تصوير: خالد منصور - بإذن خاص للمنصة
علم سوريا الجديد في سوق الحميدية، دمشق، ديسمبر 2024

تقسيم الكعكة السورية| قطعٌ مقسَّمة تُغري بالتهامها

كشف حساب مصالح دول العالم في سوريا  

منشور الأربعاء 12 فبراير 2025

في تقاريري التي نشرَتْها المنصة الشهر الماضي عن زيارتي إلى دمشق بعد سقوط نظام الأسد، حاولت مزج مقابلاتي ومشاهداتي بآراء من تحدثت إليهم أو قرأت إنتاجهم من خبراء ومحللين. كان الهدف الأساسي إدخال القارئ في تلك الرحلة معي؛ أن يسمع الأصوات ويشم الروائح ويتلمَّس مشاعر شعب في حالة فورة ثورية سحرية يدخل عالمًا لم يكن يعتقد أن بإمكانه العيش فيه أبدًا.

حاولت نقل بعض ما يجرى على الأرض، وما الذي تعنيه التحولات الهائلة الجارية بالنسبة للسوريين في حياتهم اليومية. والآن، أنتقل لمحاولة تقديم خلاصة ما قرأت وفهمت وتحدثت عنه مع عديد من الخبراء حول قضايا تتعدى المشاهدات اليومية والصحافة الإخبارية.

سأبدأ من التحذير الوارد على ألسنة الناس وفي تصريحات السياسيين المعلبة بشأن خطورة تقسيم سوريا وضرورة تفاديه، وهو تحذير فارغ لأن سوريا مقسَّمة فعليًا. ربما يكون الخوف هو من تكريس هذا التقسيم باعتباره أمرًا واقعًا، ووضعه في إطار قانوني جديد، وهو ما أراه مستحيلًا في ضوء التوازنات الإقليمية والدولية. أما ما يبدو أكثر معقولية، فدولة لا مركزية ترتكز على حقوق مواطنة متساوية للجميع، مع منح المناطق حقوقًا أكبر في إدارة شؤونها. فيدرالية كما يقول المصطلح السياسي الشائع.

وسوريا مقسمة، ليس فقط لأن هناك فصائلَ مسلحةً مستقلةً عن بعضها بعضًا، أقواها هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية، تتقاسم السيطرة على مناطق البلاد، بل أيضًا للحضور القوي لقوات وقواعد ومصالح أجنبية متعارضة داخل الأراضي السورية، تؤثر على حاضر ومستقبل البلد.

أبعد من دمشق

علم سوريا الجديد فوق مغارة ميلاد المسيح، ساحة باب توما، دمشق، ديسمبر 2024

لا يرى زائرُ دمشقَ هذه التجليات على الأرض، فالسفارات تبدو هادئة ولا علامات على نشاط واضح، بل بات بعضها مهجورًا بعد حُمَّى من النشاط على مدى السنوات الـ14 الماضية، مثل السفارة الإيرانية. غير أن هذا الاهتمام الفائق يبدو جليًا في زيارات المسؤولين الأجانب والعرب المتسارعة منذ منتصف الشهر الماضي إلى دمشق، وخروج بعض مسؤولي الحكومة السورية في زيارات متتالية لعواصم عربية ولأنقرة.

ولكن لا تحتاج للسفر طويلًا من دمشق لترى الوجود الأجنبي الفعلي في سوريا، جنوبًا يوجد موقع تمركز القوات الأمريكي في التنف قرب الحدود مع العراق والأردن، وإذا اتجهت إلى الشمال الغربي ستجد قاعدتين روسيتين؛ واحدة بحرية في طرطوس، والثانية هي قاعدة حميميم الجوية في ريف اللاذقية. وبالاتجاه شرقًا بمحاذاة الحدود الشمالية مع تركيا، يمكن رؤية مستشارين عسكرين أتراك يعملون مع عدد من الفصائل الإسلامية. وإلى الشرق، حيث مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تدَّعي التقارير وجود مستشارين إسرائيليين. أما القوات الإسرائيلية العلنية فلا توجد فقط في هضبة الجولان المحتلة منذ 1967، بل أيضًا في أراضٍ احتلتها بعد سقوط نظام الأسد في منطقة جبل الشيخ في الجنوب الغربي.  

كل هذه الأطراف كانت موجودة في سوريا قبل سقوط الأسد، ومعها أطراف أخرى غادرت؛ مثل المستشارين الإيرانيين والميليشيات المتحالفة مع النظام المخلوع مثل حزب الله اللبناني وكتائب فاطميون الأفغانية وزينبيون الباكستانية.

