في 17 مارس 1919 تحت عنوان "أعمال شغب قاتلة في القاهرة" نشرت صحيفة التايمز البريطانية أول متابعاتها لوقائع ثورة 1919 في مصر، عبر رسالة مراسلها في القاهرة (رسالة 10 مارس 1919) قالت فيها إن "أعمال شغب" اندلعت في القاهرة عقب قبول استقالة رشدي باشا، وانتشار الأنباء عن اعتقال سعد زغلول والبشوات الثلاثة الآخرين من القوميين ومنهم حمد باسل وهو من البدو البارزين في الفيوم.
هكذا استدعت ثورة 1919 اهتمام الصحف الغربية، لا سيما البريطانية والأمريكية، ورصدت الأحداث بداية من مارس باعتبارها "أعمال شغب"، مع أصوات خافتة وصفتها بأنها ثورة شعبية حاشدة.
أعمال شغب
في تغطيها التي أشرنا إليها سابقًا، قالت التايمز إن قوات الشرطة والجيش أخلت الشوارع بالقوة، و"اضطرت لإطلاق النار على الغوغاء" فقتلت وأصابت عددًا منهم.
أما صحيفة الواشنطن بوست فنشرت بتاريخ 18 مارس 1919 تحت عنوان "أعمال شغب خطيرة في المشهد المصري" برقية رويترز عن الأحداث، التي لم تختلف عن رواية التايمز، فألقت باللوم على "القوميين" في مصر، وأشارت إلى قيادة الطلبة للمظاهرات المشاغبة التي أدت لتحطيم الملكيات العامة. ولكنها قالت إن قوات الجيش (البريطاني) قمعت الاضطرابات بسهولة و"بدون إراقة دماء".
"مزايا" الحكم البريطاني
وتحت عنوان "ماذا فعلت بريطانيا لشعب مصر" نشرت صحيفة نبراسكا ستيت جورنال (صنداي ستيت) مقالًا على صفحة كاملة عن المكاسب التي عادت على الشعب المصري من الإدارة البريطانية، وجاءت أبرز عناوينها: دولة مفلسة أصبحت مزدهرة بفضل الحكومة الرشيدة.. عمليات إعادة إعمار ضخمة تحت الحكم البريطاني.. الصحراء تزهر.. الأراضي البور استعادت خصوبتها.. أحلام الإسكندر الأكبر تتحقق.
عملاء ألمانيا
وعلى صفحتها الأولى وبتتمة في الصفحة الثالثة نشرت الواشنطن بوست في 30 مارس 1919 مقالًا مطولًا تحت عنوان "الهون يثيرون القلاقل في مصر، الأموال تدعم الأفكار البلشفية"، لكاتب لم يذكر اسمه واكتفى بصفته "ملحق دبلوماسي سابق".
و"الهون" هم شعب من الرعاة الرحالة عاشوا في وسط آسيا والقوقاز وغزوا أوروبا في القرن الرابع وتعرضوا للهزيمة عام 455م، وبعد ذلك استخدمت كلمة "الهون" لتصف الشخص الهمجي، واستخدمت أثناء الحرب العالمية الأولى لوصف الجنود الألمان.
وشن كاتب المقال هجومًا عنيفًا على الثورة المصرية، وزعم أنها نتيجة لتدخل وتمويل ألماني للقوميين المصريين، فقال في افتتاحية المقال أن "إساءة استخدام مبادئ الرئيس ويلسون المثالية المتعلقة بحق تقرير المصير من جهة عملاء الأمير بولوف (سياسي ألماني كان يشغل منصب المستشار) هي القابعة وراء حملة الدعاية المصممة بذكاء والممولة بسخاء التي أدت إلى التفاقم غير المسبوق للقومية في أرض النيل".
