ذات مرة، ردَّ أحدهم عليَّ بعدما هاجمت التوجهات القومية الانعزالية الجديدة بعنصريتها الحمض نووية، بالتأكيد على وجود جينوم مصري خاص لا مثيل له بين الإنس والجان، وأننا كمصريين، نختلف تمامًا، وجذريًا، عن كل محيطنا في المشرق والمغرب والجنوب والشمال، وطفق يستجلب عليَّ اللعنات والروابط الإنترنتية لإثبات جهلي.
لست متخصصة في الهندسة الوراثية، غير أن هذا الاختلاف الجيني المفترض، لا بد وأن تكون له أمارات شكلية، فأتيت له بصورٍ لأربعةٍ من أصدقائي أحدهم فقط مصري من قنا، وطلبت منه تحديده. فأشار إلى المغربي، فقلت: لك محاولة أخرى. وبعد اتهامي بالتدليس والخداع، أشار إلى الكويتي، فأعطيته محاولة أخيرة بين العراقي والمصري، فاختار العراقي. وهو يرغي ويزبد بأنني اخترت صورة مصري من "المهجنين"، فصارحته ببلد المنشأ، فبُهت الذي كمت.
الشاهد من هذه القصة، أن تشابه شعوب المنطقة والعوامل التي تجمع بينهم أكبر من كل محاولات الفصل، بل إنه يخلق تضامنًا أوسع وأعمق من التضامن الإنساني الذي تُبديه الشعوب الأخرى نحو ما يحدث في غزة. فشعور سكان المنطقة بأن القتل في بيتهم، وبأن الإهانة موجهة لهم، وبأن نزع الإنسانية يستهدفهم هم، وبأن القتلى أقاربهم ومنهم؛ يجعلهم يرون مصيرهم وهو يؤول يومًا إلى ما يحدث اليوم للغزاوية. فما الذي يمنع ذلك؟ الأرض مجاورة، واللغة واحدة، والثقافة ذاتها، واللون نفسه، والعادات الاجتماعية متشابهة، ومثلها المفاهيم الحضارية، بل وحتى رائحة البيوت.
هذا التوحد العاطفي بين شعوب المنطقة يؤرق العدو حتى وإن لم تكن هذه الشعوب إلا مجموعة من معذبي الأرض وفقرائها المهمشين بلا وزن دولي ولا عسكري، أو "حيوانات بشرية" لا تحظى بما تحظى به السلاحف البحرية من تعاطف بعد أن أثر التغير المناخي على تكاثرها. إلا أن العدو يعي أن هذا التوحد العاطفي قد يتطور إلى ما لا يرغب فيه، ثم إن التفرقة تُسهِّل الالتهام.
نجحت مخططات التفرقة هذه إلى حد كبير في مجالات شتى؛ سياسية واقتصادية وعسكرية، ويجري العمل الآن على قدم وساق لزرعها عاطفيًا بين الشعوب. صحيح أنها مجرد محاولات لم تنجح حتى الآن، لكن هذا لا يعني أن نشعر بالأمان.
ليس لي إلا نفسي، ولن أدع هذا الهراء يمر دون مقاومة من ذراعي الضعيفة.
ما فشلت فيه دعوات التفرقة
بعد خمسة أيام على ذكرى وعد بلفور، داهمنا سيل الأخبار والفيديوهات القادمة من أمستردام وهي تُظهر جمهورًا ناطقًا باللهجة المغاربية العربية يطارد أفرادًا من جمهور نادي مكابي الإسرائيلي.
أثلجت تلك التسجيلات المصورة صدور الكثير من الجمهور العربي، مع بعض استثناءات من المرتعدين دائمًا وأبدًا، بكرةً وأصيلًا. وأكثر ما أثلج القلوب، صرخة ذلك الشاب المغربي وهو يردد بإنجليزية ركيكة أثناء ضربه أحد الصهاينة "من أجل الأطفال.. من أجل الأطفال.. تقتلون الأطفال.. الأطفال الأطفال الأطفال"، ثم سباب بذيء من الذي تترجمه معامل أنيس عبيد إلى "اللعنة".
لم يصفع هتاف "الموت للعرب" وعدم الاكتفاء بالأطفال الذي قتلوا حتى الآن في غزة سوى المغاربة
أما الفريسة الصهيوني، فلم يعوزه الخبث حتى وهو في هذه اللحظة الحالكة من حياته، حين تنبه إلى أن الشاب المغربي يصوره، فأخذ يردد "خذ أموالي.. خذ أموالي"! فبادره الشاب؛ "قل فلسطين حرة"، فقالها.
جاءت ردود أفعال جميع الأطراف انفعالية وعاطفية؛ هرع مسؤولون غربيون إلى إدانة ما وصفوه بـ"معاداة السامية"، ثم صرخ نتنياهو مثل محمد صبحي: إيييييه؟ كلكو عليا ولا إيييييه؟، ثم تدخل في الشؤون الداخلية لهولندا لحماية اليهود من هذه الهجمات المعادية للسامية. وبينما كانت الشرطة تقبض على كل مغربي تصادفه، كنا نحن نلهو ونلعب ونصفق ونتأرجح بسعادة ونحن نتابع الانتقامات الفردية، المنطقية، بل والإنسانية، من أشخاص نعلم بأن جلَّهم خدم في الجيش الصهيوني، ملوّثًا يديه بدماء الأطفال.
