
تفجير آمال مسيحيي الشرق مع كنيسة مارإلياس
جدد تفجير كنيسة مارإلياس بدمشق الشهر الماضي المخاوف الجدية، ليس على مستقبل مسيحيي سوريا وحدهم، إنما على حاضر مسيحيي الشرق الأوسط برمته ووجودهم وأدوارهم، حيث موجات الاضطهاد لا تكاد تهدأ حتى تنفجر مجددًا. فمذبحة كنيسة مارإلياس التي راح ضحيتها نحو 25 شهيدًا لم تكن الأولى، ولا حتى كانت تختلف في سياقها وطريقتها عما شهده العراق ومصر قبل سنوات.
وإذا كانت عواقب عدم الاستقرار والحروب والأزمات وغياب التوافق حول مفهوم المواطنة صعبة على الجميع، فإن صعوبتها مضاعفة على الأقليات الدينية، ومنهم المسيحيون، إذ تؤدي تلك الأوضاع ليس فقط إلى تناقص أعدادهم، بل أيضًا إلى التراجع التدريجي لدورهم في الحياة العامة، وشعور جماعي متشائم تجاه المستقبل وإمكانية تغيير أوضاعهم.
الشرع يرسب في الاختبار
لم ينقطع الحديث عن أوضاع الأقليات الدينية في المنطقة خلال العقدين الأخيرين في ظل الاضطرابات والنزاعات السياسية المتلاحقة التي تشهدها معظم دولها، وفشل أنظمة الحكم في التعامل مع الاعتداءات على هذه الأقليات وأوجه التمييز ضدها.
وفي سوريا كانت الأقليات هدفًا سهلًا لجهات متعددة حكومية وغير حكومية، على مدار الحرب الأهلية، من نظام الأسد، والمقاتلين السلفيين الجهاديين، إلى المعارضة السياسية والميليشيات المدعومة من تركيا، وغالبًا ما كان الاستهداف لأسباب دينية وسياسية.
مع سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون أول الماضي، وسيطرة هيئة تحرير الشام وأنصارها على مقاليد الحكم، برزت وجهتا نظر.
الأولى متفائلة بنجاح الثورة وانتهاء الحرب الأهلية وغلق صفحة موصومة بالدم لحزب البعث، مع آمال عريضة ببدء النظام الجديد في ترميم أواصر سوريا الممزقة وجسر الهوة بين مكوناته، وأن يستفيد من تجارب الفشل في دول المنطقة، التي إما أدت إلى حروب أهلية كما في ليبيا أو السودان أو عودة النظام القديم بشكل أكثر استبدادًا كما في مصر.
أما وجهة النظر الثانية فكانت للمترقبين والخائفين من تكرار تجارب أنظمة الحكم الإسلامية، التي كانت عنوانًا في الفشل وغياب الرؤية وتفضيل الجماعة على الوطن.
الأحداث رجحت كفة خيبة الأمل في رغبة وقدرة نظام أحمد الشرع على تنفيذ مرحلة انتقال هادئة، مع تصاعد المذابح ضد الأقليات في سوريا.
بدأت المذابح بموجات انتقامية ضد العلويين، الذين تنتمي لهم عائلة الأسد، ثم تحولت إلى أحداث يومية لفرض هيمنة مطلقة للتنظيمات والجماعات الجهادية على واقع ومستقبل سوريا، واستهدف الموالون للسلطات الانتقالية، التي تشكل هيئة تحرير الشام عصبها الأساسي، المدنيين في الغرب والجنوب بهجمات طائفية جماعية.
يكشف تقرير حديث صادر عن اللجنة الأمريكية للحريات الدينية الدولية بعنوان "الحرية الدينية والسياسة الأمريكية في سوريا ما بعد الأسد" عن ملامح هذه الانتهاكات ومعدل تكرارها، مُبيّنًا أن من أبرزها المضايقات التي تعرض لها المسيحيون ومحاولة فرض نمط من الممارسات تحد من حرياتهم وتلزمهم بما تراه الجماعات الجهادية الإسلامية مثل الإجبار على ارتداء الحجاب أو تدمير صلبان كنائس. هذا بخلاف عمليات اختطاف وحرق متعمد وقتل انتقامي بحق العلويين.
وبحلول مارس/آذار، تصاعدت عمليات القتل إلى مجازر طائفية شاملة بحق العلويين في اللاذقية وطرطوس، وتشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد القتلى المؤكد يتراوح بين 1700 و2246، مع تقديرات بأعداد أعلى كثيرًا من ذلك. واستمرت موجة جديدة من عمليات القتل الجماعي في مايو/أيار، وهذه المرة ضد الدروز في المناطق المحيطة بدمشق، وبلغ عدد الضحايا 137 شخصًا على الأقل.