إسماعيل وتوفيق
وقال كاتب المقال إن التيار القومي في مصر تم إحياؤه على يد المُسرف والخبيث، وأيضًا الذكي والساحر، الخديو إسماعيل، الذي وجد أنه لن يستطيع ممارسة سياسته المفضلة بالتلاعب بالقوى الأجنبية ضد بعضها، بعد كشف لجنة التحقيق الدولية عن الخفايا القذرة للتمويل المصري، فوجدت تلك القوى نفسها مجبرة- بموجب الاكتشافات الصادمة- على التوحد ضده لإخضاعه لكل الإجراءات التقييدية التي تحرمه من سلطته ومن مكاسبه غير المشروعة.
وتابع: القومية لم تكن معروفة في ذلك الوقت، لقد أحياها من خلال مناشدة شعبه وجيشه للتصدي لاضطهاد الأجانب الكفار، بينما، ولمصلحته الشخصية فقط، أثقل رعيته بالضرائب.
ويواصل كاتب المقال حديثه عن نمو التيار القومي في مصر ومعاداته للأجانب، فيقول إن ضعف الخديو توفيق أدى إلى تناميه، و"كان قادته هم الضباط المتمردون الذين أهانوا الوزراء والمسؤولين الأجانب في شوارع القاهرة، والذين نجحوا، باحتجازنا كرهائن، في الحصول على جزء من مطالبهم، على الأقل. لقد تعلموا أنهم يستطيعوا أن ينغمسوا في العنف ضد الأجانب ويفلتوا من العقاب، وأنه من خلال التحريض على العنف، تحت عباءة القومية، يمكنهم الحصول على مكاسب، وشجعهم على ذلك تردد القوى العظمى، بسبب الغيرة المتبادلة، في التدخل العسكري في مصر، فأصبحوا كل يوم أكثر جرأة وأكثر وقاحة".
ثورة عرابي
ويتابع الكاتب ما يعتبر أنه تعقب لتاريخ القومية في مصر، فيشير إلى ثورة عرابي فيقول: وأخيرًا في 1882 قاد المتمرد القومي عرابي باشا، أحد الضباط العصاه الذين هاجمونا في شوارع القاهرة قبل ثلاث سنوات. لقد كانت (ثورة عرابي) موجهة ضد جميع الأجانب... كانت تهدف إلى تحرير الحكومة المصرية من جميع القيود المفروضة على الحكومة الخديوية لصالح الشعب المصري، وقبل كل شيء كانت الاحتجاجات موجهة ضد الحائزين الأجانب للسندات المصرية، الذين بسببهم، وفقًا لعرابي- كانت أرض النيل مثقلة بالديون.
ويرى الكاتب أن القوميين صاروا أقوى بعد تعيين الورد جورست- شعيف الشخصية- مندوبًا ساميًا بمصر، لأنه كان أكثر ميلًا إلى التاقلم مع الخديو عباس بدلًا من كبح جماحه.
ويضيف أن القوميين صاروا أقوى لدرجة الحكومة البريطانية لم تجد أي مسلم تثق فيه بالدرجة الكافية ليتولى رئاسة الوزراء، وفي النهاية كان عليهم أن يرضوا بالقبطي بطرس غالي، الذي أبدى ميلًا تجاه الإنجليز أكثر من القوميين الذين اغتالوه لاحقًا.
يد ألمانيا
وواصل الكاتب عرضه لأسباب ثورة 1919 من وجهة نظره فقال إن ألمانيا تدخلت لدعم التيار القومي من خلال بارون ماكس أبينهايم الذي كان ملحقًا بسفارتها ويتمتع بتمويل غير محدود تحت ستار الكشوف الأثرية.
وأشار الكاتب إلى تأييد الخديو عباس حلمي الثاني للألمان في الحرب العالمية، مما اضطر بريطانيا إلى عزله، وتعيين الأمير حسين الأكثر استنارة وتقدمية، ورفعه إلى رتبة سلطان.
بينما وصف الكاتب السلطان فؤاد بضعف الشخصية رغم ولاءه لبريطانيا، وأضاف أن المعتمد البريطاني ريجنالد وينجت كان في حالة صحية سيئة في ذلك الوقت، مما سمح للقوميين أن يقووا مركزهم، بالإضافة إلى حصولهم على تمويل من ألمانيا.
