تنتهي كثير من أحداث التوترات والاعتداءات الطائفية بما يعرف بجلسات الصلح العرفي، وهي أقرب للجنة تحكيم تشكَّل عقب وقوع نزاع، وتضم محكمين ورجال دين من أصحاب النفوذ، وتقوم اللجنة بدراسة أدوار الأطراف المختلفة، ثم تصدر حكمها الملزم. لا تتضمن أحكامها الحبس أو العقوبات السالبة للحرية، في حين تشمل الاعتذار وتوقيع غرامات مالية أو التهجير .
وطالما انتقد الأقباط وقطاعات أخرى من المصريين هذه الجلسات، باعتبارها عدوان على حق المواطنين في الحصول على العدالة أمام القضاء الطبيعي، بالإضافة أنها تكرس لما يعرف بقضاء "توزان القوى" حيث تؤدي الحاجة الملحة للتهدئة في انتهاك حقوق الأطراف الأضعف. ولذلك ينظر إليها بأنها أحد أهم أسباب تكرار التوترات الطائفية بما ترسخه من غياب للعدالة ودعم للجناة، وعدم جبر الضرر للضحايا.
كان أحدث هذه الجلسات ما شهدته قرية "سبك الأحد" بمركز أشمون في محافظة المنوفية، على خلفية صفع صيدلاني يدعى علي أبو سعدة، لمسيحية هي نيفين صبحي مرتين على وجهها داخل صيدليته، لأنها ترتدي ما اعتبره "ملابس غير محتشمة" في شهر رمضان "إيه اللي انتي عاملاه في نفسك، ازاي سايبة شعرك ولابسه نص كم، انتي مش عارفة إننا في رمضان"، بحسب إفادة منها.
الاعتداء الذي تعرضت له نيفين، في الغالب، لن يذهب لأروقة المحاكم، إذ انتهى بجلسة صلح عرفية مع المعتدي بحضور نائب برلماني وعمدة القرية ومسؤول أمني وبعض القيادات الدينية، قدم الصيدلاني فيها اعتذرًا، وغرمته الجلسة العرفية مئة ألف جنيه وضعت في حوزة الكاهن المسؤول عن القرية، وربما ستُرَد له بعد فترة من الزمن. نصَّ الاتفاق العرفي كذلك على تنازل نيفين عن المحضر الذي حررته بالواقعة، وأظهرت الصورة التي التقطت للتعبير عن "النهاية السعيدة" للواقعة المجني عليها، وهي منكَّسة الرأس في حالة من القهر والانكسار، بينما وقف المعتدي والمشاركون إلى جوارها، وارتسمت على وجوههم ملامح الانتصار.
للوهلة الأولى، تبدو جلسات الصلح العرفي متشابهة مع القضاء العرفي المطبّّق في بعض المحافظات الحدودية والجنوبية، التي تقطنها أغلبية من البدو، أو تلك التي يسودها نمط علاقات قَبلي أو عشائري، مثل شمال وجنوب سيناء، ومطروح، والوادي الجديد، وقنا، باعتبارهما شكلين من التقاضي خارج السياق القانوني.
ولكن القضاء العرفي في هذه المحافظات يعد واحدًا من أشكال حل الخلافات، حيث جذوره ممتدة تاريخيًّا في مراحل ما قبل الدولة الحديثة ونظامها القضائي والقانوني، معتمدًا على وجود بعض القواعد العرفية التي تراكمت عبر الزمن، بحيث شكَّلت عرفًا سائدًا داخل تلك المجتمعات، مهمته التصدي للنزاعات التي تقع بين أشخاص أو عائلات وبمضي الزمن اكتسبت هذه الأعراف قوّة إلزامية.
لا قواعد
ساهمت الجلسات العرفية التي تطبَّق في النزاعات الطائفية، في تعميق حالة التوتر أكثر مما احتوتها، وتحولت بنفسها إلى مصدر إضافي لانتهاكات متعددة للحقوق الأساسية للمواطنين، حيث لا يوجد شكل ثابت ومعروف لها، وعادة ما تتشكل لجنة تعبر عن موازين القوى على الأرض فور وقوع نزاع أو اعتداء، تتناقش فيما بينها للحكم في المشكلة، كما لا يوجد قانون مكتوب يحكم عمل تلك الجلسات ليحدّ من مساحة التقديرات الشخصية في الأحكام الصادرة عنها، وإن كانت هناك أعراف متوارثة، متفق عليها بين قطاع من المحكِّمين، وتستخدم كقواعد لتحديد مقدار التعويضات بالتناسب مع حجم الأضرار.
