برخصة المشاع الإبداعي: Gage Skidmore، فليكر
صورة أرشيفية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب

لنواجه مخطط ترامب "في النور"

منشور السبت 15 فبراير 2025

يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومعها إسرائيل تتأرجحان بين "الإجبار" تارة و"التحايل" تارة في مواجهة رفض مصر والأردن القاطع تهجير الفلسطينيين من أرضهم. فبينما يتقلبان بين شدة ولين، وإقدام وإحجام، وكر وفر، فإنهما يُبقيان الهدف نصب عينيهما.

ويبدو هذا في نظري فخًا جديدًا لا يجب أن ينطلي على القاهرة وعمَّان ومن يساندهما من العرب. ليس فقط لأن ترامب ونتنياهو لا عهد لهما، ولكن لأن تجارب التاريخ تعلّمنا أن مثل هذا الفخ نُصب مئات المرات، وكل مرة كانت خسائره فادحة.

مجرد مجاراة ترامب ونتنياهو في مسعاهما الجهنمي، ولو على سبيل التحايل وكسب الوقت، ستكون عواقبها وخيمةً جدًا، وستؤدي إلى تنازلات وانهيارات لا نهاية لها، تضع مصالحنا الوطنية في مهب الريح.

وإذا كانت السُلطة في العالم العربي عوّدتنا التضحية بمصالح عامة في سبيل منفعتها المباشرة، فإن الانجرار في مشروع التهجير لن يُبقي على هذه الأنظمة نفسها، التي ستواجه الارتدادات المريعة للتهاون والتنازل وحتى عدم الصلابة الكافية في مواجهته.

مَن يتابع السجال الدائر في مصر منذ أطلق ترامب هذه الفرية، منتقلًا من تهجير أهل غزة إلى حديث عن شرائها وتملكها وتحويلها إلى "ريفييرا"، ثم وضع يده عليها بموجب "السلطة الأمريكية"، يكتشف أن الجميع يخوضون فيما ظهر لهم من تصريحات وأحاديث رسمية، متقلبين بين ثقة وارتياب، وتصديق وتكذيب، واطمئنان وخوف، ما يفرض علينا التفكير في أسس ومبادئ بوسعها جعلنا نواجه مخطط ترامب في النور.

الصدق نجاة

في اللحظات العصيبة من تاريخ أي بلد، يكون الانحياز للحقيقة دون غرض أو منفعة خاصة أو تبعية لمن بيده ترهيب أو ترغيب، أمرًا مطلوبًا جدًا، فالصدق نجاة، ومعرفة الحقيقة هو أول طريق الانتصار للوطن، إن كنا نفهم.

والبرهان البسيط على أهمية ذلك أن المآسي لم تلحق بنا إلا بإعطاء السلطة وحدها حق تحديد توقيت الكلام المختلف. ففي الدول الديمقراطية ينتقد الشعب السلطة إن وجدها تنحرف أو تخطئ حتى في وقت الحرب.

تمثيل الناس

علينا تذكُّر أن ما من دولتين تحاربتا في تاريخ البشر إلا وانتصرت الأكثر ديمقراطية، باستثناء واحد هو انتصار إسبرطة على أثينا في بلاد الإغريق الأقدمين. هذا معناه أن الاختلاف والنقاش وحق الناس في المعرفة تجلب النصر وليس العكس، كما يروج البعض الآن.

ويجب أن تنبني هذه الرؤية على أن الشعب هو صاحب البلد، والواجب أن يُوضع في صورة الحقيقة، وأن يحدد هو الطريق الذي يسلكه، ويكون مسؤولًا عن اختياره.

أكثر السلطات غباءً هي التي تتوهم أنها تحكم شعبًا من المعاقين ذهنيًا

نعم المصريون الآن بلا تمثيل، لكن من بأيديهم القرار لن يعدموا الوسيلة التي تُمكن الناس من المشاركة في صنع القرار، أو الإدلاء بدلوهم فيما يجري وهم على بينة من الأمر، ليكون تكاتفتنا جميعًا في وجه الخطر أشد تماسكًا، وأصلب عودًا.