قناة السويس
ودعا الكاتب بريطانيا إلى إحكام السيطرة على قناة السويس، خاصة مع النزعة القومية تحت شعار "مصر للمصريين"، مما سيدعو إلى تأميم قناة السويس وممتلكات الأجانب وطردهم، مما اعتبره الكاتب "عدم اعتراف بالجميل تجاه بريطانيا العظمى التي وفرت للمصريين لأول مرة منذ قرون سلامة الأرواح والممتلكات والحرية من بطش الحكم الإسلامي".
ويمكنك تحميل المقال كاملا من هنا وبقية المقال من هنا
إعادة نشر؟
نفس المقال السابق وجدناه منشورًا بصحيفة النيويورك هيرالد يوم 30 مارس 1919، لكن لكاتب مختلف هو إف كَنلايف أوين، وهو كاتب بريطاني. كذلك العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية هنا مختلفة لكن نص المقال متشابه إلى درجة تكاد تكون متطابقة. ويمكنك تحميل المقال كاملا من هنا.
الفقر في مصر
وفي محاولة لتفسير أسباب الثورة نشرت التايمز البريطانية رسالة من قارئ بريطاني كان يعيش في مصر، يدعى آر إف فليمنج، قال فيها إنه بين كل الأسباب التي طرحها مراسلو الصحيفة تم تجاهل سبب واحد باستمرار، وهو ارتفاع أسعار جميع المواد الغذائية في أرض تعج الخصوبة، وهذا يشكل ضغطًا كبيرًا على الفقراء في القرى والمدن، في كل من البلدات والقرى الريفية، حتى أن "النساء في بعض القرى يعرضن بناتهن مقابل جنيه واحد". وأن الأجور منخفضة جدًا.
حقوق المصريين
وفي وجهة نظر مختلفة نشرتها التايمز قال كولز باشا، وهو ضابط إنجليزي رأس مصلحة السجون في مصر وعاش فيها 30 عامًا، إنه "قبل أن نلقي اللوم على الوزراء المصريين، دعونا للحظة نضع أنفسنا مكانهم، فقد قيل لهم طوال الـ35 عامًا الماضية أن إنجلترا تتتعاطف مع تطلعاتهم لحكم أنفسهم، وإنه عاجلًا أم آجلًا سيسمح لهم بذلك، وخلال الحرب سمعوا الكثير عن حق تقرير المصير، والجنسيات التي سمحُ لها بأن تحكم نفسها بغض النظر عن صغر حجمها، وبعد ذلك رأوا استقبال الأمير فيصل في باريس، واستماع مؤتمر السلام له بتعاطف عندما تحدث عن حق عرب الحجاز في الحكم الذاتي.
وتابع: أعتقد لهذا ربما يجب أن يُسامح المصريين إن لم يفهموا أن الحكم الذاتي في الصحراء العربية مختلف تمامًا عن وادي النيل. ولو كان سُمح للوفد المصري بالسفر إلى لندن (ليس باريس) لعرض قضيتهم وشرحت لهم وزارة الخارجية مدى الحكم الذاتي (إن وجد) الذي سيُضمن لهم بناء على اتفاق السلام، ربما كنا تجنبنا هذه الأحداث.
ثورة من أجل الحرية
بعض التغيير في سياسات الصحف الغربية تجاه مصر تجده ملموسًا بعد إعلان بريطانيا أحادي الجانب عن استقلال مصر، فنشرت صحيفة الواشنطن تايمز في 12 فبراير 1922 مقالًا للكاتب الهندي باستانا كومار روي تحت عنوان: الفظائع البريطانية والوعود المنكوثة تدفع مصر إلى الثورة من أجل الحرية. ويمكنك تحميل الصفحة كاملة من هنا
للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف اضغط هنا.