تنتقي الجهاتُ التي تحرك هذه الحملات، أيًا كانت، كوادرَها. فنجد صفحات، كانت في يوم من الأيام للطبخ أو السخرية، تضع صورًا لتماثيل ملوك قدماء المصريين، وتغيِّر أسماءها إلى أخرى مثيرة للدهشة بعض الشيء، من قبيل ابن كيميت وبنات كيميت وسقنن رع وأبناء القومية المصرية... إلخ.

ثم تنهمر علينا بوستات لا تعدو كونها تنفيسًا عن الغضب المكتوم والعراك مع القاصي والداني، فتارةً يسبُّون اليونان وهيرودوت، وتارةً يكتبون بأحرف عربية "أنا مش عربي"، ويسوّقون للفكرة عن طريق بيع أكواب ولوحات وتيشيرتات وعلب مكتوب عليها بالعربي "أنا لست عربيًا".

ولأن تعلُّمَ اللغات الحية، ناهيك عن الميتة، أمر شاق، عمدت تلك الصفحات إلى إثبات أن العامية المصرية لا تنتمي إلى اللغة العربية، وإنما تعود بجذورها إلى اللغة المصرية القديمة بدليل "بتاع، لهوجة، فهلوة، السح، الدح، إمبو".

وبعد جولة شتائم على الدول العربية، عدا دول الخليج، يعرجون على شتم الدول الإفريقية، ويطاردون حسابات الأفرو أمريكان، هاجمين على صفحاتها بصورة جداريةٍ قديمةٍ لملكٍ مصري ما يأسر مجموعة من الأفارقة، ويكتبون بإنجليزية تشبه إنجليزية السيدة الفاضلة التي صاحت مُحذَّرةً ليسن تو مي أوباما؛ "زيس إيز يور جراند فاذر.. هي ووز آ سليڤ فور ماي جراند فاذر".

ثم يخصص أصحاب تلك الصفحات مطولات لسباب الهكسوس! ووصف مَن يعارضونهم بأنهم أحفاد الهكسوس، ويتحدونهم بتحاليل الحمض النووي. ثم يفاجئوننا بصورة لمصريٍّ أو مصريةٍ ما، يعيش أو تعيش بين ظهرانينا في الولايات المتحدة مثلًا، مع تأكيد على أنه ما هو أو هي إلا مومياء تجمعها مع مومياء الملكة حتشبسوت 99% من الصفات الوراثية، والدليل تحليل الحامض النووي الذي يؤكد الانتماء إلى "العرق المصري"!

بذور قومية في تربة الاحتقار

تمثال محمد علي بالمنشية، تصوير: ميشيل حنا

الحقيقة أن القومية المصرية، التي بذرت بذورها عقب ثورتي القاهرة الأولى والثانية في نهاية القرن الثامن عشر، والثورة على خورشيد باشا مطلع القرن التاسع عشر، لها تاريخ أكثر رصانة من تلك العشوائيات السالف ذكرها.

بدأ المصريون يشعرون بذاتهم الوطنية، وبأنهم ليسوا مجرد ولاية تنتظر رضا الخليفة العثماني، بعد أن وجدوا أنفسهم قُبالة الحملة الفرنسية وحدهم، ثم في مواجهة والي مصر خورشيد باشا، حيث تمكنوا، لأول مرة منذ الاحتلال العثماني، من تنحية خادم الباب العالي واختيار آخر للولاية، وهكذا أمسك محمد علي بمقاليد الحكم.

دعم الألباني محمد علي مفهوم القومية المصرية، أو الانتماء لوطن اسمه مصر، لدعم مساعيه للاستقلال بحكمها عن الباب العالي، رغم عبارات وردت عنه في مراسلات أملاها، وصف فيها المصريين بـ"الحيوانات الوحشية". لكن مصالحه السياسية رجحَّت كفة إزكاء قومية هؤلاء "الحيوانات"، ثم تصاعد مفهوم الأمة المصرية إبان الثورة العرابية، ثم في مواجهة الاحتلال البريطاني في ثورة 1919.

تحرك الضباط الأحرار في يوليو/تموز 1952 إثر هبات الشارع المتتالية ضد الاحتلال، التي تجلت بقوة عقب مذبحة الشرطة في 25 يناير 1952، ثم حريق القاهرة في 26 يناير 1952. ومع تبلور فكرة "الوطن المصري المستقل"، ارتأت دولة يوليو تبني القومية العربية، والقومية الإفريقية، لتوسيع مجال مصر الحيوي، وعيًا بأهمية موقع مصر الجغرافي والتاريخي، وقوة تأثيرها على محيطها الذي يخلق منها كيانًا مفيدًا ومستفيدًا.