قِطعُ هذه الكعكة السورية تغري البعض بالتهامها؛ أراضٍ لأسباب أمنية أو توسعية مثلما هو الحال مع إسرائيل وتركيا، قواعد عسكرية يريد البعض بقاءها لمناهضة فصائل متطرفة أو الحفاظ على موطئ قدم في الشرق الأوسط، وهذه حال واشنطن وموسكو، أطماع وحقوق قانونية لشركات نفطية تمتلك امتيازات حفر واستغلال، صادرات تركية متزايدة تريد أنقرة مضاعفتها عدة مرات، وغيرها.

ولكن ليس كل ما في الكعكة السورية التي تتنازعها أطراف داخلية وخارجية يمكن التهامه والاستفادة منه، فهناك تدخلات خارجية لتفادي المشاكل أو القضاء عليها، سواء كانت هذه المشاكل بقايا الوجود الداعشي، أو دور حزب العمال الكردستاني المناوئ لتركيا، أو تدهور الوضع بما يدفع موجات نزوح جديدة ضخمة، بدلًا من إعادة ملايين اللاجئين من تركيا ولبنان والأردن.

هناك عدة دول مهمة لها وجود فعلي أو تأثير سياسي واقتصادي قوي على سوريا، والوصول لتوافق بين مصالحها أو إجبارها على الخروج من الساحة السورية، سيقتضي جهدًا فائقًا وربما توافقًا بين هذه الدول، وأيضًا مواقفَ سوريةً توافقيةً واضحةً بين النخب المهيمنة عليها عسكريًا ثم سياسيًا في المستقبل، من أجل التوصل لحلٍّ مرضٍ تنسحب معه القوات الأجنبية تمامًا، بمستشاريها غير السوريين، وتتوقف معه عواصم أخرى عن إثارة المشاكل والفتن في سوريا. بل، وهو الأفضل، أن تقرر هذه العواصم تقديم الدعم المالي والفني والسياسي الذي ستحتاج له سوريا بشدة.

سنحاول هنا تقديم كشف حساب أو جرد مبدئي لهذا الوجود الأجنبي الفعلي ومصالح الدول الأخرى المعنية، وأوجه التعاون والخصومات فيما بينها.

السنوار يطرد إيران وحزب الله

مثل تأثير الدومينو، لا يمكن تخيُّل ما جرى في سوريا من سقوط النظام الأسدي بعد 53 عامًا من الحكم القمعي الفريد، دون أن نعود نحو 14 شهرًا للوراء، عندما قاد يحيى السنوار في السابع من أكتوبر مقاتليه ليفتحوا ثغرات هائلة في السور الفاصل بين غزة المحتلة وإسرائيل، لتقوم حماس وحركات أخرى بقتل وأسر مئات الإسرائيليين.

وخلال العام التالي، نحَّت إسرائيل قواعد القانون الدولي جانبًا، وبدعم أمريكي وغربي وجهت ضربات عسكرية متتالية قتلت فيها ما يزيد عن 46 ألف فلسطيني ودمرت 90% من القطاع في حرب لم تستبعد محكمة العدل الدولية أن تكون جريمة إبادة. وفي عملية صارت إقليمية، قتلت إسرائيل عدة آلاف من اللبنانيين، بينهم عدد كبير من مقاتلي حزب الله ومعظم قادة الحزب الذي كان الذراع البرية الأساسية في ترسانة الأسد ضد ميليشيات المعارضة المسلحة.

دون الوجود العسكري والدعم السياسي من موسكو ربما لسقط الأسد منذ عقد

وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني، ومع بدء زحف قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها نحو دمشق، أعلن لبنان وإسرائيل وقفًا لإطلاق النار بينهما. كان حزب الله الذي ضَمَن آلافٌ من مقاتليه بقاء بشار في السلطة منذ 2015 في حالة يرثى لها، إذ فقد معظم قادته وآلافًا من مقاتليه، وخسر معظم مخزونه العسكري وانقطعت خطوط امداده، ولم يكن أمام إيران قوات أخرى تدفع بها لحماية النظام السوري الذي كان يؤمِّن خطوط إمدادها للحزب اللبناني. وعندما حاولت ميليشيات عراقية شيعية دخول سوريا لمساعدة نظام الأسد، واجهت ضربات استباقية أمريكية منعتها من المضي قدمًا، وفق بعض المصادر.

انكفأ حزب الله إلى الداخل اللبناني في مواجهة تهديدات وجودية وسياسية، وباستثناء تصريحات عدائية قليلة، يبدو أن إيران قبلت حاليًا خسارة نفوذها في سوريا وضياع الممر البري الذي كان يسمح لها بتزويد حزب الله.