وبعيدًا عن دماء الأطفال؛ فإن تسلسل الأحداث في أمستردام، وفق رواية القناة الثانية عشرة الإسرائيلية نفسها، يذهب إلى هذه النتيجة. حيث بدأ مشجعو مكابي بتسلق شرفات ونوافذ بيوت تعلق أعلامًا فلسطينية، واقتحامها لإزالة وتمزيق هذه الأعلام. ثم أطلقوا هتافات تنادي بقتل كل العرب تحت أعين سائقي أجرة من أصول مغربية كانوا يمرون بالطريق.
أما في ملعب المباراة، فقد رفض الجمهور الصهيوني الوقوف دقيقة حداد على ضحايا فياضانات فالنسيا في إسبانيا، بل احتفلوا أثناءها بانتقام الرب من إسبانيا التي تناهض مجزرة غزة، ورددوا هتاف not enough/لا يكفي، في إشارة إلى الحرب التي تستهدف المدارس والمستشفيات والأطفال في غزة.
كل ذلك حدث قبل أي تدخل من الجمهور الهولندي ذي الأصول العربية/المغربية.
كما هو بادٍ، فإن تلك السلوكيات لا تؤوَّل إلا كاستفزازٍ متعمّدٍ لجمهور أمستردام، الذي يستقبل جاليات عربية يتمتع أغلب أفرادها بالجنسية الهولندية، ما جعل البلاد تشهد تظاهرات كبيرة مؤيدة لفلسطين، رغم سيطرة اللوبي الصهيوني على نظام الحكم والأعمال.
لا أعلم معنى "مكابي" بالعبرية، لكن "كابي" باللهجة المصرية يعني "القاتم"، أو "المظلم".
ما علاقة ذلك بكيميت؟
كما نرى مما سلف ذكره، فإن المغاربة وحدهم من استشعروا الإهانة. لا شك أن اقتحام شرفات البيوت ونوافذها أثار غضب هولنديين غير عرب، لكنهم لم يشعروا بالإهانة. رأى هؤلاء جمهورًا غوغائيًا يطلق الفوضى في مدينتهم، وعلى الشرطة التعامل معهم. وحتى إذا فشلت لخوفها من اتهامات معاداة السامية، فسيصبرون يومًا حتى يرحل جار السوء.
لم يصفع هتاف "الموت للعرب" وعدم الاكتفاء بالأطفال الذي قُتلوا حتى الآن في غزة سوى "العرب"، شاء الكمايتة والأمازغة والفنايقة وغيرهم من حاملي مظلة "لسنا عربًا" أم أبوا.
في أحداث أمستردام، ومن بعدها باريس، ومن قبلهما الجندي محمد صلاح، وما بينهم، وما قبلهم، وما هو آتٍ بعدهم إن شاء الله، تسقط كل هذه النظريات التي ليس لها سلطان على الوعي الجمعي والإنساني.
أثار مقالي إحنا عرب والنبي عربي.. وضامنَّا الذي نشرته المنصة في سبتمبر/أيلول الماضي، حفيظة الكمايتة لدرجة أنهم شنَّوا حملات سيبرانية على مستوى القاعدة، للهجوم على شخصي الضعيف بما يَمَسُّ كل ما يمكن أن يُمَسَّ ولا يُمَسُّ. لكن أكثر ما أثار غضبهم من أمة الله، هو حديثي عن أن هذه الحركات لا تخدم سوى الصالح الصهيوني.
وبعد اتهامي بالتخوين والمزايدة والبلا بلا بلا بلا، أوضحوا موقفهم من العدو الصهيوني مؤكدين، مرة أخرى، بأن لا شأن لمصر بما يحدث في فلسطين، لأن تدخلها في القضية الفلسطينية، وهي قضية مصرية بالأساس، جرَّ عليها المصائب والنوائب، ليصبح رفض حرق أطفال في غزة بقدرة قادر دعمًا لتيار الإسلام السياسي. ثم مرة أخرى، يؤكدون أننا لا نتحدث العربية بدليل أننا نقول "البتاع ده"، واتُهمت بأنني أكره قدماء المصريين! وأنا والله ليس بيني وبينهم إلا كل خير؛ فيكفي أنهم ينفقون علينا حتى هذه اللحظة، أكثر الله خيراتهم.
وبينما نعيش اليوم عالةً على أجدادنا الذين عاشوا هنا قبل آلاف السنين، فإن كل ما يشغل بعضنا هو أن نلفظ عن أنفسنا ما يميزنا من تعدد الروافد التي تقبل الحضارات القديمة، والحديثة، والقارية، والثقافية، ويرغبون في أن نعيش في عزلة عن محيطنا. عزلة تشبه تلك التي يعيشها الكيان الصهيوني، لأنه كيان متطفل على شعوب المنطقة.
صدق أو لا تصدق، هذا الكلام هو نسخة مستنسخة من خطاب بقية القوميين المجاورين، والذين ثبت بحمد الله أن ليس لهم تأثير على الأرض. فكل هذه المهاترات تقسم المنطقة في نهاية المطاف تقسيمًا توراتيًا قديمًا، يشبه تصورات نتنياهو، كما أنها تنزع الإنسانية عن الشعوب المحيطة والتي وصمت بأنها "حيوانات بشرية".
وقطعًا لقول كل خطيب، فهذا الشاب الجميل، الطيب، الذي ليس هو بسارق، ولا بمجرم، ولا بمستمتع بالعنف، والذي أصر على الصهيوني أن يردد "فلسطين حرة"، ليطلق سراحه، لم يقل "من أجل العروبة"، ولا "من أجل الإسلام"، ولا "من أجل الأمازيغية"، ولا حتى "من أجل الإنسانية".
لقد قال "من أجل الأطفال"؛ فقُضي الأمر الذي فيه تستفتيان.