ويعلم الجميع أن هذا المشروع مُني بهزيمة قاصمة في 1967.

لم نجد في أدبيات القوميين المصريين، أو القوميين العرب، أو القوميين الإسلاميين، أو القوميين الأفارقة، وصلات ردح ومعايرة باللون والأصل. ويكفي أن نعلم أن طه حسين، في بداية شبابه، كان أحد المنحازين إلى القومية المصرية، بما حمله من تطوير للغة العربية التي كان يسميها "لغتنا الجميلة"، وفلسفة ونقد للتاريخ الإسلامي. في حين أننا لن نقع على أي مرجع يدلنا على السح الدح إمبو، سوى أحمد عدوية.

أسئلة لا بد منها

يشهد العالم الآن مع توغل اليمين صعودًا جامحًا للأفكار القومية، غير أن هناك انتقاءً واعيًا لهذه القوميات. لا يوجد بلد على وجه الأرض غير متعدد القوميات والثقافات، بيد أن انتقاء القومية المناسبة تعزوه الأمم إلى موقعها التاريخي الذي يعود عليها بالنفع لتنفيذ مآرب سياسية معينة.

لدينا تساؤلات مشروعة عن أهداف تلك الحملة الممنهجة، المتلخصة في الهوس بالحامض النووي، وسباب الإنسانية جمعاء، باستثناءات بسيطة سنتساءل عنها بعد قليل، بالأخص العرب والأفارقة، وهما مجال مصر الحيوي الدائم، بالإضافة إلى اليونان وهيرودوت والهكسوس أيضًا.

السؤال الأول: من هو الجمهور المستهدف إذا كان المواطن المصري منغمسًا حتى أذنيه في مصاعب حياته الاقتصادية ولا يلقي بالًا، بل لا يملك مالًا، لإجراء تحاليل الحامض النووي، اللهم إلا في قضايا النسب؟

السؤال الثاني: من المستفيد من سُباب كل العرب عدا دول الخليج؟ ولماذا تستثنيها من السباب؟ وهل هذا الاستثناء له علاقة بالأرز الذي نأكله مع الملوخية؟ لا أفضل الملوخية بالخبز.

بالطبع لا نية لديَّ أو رغبة في تسليط الكمايتة على الخلايجة، هذا أمر مرفوض ومقزز، لكنني لا أريد أيضًا سبابًا يطول سوريا وليبيا والعراق واليمن والسودان والمغرب والجزائر وغيرها من الدول العربية، لا أريد سباب الأمم بالأساس. فقط وجب التنويه إلى أن الخليج هو مصدر اللغة العربية، وبناء عليه؛ فهو "أس الفساد" من وجهة نظر أصحاب كيميت، أو هذا هو المفترض إذا كان تمسكهم بالسح الدح إمبو صادقًا.

السؤال الثالث: لماذا يسبون الأمريكيين الأفارقة، وإثيوبيا، والنازحين من سوريا وليبيا واليمن والسودان وغزة، ولا ينبسون ببنت شفة بشأن خطر إسرائيل على مصر؟ إذا انعدمت إنسانيتهم حتى بلغت قسوتهم أن يتغاضوا عن جريمة حرب قضت مضاجع العالم، فماذا عن وجود تهديد نووي على حدودنا مباشرة؟ وماذا بشأن احتلال هذا الكيان النووي لمحور فيلادلفيا؟ وماذا عن خريطة إسرائيل الكبرى؟ وما هو الفرعوني في الاعتراف بإسرائيل؟ ولماذا أصبح رمسيس الثاني راضيًا عن إسرائيل وغاضبًا من الفلسطينيين؟ لو أمكن تحضير روحه ليجيبنا عن هذا السؤال.

أقترح إنشاء اتحاد للحيوانات البشرية.. أنا شخصيًا فخورة بهذه الصفة

السؤال الرابع: من المقصود بعبارة "لسنا عربًا"؟

أستعير هنا قول الدكتورة رضوى عاشور "الانغماس في سؤال الهوية هو مسلك الأمم المهزومة"، وذلك لأنها تريد أن تتحلل من الهزيمة، فتبحث عن مهرب تلوذ به من موقع المعركة الذي حلت فيه نكبتها، لتتخذ موقعًا آخرَ جديدًا لم تندحر فيه. فأي هزيمة لحقت بنا سوى هزيمة فلسطين؟ أي تحلل يرغب فيه أصحاب هذا الطرح سوى من قضية فلسطين؟ ما الضرر الواقع على تونسي أو عماني أو كويتي أو أردني حين يقول المصري "لست عربيًا"؟