وتتزايد انتقادات المؤسسات الحقوقية لجلسات الصلح العرفي المنعقدة لاحتواء الاعتداءات الطائفية، كما تثير غضب قطاع كبير من المسيحيين المصريين وغيرهم من أطياف المجتمع، لأنها تشكل افتئاتًا على سيادة الدولة ونظامها القانوني ومبادئ المواطنة وعدم التمييز. على سبيل المثال، أعلن أسقف المنيا الأنبا مكاريوس، في عدة مناسبات رفض جلسات الصلح العرفي، لما تمثله من إهدار للقانون، ومن المفارقات المضحكة، أن مطرانية المنيا رفضت المشاركة في إحدى جلسات الصلح العرفي، فما كان من اللجنة المنظمة إلا استدعاء قسٍّ من أسيوط، لإعطاء انطباع برضا الكنيسة عن الجلسة ونتائجها.
ويؤدي استمرار اللجوء لهذه الجلسات، خصوصًا مع رعاية ومشاركة المسؤولين فيها، إلى تقديم رسالة مزدوجة للمسيحيين بأنهم رعايا ومواطنين من الدرجة الثانية، وفي الوقت نفسه رسالة للأطراف المعتدية بأنهم فوق المحاسبة، ومن ثم يمكنهم تكرار هذه الاعتداءات.
في دراسة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان في عُرف من؟ دور الجلسات العرفية في النزاعات الطائفية ومسؤولية الدولة وُجد أن القرارات الصادرة عن الجلسات العرفية تختلف تبعًا لسبب المشكلة والتداعيات المترتبة عليها، ولكن جاءت في معظمها غير متطابقة مع القواعد المتعارف عليها في الصلح العرفي المرعية في حالة ما إذا كان أطراف النزاع من نفس الديانة، وكذلك اختلفت القرارات باختلاف ديانة الطرف الأصلي المدان أو المتسبب في المشكلة.
وجاءت قرارات الجلسات العرفية في النزاعات الخاصة ببناء وترميم الكنائس في معظمها لإرضاء الجانب الأقوى (المسلمين) على حساب الجانب الضعيف (المسيحيين)، واتخاذ قرارات بغلق المبنى مع الضغط على المسيحيين للتنازل عن حقوقهم القانونية، لا سيما في الحالات التي تم خلالها الاعتداء على الكنيسة أو ممتلكات المسيحيين.
تناول برنامج "في النور" على فضائية سي تي في التابعة للكنيسة لحادث الاعتداء على نيفين
أما في حالات التوترات المرتبطة بالتعبير عن الرأي في الشأن الديني، أو التي تقع على خلفية اتهام أهالي لمسيحي بما يعرف بـ "ازدراء الأديان"، فعادة ما يتم الضغط على المسيحيين للاعتذار، حتى أولئك الذين لا تربطهم صلة بما حدث، مع تهجير أسرة هذا الشخص، والنص صراحة على استكمال إجراءات محاكمة المتهم بازدراء الإسلام، في حين لا يتعامل التعامل مع وقائع الاعتداءات على ممتلكات المسيحيين بنفس الطريقة.
شهدت قرية البرشا بمركز ملوي جنوبي المنيا اشتباكات بين مسلمين ومسيحيين في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 على خلفية اتهام شاب بمشاركة بوست على صفحته في فيسبوك، اعتُبِرَ مسيئًا للإسلام، حيث تظاهرَ عشرات من الشباب المسلم جابوا بعض شوارع القرية مرددين هتافات عدائية تجاه المسيحيين، تدعو لمهاجمة منازلهم وممتلكاتهم، ورشقوا أبواب ونوافذ المنازل بالطوب وزجاجات المولوتوف. وهو ما أدى لإصابة سيدة مسنّة بحروق متفرقة وحرق حظيرة للماشية وسرقة أخرى، وتكسير أوتوبيس وإتلاف بعض السيارات وتكسير نوافذ منازل لأقباط ومحاولة الاعتداء على إحدى الكنائس، وعُقدت جلسة عرفية برعاية المسؤولين، أقرَّت بالصلح، وأخلت النيابة العامة فيما بعد سبيل المقبوض عليهم من الجانبين، فيما عدا الشاب المتهم بنشر البوست، فهو لا يزال محبوسًا على ذمة التحقيقات حتى الآن.
