عندما كنت في الصف الأول الإعدادي، ترامت إلى مسامعي قصص عن جندي مصري اسمه أيمن حسن، قيل إنه أثناء خدمته على الحدود مع إسرائيل، اشتبك مع عسكري إسرائيلي بالسلاح وقنصه، ثم عبر إلى فلسطين ليصنع كمينًا لقوة إسرائيلية قادمة، تربص بها عن عمد فألحق بها خسائر فادحة في الأرواح، وبعدها عاد بسلاحه إلى الأراضي المصرية مصابًا إصابات خفيفة.
الإلمام بقصة أيمن حسن أخذ مني وقتًا طويلًا. في ذلك الزمن، كان كاف ومُرض أن تجمع ما يتناثر من أخبار غير متصلة بشأن مسألة غامضة على مدار أيام وربما أسابيع، تحقيق صحفي هنا ومقال رأي هناك، لم يكن ملحًا في ذلك العالم أن تعرف تفاصيل الحدث في حينه ولحظته.
كان هناك اطمئنان إلى ما تنشره صحف معارضة أو بعض الصحف الرسمية التي تثق بها، وإذا ما نُشر عن حدث معين بقدر من التواتر سترجح أنه أقرب إلى الحقيقة من الكذب. أما إذا تشابهت الروايات أو تناصت فهذا دليل صحتها، وأساس التعامل معها كحقيقة تستند إليها.
تغير العالم في العشرين سنة الأخيرة مع تسيد السوشيال ميديا والتغطيات الآنية، صارت الأحداث حية والمعلومات متداولة إلى درجة الإرباك. لم تعد المشكلة توفر المعلومة، بل التحقق من صحتها في ظل إغراق الوسائط المتاحة بمواد دعائية تنظمها خوارزميات وخواص ترويجية على نحو خلق إمكانية لصنع حقائق موازية وفقًا لرغبة كل فرد وميوله.
ستريده إسرائيل إرهابيًا، وسيعده الإسلاميون استشهاديًا، وسيفخر به الوطنيون، وسيراه الجرابيع مخلًا باستقرار مصر
ازداد الأمر تعقيدًا في البلدان التي تشهد صدامات أهلية وصراعات سياسية حادة، حيث يمكن لكتل كاملة من السكان أن تمتلك سرديات موازية، لا تتلاقى بالمرة، عن أحداث معاصرة يعيشونها معًا. الولايات المتحدة، وحتى شهور قليلة مضت، عبّر أكثر من 40% من مواطنيها عن قناعتهم بأن انتخابات الرئاسة عام 2020 تم تزويرها ضد دونالد ترامب. يحدث ذلك في أعرق ديمقراطيات العالم التي لم يتوقف فيها التداول السلمي للسلطة لقرنين ونصف من الزمان.
وفي بلد أقل تقدمًا مثل مصر، شهد تأميم الإعلام في السنوات العشر الأخيرة، وتقطعت أوصاله بحجب أغلب المواقع المعارضة والمستقلة، وبالتوازي اعتمدت سياسة شديدة الإملائية على المنصات الإعلامية الموالية للدولة، التي تنشر دعائيات شديدة الفجاجة جعلت المشهد الإعلامي شديد الرداءة والكآبة، ما صرف قطاعات واسعة من الناس عنه. وحتى لو اضطروا إلى متابعته، سيصيبهم قدر لا بأس به من الشك.
حدث جلل وصمت كئيب
في الأيام القليلة الماضية وقع حدث جلل بمعايير تاريخ الاشتباكات الحدودية بين مصر وإسرائيل. في فجر 3 يونيو/حزيران 2023 قَتل مجند مصري ثلاثة عسكريين إسرائيليين وأصاب اثنين في عمليتين متفرقتين. بعض المصادر أشارت إلى أن المجند اسمه محمد صلاح، وهو شاب في الثانية والعشرين من منطقة أحمد عصمت بحي عين شمس في القاهرة، وحاصل على شهادة الإعدادية وعمل كصنايعي ألوميتال في منطقته ومنطقة المرج، ويقضي مدة تجنيد ثلاث سنوات كجندي أمن مركزي.
في الأيام الثلاث الأولى التي تلت الحادث، جاءت أغلب المعلومات الأولية من الجانب الإسرائيلي، وأكثر التقارير معلوماتية نشرتها صحيفة هآرتس، ولم تتوفر معلومات مؤكدة على منصات عربية إلا ما يتناثر على السوشيال ميديا. لم أتمكن من معرفة تفاصيل باللغة العربية إلا في حدود بيان الجانب المصري الذي جاء مقتضبًا خاليًا من الأسماء أو التفاصيل.
لمدة ثلاثة أيام على الأقل، ظل المصريون ممن لهم أبناء يؤدون الخدمة العسكرية فى سيناء يجهلون إن كان أبناؤهم جزء من ذلك الحدث أم لا. تخيل خوف وجزع هؤلاء في ظل متاهة أولها شائعات السوشيال ميديا وآخرها الصمت الرسمي الرهيب.