لا يعني هذا أن طهران لا يمكنها لعب دور سلبي في مستقبل سوريا، ولن يقلل من هذا الاحتمال سوى اتفاق تصل له مع الولايات المتحدة حول العقوبات والأمن يقلل من مخاوفها والضغوط القائمة عليها ويدفعها لعدم التدخل في سوريا مباشرة أو في الأغلب عن طريق ميليشيات عراقية حليفة.

روسيا لا ترى سوى قواعدها

دون الوجود العسكري والدعم السياسي من موسكو، ربما لسقط نظام الأسد منذ عشر سنوات. وبينما لعب حزب الله ومقاتلوه الدور الأكبر على الأرض ضد ميليشيات المعارضة المسلحة، تولت روسيا أمر القصف الجوي.

حصلت روسيا على قاعدة حميميم الجوية قرب بلدة جبلة في ريف اللاذقية في 2015، إضافة لقاعدة طرطوس البحرية القائمة منذ 1971. وتجري موسكو محادثات مع حكومة الأمر الواقع بشأن مستقبل قواعدها العسكرية، وأكد مرهف أبو قصرة، وزير دفاع حكومة الأمر الواقع، عدم وجود قرار نهائي من جانب القائد الفعلي للبلاد أحمد الشرع. ولكن ليس لدى هذه القيادة القدرة ولا الرغبة، فيما يبدو، في التحرش عسكريًا بهاتين القاعدتين أو إلغاء وجودهما حاليًا.

ستكتفي روسيا غالبًا بهذه القواعد وتواصل الاحتفاظ بالرئيس المخلوع وأسرته كإحدى أوراق التفاوض المستقبلية. ولدى موسكو ما يكفي من المشاكل في أوكرانيا وفي مواجهة العقوبات الغربية، التي تجعل من غير المحتمل السعي للتدخل الفعلي في سوريا بالمستقبل القريب.

تركيا الطامعة في المليارات والنفوذ

لتركيا علاقات مميزة بهيئة تحرير الشام، الفصيل العسكري المهيمن بقيادة أحمد الشرع على وسط البلاد والعاصمة دمشق، لكنها ليست علاقات سلسة تمامًا ولا تعمل الهيئة وفق الأوامر التركية، مثلما هو الحال مع فصائل إسلامية منضوية تحت لواء ما يعرف بالجيش الوطني السوري.

ترغب تركيا في تقليل نفوذ حزب العمال الكردستاني المتشدد والراغب في تأسيس دولة كردية تضم أجزاءً من العراق وسوريا وتركيا. ولهذا الحزب المتشدد انفصاليًا نفوذ كبير على منطقة سيطرة قسد في شمال وشرق البلاد. وتعرف تركيا صعوبة القضاء على هذا النفوذ وعلى قسد عسكريًا، مع القدرات العسكرية المجربة لهذه الميليشيات والدعم الأمريكي لها.

وتدعم تركيا عسكريًا الفصائل المنضوية تحت الجيش الوطني السوري الذي يسيطر على أراضٍ في شمال البلاد ويخوض منها مواجهات عسكرية مع الأكراد. وستستمر تركيا في الأغلب في هذا النهج ولن تدخل في مواجهات مباشرة مع قسد وسيصعب عليها إقناع الشرع وهيئة تحرير الشام بالدخول في مواجهات مع الميليشيات الكردية المسلحة والمدعومة جيدًا، والتي تسيطر على القطاع الأكبر من النفط السوري.

ولتركيا أطماع في زيادة صادراتها المتعاظمة لسوريا، التي كانت قيمة متوسطها منذ 2021 نحو ملياري دولار سنويًا، ومعظمها حبوب ومنتجات كيمائية وإلكترونيات وصلب ومواد غذائية. ولا تزيد صادرات سوريا لتركيا عن نصف مليار دولار. وقال مسؤول تركي إن الهدف الوصول بحجم التجارة لعشرة مليارات دولار على المدى المتوسط. وهناك تخوفات من أن يضعف هذا فرص انتعاش الصناعات السورية وفرص العمل التي توفرها. 

سيظل حزب العمال الكردستاني والخوف من ازدياد نفوذ تلك الجماعة الانفصالية المسلحة هو العامل الأكبر في تحديد السياسات التركية نحو سوريا.

إلى جانب حلفاء الأسد في روسيا وإيران والميليشيات المسلحة الشيعية، والجار التركي، فهناك مصالح أخرى لفاعلين دوليين وإقليميين، بعضهم لديه نفوذ لدى الإدارة السورية الجديدة، والآخرون يبحثون عنه. ولكن هذا سيكون موضوع المقال القادم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.