جلسات "تمييز" عرفي
تتعدد أوجه النقد للجلسات العرفية، فهي تمثل في حد ذاتها قضاءً تمييزيًا بداية من اختيار أعضاء الجلسات العرفية والقرارات الصادرة عنها، والتي تعبر عن ميزان القوة والنفوذ السائد، كما تؤدي الرغبة في التهدئة السريعة إلى خروج القرارات التي تميل إلى الجانب الأقوى. كما أنها تأخذ بالعقاب الجماعي بالمخالفة للمبدأ الدستوري والقانوني القائل بأن العقوبة شخصية، حيث لا تقتصر قرارات الجلسات العرفية على عقاب الشخص الذي تراه مخطئًا فقط، بل تطول العقوبة في أحيان كثيرة كل المسيحين في القرية أو المنطقة كغلق كنيسة أو الإقرار بتهجير عائلة بأكملها، وهنا تثار مسألة تناسب العقوبة مع الاعتداء أو الجرم، فقد تضمنت بعض الجلسات بنودًا غير متعارف عليها، منها الجلسة التي عقدت بين قريتي الحوارتة ذات الأغلبية المسلمة ونزلة عبيد ذات الأغلبية المسيحية، عام 2013، حيث تضمَّن الاتفاق بند "عدم خروج أقباط نزلة عبيد خارج القرية، حتى للذهاب إلى عملهم بعد الصلح لمدة 15 يومًا".
وفي حين تتعدد درجات القضاء الطبيعي، سواء بالنسبة لمحاكم الجنح أو الجنايات، درجة أولى ثم الاستئناف أو النقض، نجد أن قرارات الجلسات العرفية نهائية، فلا مجال لاستئناف الحكم، هو ملزم بقوة لكل مَن شارك في الجلسة، خصوصًا مع توقيع أطراف النزاع أو الخصومة إيصالات أمانة بمبالغ مالية كبيرة قبل المشاركة في الجلسة. وعلى الرغم من أنه في بعض الحالات لم تكن هناك شروط للإلزام مكتوبة فإن المتضرِّر من القرار عادة ما يُحجِم عن اللجوء إلى القضاء لما يترتب من آثار سلبية عليه وعلى أسرته.
لذلك، تمثّل القرارات الصادرة عن الجلسات العرفية انتهاكًا واضحًا للدستور، حيث نصَّت كما أشرنا في كثير من الحالات على غلق كنائس ومبانٍ دينية استجابة للأغلبية الرافضة لوجود الكنيسة، وهو ما يعد عدوانًا على حرية العقيدة وحق ممارسة الشعائر الدينية، كما اتخذت قرارات بالتهجير، وهو أمر حظره الدستور بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم، كما أنها تمثل إهدارًا للحق في الوصول للعدالة، وجبر الضرر للمجني عليهم.
لماذا يقبل الضحايا؟
قد يتساءل البعض، لماذا يقبل الضحايا بالاشتراك في مثل هذه الجلسات التي غالبًا لا تنصفهم، بل تمنعهم من استكمال الإجراءات القضائية الطبيعية للحصول على حقوقهم.
يلعب نمط العلاقات الاجتماعية القبلي/ العائلي، السائد في الريف المصري والمناطق العشوائية على أطراف المدن، دورًا كبيرًا في الضغط على الأطراف الضعيفة التي تمثل الضحايا للقبول بالمشاركة في هذه الجلسات، حيث تعرف العائلات بعضها بعضًا معرفة جيدة، وتتداخل علاقتها الاقتصادية والاجتماعية.
كما يؤدي ضغط مؤسسات الدولة ورؤيتها لوظيفتها في حماية السلم الاجتماعي، وحياة وممتلكات المواطنين إلى الإسراع بحل عرفي، لتسوية الخلافات خوفًا من تفاقمها وتداعياتها، والحشد بسببها، أي أن هذه المؤسسات تفضل تحقيق الاستقرار على تحقيق العدالة والمساواة.
يضاف إلى ذلك أن تكلفة التقاضي في مصر مرتفعة، في ظل بطء إجراءات التقاضي التي تصل أحيانًا إلى عدة سنوات، فقد تنجح هذه الجلسات في إنتاج حلول سريعة، حتى لو تحمل الضحايا جانبًا من الخسائر.
في الختام، وجود آليات اجتماعية فعالة تساعد في الحد من النزاعات الطائفية، وتحجيم حدة التوترات التي تصاحبها أمر إيجابي ومهم ومطلوب، لكن ما يحدث في الجلسات العرفية حول هذه التدخلات إلى سلوك قبيح وأداء غاشمة ظالمة، تستخدم لدعم المعتدين على حساب الضحايا، وخلق نطام عدالة بديل قائم على توازن القوى وفرض الهدوء على حساب العدالة.