نعيش سنوات طال فيها الصمت، وإن طال الصمت سينسى الناس الكلام، وقتها سيتحدث عنهم سلاحهم لو استطاعوا استعماله
من داخل المتاهة تلك، قد تتسرب القليل من المعلومات "الصحيحة"، وفي أفضل الأحوال قد نرى جانبًا من الصورة، لكن الصورة الكلية ستظل مضببة، لأنها مجهولة ومجهلة منذ سنوات طويلة. سيحاول البعض تأويل قصة محمد صلاح كما يريد، ستريده إسرائيل إرهابيًا، وسيعده الإسلاميون استشهاديًا، وسيفخر به الوطنيون، وسيراه الجرابيع مخلًا باستقرار مصر وفرص الاستثمار التي هي مصالحهم وفقط.
محمد صلاح نفسه لن يتحدث ولن يخبرنا من هو، فقد تحدث سلاحه عنه. ربما اختلطت دوافعه الوطنية بالعروبية بالدينية، ولربما رأى في القضية الفلسطينية القضية الأكثر عدلًا، أو ربما كان الأمر نتاج ملابسات التواجد والتواصل مع الجانب الآخر من الحدود، أو هو الضجر من كل شيء إلى حد اختيار نهاية مضمونة الشرف في عيون الكثيرين هربًا من حياة ثقيلة دونه. نعيش سنوات طال فيها الصمت، وإن طال الصمت سينسى الناس الكلام، وقتها سيتحدث عنهم سلاحهم لو استطاعوا استعماله.
أنا على يقين أن البعض سيطلق خلال الأيام القليلة القادمة على الجندي محمد صلاح صفات البطل الأسمر الفلاح ابن النيل، هؤلاء أنفسهم ربما ينعتوه بالصنايعي السرسجي ابن جيل محمد رمضان لو شاهدوا صوره على السوشيال ميديا في ملابسات مختلفة.
في كتابه الأوردي – مذكرات سجين، يقول جدّي المفكر الراحل سعد زهران "البسطاء العاديون حين يكونون في امتحان عسير، وهم كثيرًا ما يكونون، ويخلع عليهم صانعو المنشورات السياسية والخطب التليفزيونية صفات البطولة، يدركون أن تلك الأمجاد المبالغ فيها ليست إلا شركا لمزيد من الآلام والتضحيات المجانية، أو هي جملة من طقوس يمارسها محترفو السياسة لكي يقبضوا ثمن آلام الآخرين وتضحياتهم".
محمد صلاح فيما يبدو أحد هؤلاء البسطاء الذين قرروا الاشتباك الخاص مع قضايا لها طابع كلي وعام لدى آخرين كثر. وأعتقد أن بعضًا من الشرف واللياقة يحتم علينا الاشتباك مع اشتباكه ذلك الذي كلفه حياته، ولكن بالمسافة التي تتجنب التأويلات المبالغ فيها لدوافع قراره.بل ربما علينا أن نهتم أكثر بأهله وأصدقاؤه وجيرانه ورفاق سلاحه، هؤلاء البسطاء أيضًا الذين ربما يواجهون الآن محنة عسيرة مع أجهزة أمنية في زمن قاس لا يرحم.
يحتاج هؤلاء كل الدعم والاهتمام والسؤال، يحتاجون ألّا ينساهم الناس في حماس استساغة القصة أو رفضها، فهؤلاء لا صوت لهم ولا اسم، ويستحقون كل المساندة القانونية والإعلامية والنفسية.
على الجانب الآخر من الحدود، صرح رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق عاموس يادلين بأن المصريين لم يتم تربيتهم على السلام، وعلينا افتراض أن نشاطًا مسلحًا سيخرج ضدنا بين الحين والآخر من جهة هذا الحليف.
يفترض الجنرال الإسرائيلي أن مئة مليون أو يزيد من المصريين سيتم تربيتهم جميعًا، واحدًا واحدًا، على القيم التي يعتبرها سليمة. تصريح مثل هذا يكشف حدود خيال جنرال الاستعمار الاستيطاني عن بلد هي أكبر من بلده عشرين مرة على الأقل، يتصور أنه من الممكن "تربية" شعبها بالكامل كما لو كانوا نعاجًا.
الإسرائيليون هنا لا يتوقعون خروج مصر من معادلة الصراع معهم للأبد فحسب، بل يريدونها أيضًا بلدًا مصمتًا تحت حكم "حليف" سيحكم بقبضته الرأي العام بجميع تياراته وأمزجته وميوله، بحيث "يتربى ويتأدب" بالشكل الذي يتوافق مع تصورات سيادة الجنرال عن الصواب. إنه نوع من الغطرسة التي تعبر عن نفسها ببراءة تجعل ما أسماه "نشاطًا مسلحا من وقت لآخر" أمرًا مستحقًا.