ولا أعتقد أن القائمين على الأمور يجهلون أن هناك فرقًا كبيرًا بين الاصطفاف الوطني الذي يطلبونه، وتسيير الناس بلا مشاركة، ولا حتى العناية بإخبارهم بما يجري، وكأنهم قُصَّر، أو عديمو أهلية أو سذج، أو لا يعنيهم الأمر، أو لا أثر لما يجري عليهم.

بات إشراك القوى الاجتماعية الفاعلة، التي جرى تغييبها في قضايا جوهرية ومصيرية مثل سد النهضة، ضرورة الآن. فعلى سبيل المثال، نجد أن البيان الذي أرسلته النقابات المهنية المصرية إلى السفارة الأمريكية بالقاهرة ترفض فيه بشكل قاطع وحاسم حديث ترامب عن تهجير بعض أهل غزة إلى مصر، أهم ألف مرة من "الزفة الكدابة" التي حشدها نظام حكم منزوع الخيال عند معبر رفح، وأكثر شجاعة من كل الاستعراضات التي يقوم بها متحدثون باسم حماية مصر وأمنها، ممن تنفر عروقهم غضبًا في وجوهنا، وتلين جلودهم، وترتخي أصواتهم في مواجهة الغريب.

وهنا يجب على النخبة السياسية والفكرية في مصر أن تقول بشكل واضح: إن التصور الذي طرحه كثيرون في الأيام الأخيرة حول تكاتف الجهد في سبيل عبور الأزمة أو المحنة، يجب أن يجد آذانًا مصغية، وأن يُعمل به، وأوله اتخاذ إجراءات حقيقية لإصلاح الأوضاع، أبعد وأعمق من تجديد ما يسمى بـ"الحوار الوطني" أو توسيعه.

في نظر العارفين والفاهمين، أكثر السلطات غباءً هي التي تتوهم أنها تحكم شعبًا من المعاقين ذهنيًا، فتعيد تكرار اللعبة نفسها، وهي تظن أن أحدًا لم ينتبه. إن أي تعبئة أو حشد لموارد وجهد الدولة والمجتمع اليوم يجب أن يكون لصالح التصور الذي يرتضيه الشعب، ويحقق مصالحه، غير ذلك سيضع أقدار المصريين جميعًا في مهب الريح.

امتلاك المبادرة

تعلَّمنا من العمل بالسياسة، ودراستها، ومراقبة أداء القائمين عليها، ومن قراءة التاريخ أيضًا، أن ننتظر دومًا الأفعال، ففي كثير من الأحيان كانت الأقوال أشبه بدخان كثيف يخفي الحقائق. تعلمنا أيضًا أن هناك تحت الطاولة ما هو أهم كثيرًا مما فوقها، لأن المخفي هو غالبًا الذي يأخذ طريقه إلى التنفيذ.

كما تعلمنا أن السياسة في حال تفاعل وحركة دائمة، ولا يعول فيها على ثبات، ففي كثير من الأحيان نجد أن المواقف تتدحرج، والأحوال تتبدل، لتبقى العبرة دائمًا بالمآلات والنهايات.

هذه المعايير أو المقاربات لا تنطبق على مصر فقط، ولا تمتد إلى الأردن فحسب، باعتبارهما المعنيين أكثر بتصور ترامب حول التهجير، لكنها تخص العرب جميعًا، ليس فقط لأن فلسطين قضيتهم المركزية، ولو على سبيل الاعتياد، إنما أيضًا لأن تحقيق ما يريده ترامب سيفتح عليهم جميعًا باب خطر لا يمكن إغلاقه.

من هنا، فعلى العرب المهتمين بمستقبل بلادهم ألا يكرروا الخطأ مرتين. فإن كانوا لم يمدوا أيديهم للفلسطينيين بالقدر الكافي في الحرب، بل إن بعضهم إما تعاون مع الاحتلال أو لاذ بالصمت، فعليهم الآن أن يعملوا ما يرسِّخ وجود أهل غزة في أرضهم. للأسف لو أن العرب اتخذوا موقفًا حاسمًا من إسرائيل منذ ظهور بوادر الإبادة الجماعية، ما وصلنا إلى هذا المنحدر المأساوي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.