إن عبارة "لست عربيًا" المكتوبة بأحرف عربية لا يُقصد بها سوى فلسطين، و"مالناش دعوة بفلسطين" هي العبارة التي تليها، ثم تليها بالضرورة خدمة المصالح الصهيونية، وخدمة المصالح الصهيونية تعني خدمة عدو يرغب في أراضينا يمتلك قوة نووية ودعمًا عالميًا وضوءًا أخضرَ للقتل، ونحن لا نمتلك أيًا من الثلاث. فأي جائزة تحصل عليها إسرائيل أكبر من انعزال مصر عن محيطها ودورها وتاريخها؟

السؤال الخامس: كيف لا نجد ما يجمعنا بمن يفهموننا ونفهمهم، ويشبهوننا ونشبههم، ويوحدنا تاريخ وتجارة ومصالح وأغانٍ وأفلام ورقصات ونكات، عكس ما تفعل أوروبا، التي يتفرق دم ثقافتها بين 24 لغة، وليس في تاريخهم أكثر من تبادل الاقتتال حتى سلخ بعض أمرائهم فروة رؤوس أمراء آخرين، ودامت حروبهم ما يربو على القرن؟

كيف يجد الأوروبيون رابطًا يجعلهم يوحدون عملتهم ومصالحهم، بل ويبحثون في تاريخهم عن مشتركات حتى وإن كانت مستعارة من حضارات أخرى؟ ولماذا تجد الدول اللاتينية ما يوحدها ولا نجد نحن أننا ننتمي إلى محيطنا؟ وكيف أصبحت الولايات الأمريكية متحدةً وهي التي أسسها مهاجرون من كل الأعراق والأجناس على مقابر جماعية لسكانها الأصليين، ووحدت لغتها إلى الإنجليزية، بينما نحن، السكان الأصليين لهذه المنطقة التعيسة الحزينة الثرية، لا نجد ما يوحدنا؟

وأنى للمشروع الصهيوني أن يجمع أشتات شراذم لا تجمعهم لغة، ولا تاريخ، ولا لون، ولا حتى مشروب أو طبق طعام، ويوحدهم تحت خرافة "أرض الميعاد" بادعاء تاريخ غير مثبت علميًا أو أركيولوجيًا، وفي الوقت ذاته يخرج علينا شخص "تنويري"، "كيميتي"، يصف مدينة القدس، المترعة بالآثار المصرية القديمة، التي كلما حفر فيها العدو، ليجد دليلًا على خزعبلاته، وجَدَنا نخرج له من باطن الأرض، بأنها "على الله حكايتها وليس لها أي أهمية"؟ 

السؤال الأخير: ماذا عن كوننا حيوانات بشرية؟ أظنه عنصر وحدة كافيًا! فما انفكَّ "ممثلو العالم الحر في الشرق الأوسط"، كما يحلو للصهاينة تسمية أنفسهم، يرددون هذه الصفة بشأننا حتى أصبح هذا هو لقبنا المعتمد في المحافل الدولية. ومهما حاول أبناء هذه المنطقة الهروب إلى زوايا مختلفة مصرية قديمة أو فينيقية أو سيريانية أو آرامية أو أمازيغية أو نوبية أو آشورية، فكلهم يستظلون بمظلة الحيوانات البشرية التي يمكن إراقة دمائها دفاعًا عن الحضارة في مواجهة "التخلف"، كما قال نتنياهو وصفق له الكونجرس.

ولحل هذه المعضلة، أقترح إنشاء اتحاد للحيوانات البشرية. هاه! أنا شخصيًا فخورة بهذه الصفة، ومستعدة لنقشها وشمًا على ذراعي.

وإيمانًا مني بضرورة تباين الآراء، فلا أجد غضاضة في أن يعلن المتصهين عن نفسه بوضوح، دون التخفي خلف حتشبسوت ورمسيس الثاني وسقنن رع، ودون ادعاء وطنية زائفة تعزل مصر وتحولها إلى نقطة هزيلة، مرتعشة، ليس لها من الحاضر ما تفخر به إلا تحاليل الحامض النووي، التي ليس لها أي إسهام علمي في اكتشافه، لتثبت وجود عرق لم يعرفه العلم.

وبدلًا من أن تواجه مصر الخطر النووي الوحيد على حدودها، فلتواجه كراهية وانعزال كل محيطها عنها، بعد أن كان محيطها هذا حتى وقت قريب، يعتبرها "القائد الأعلى للقوات العربية".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.