سمات مشتركة
تسير السلطة الحالية في سوريا على نفس نهج الجماعات الدينية في الحكم بشكل عام، فهناك سمات مشتركة مع ما شهده العراق عقب إسقاط نظام صدام حسين، ومصر أثناء وعقب إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين، حيث تسعى السلطة السياسية للتودد إلى الغرب وتسويق صورتها كحامية الأقليات الدينية، وأنها ستعمل على إدماجها وضمان حقوقها، ولكن دون أي خطوات فعلية على الأرض.
هل سوريا المستقبل ستكون دولة دينية إسلامية؟
بالتزامن مع ذلك، تتحالف الجماعة المسيطرة مع الجماعات الأكثر تطرفًا من أجل سرعة الهيمنة على مفاصل الدولة ومؤسساتها. فالشرع مثله مثل جماعة الإخوان المسلمين وضع أنصاره ممن لديهم تاريخ في العنف وخطابات التطرف والكراهية في مناصب السلطة العليا، في تحالف أيدولوجي يترتب عليه تقديم تنازلات لصالح هؤلاء الأنصار عادة ما يكون ضحيتها الأقليات وحقوقهم.
في سياق كهذا، تزداد عمليات الاستهداف الديني عن طريق استخدام أحط أدوات تنظيم داعش الإرهابي دموية؛ تفجير الكنائس المكتظة بالمصلين، أو إطلاق النار على التجمعات السلمية بدم بارد وبدون أي معايير أخلاقية، في رسالة رعب لجميع الأقليات، سواء الدينية أو الإثنية.
مع وقوع الاعتداءات يعلو خطاب السلطة وأنصارها بأنها حوادث فردية، ليست موجهة ضد الطائفة أو الأقلية لكنها في الوقت نفسه لا تعمل بجدية على منعها وسد الذرائع التي تستخدم لتبريرها.
عن سؤال الهوية
تجارب دول المنطقة حتى الآن غير مبشرة وموسومة بالفشل، فقد رسبت في الإجابة عن السؤال الأول، سؤال الهوية. ما شكل دولتنا ولمن تكون؟ سؤال لم تنجح أنظمة الحكم القادمة من تنظيمات دينية في التعامل معه، حيث جرى الارتكان إلى ثقافة الأغلبية المهيمنة.
بما أن أغلب السكان مسلمون، وهذه الجماعات ذات بنية أصولية ومحافظة اجتماعيًا وثقافيًا، فقد عملت على تسريع أسلمة الدولة والمجتمع، وتحالفت مع تيارات سلفية وجهادية أشد راديكالية، فكان نهم جماعة الإخوان المسلمين للحكم منفردة، وتديين المجال العام ومؤسسات الدولة بلا حدود، وهو أحد عوامل فشل الجماعة.
يبدو أن نظام الشرع يسير على المنوال نفسه، رغم أن التركيبة السكانية للسوريين أكثر تعقيدًا، بما تحمله من تنوع ديني وعرقي ووجود صراعات طويلة دامية بين مكوناتها، وهى عوامل تفرض على السلطات الانتقالية التعامل بحذر شديد. فهل سوريا المستقبل ستكون دولة ذات هوى إسلامي فقط أو دولة دينية إسلامية، أو دولة سنية لأهل السنة فقط؟
ترتبط الإجابة عن شكل الدولة بسؤال ثانٍ لا يقل أهمية عن حقوق الأقليات داخلها، هل هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، أم أن هناك درجات للمواطنة، وعودة لمفهوم أهل الذمة بشكل حديث؟ فهناك جماعات تحظى بالحماية وتتمتع بكل الحقوق وهناك جماعات لديها حقوق محددة ومرسومة بما يقره دين الأغلبية.
على سبيل المثال، استحدث العراق نظام حكم ومؤسسات وتشريعات قائمة على التمييز الديني. وترسخ الدولة لوضع أهل الذمة لمسيحيي العراق وغيرهم من أتباع الديانات غير الإسلامية، بما في ذلك الإيزيديون والمندائيون وغيرهم. وفي مصر، مارست جماعة الإخوان المسلمين كل أشكال الهيمنة والاستبعاد من أجل وضع دستور ديني بدون أي اعتبارات لموقف القطاعات الرافضة لذلك، وفي مقدمتها المسيحيون.
قلق مشروع
عبّر البطريرك الأنبا يوحنا العاشر خلال جنازة شهداء كنيسة مارإلياس عن مخاوف المسيحيين في سوريا، عندما انتقد طريقة تعامل نظام الشرع مع تداعيات المذبحة؛ من عدم زيارة المسؤولين للكنيسة باستثناء الوزيرة المسيحية، وعدم وصفهم بالشهداء كغيرهم من الضحايا المسلمين الذين قضوا في حوادث مشابهة، مؤكدًا أن التعامل مع الحادث يحتاج إلى ما هو أكثر من مكالمة تعزية.
وأكد الأنبا أن المسيحيين طيف أساسي من مكونات البلد، وهم باقون بالرغم من هذه الأحداث، أملًا في أن تعمل الحكومة على إنجاح أهداف الثورة من ديمقراطية وحرية ومساواة وقانون يطبق على الجميع، مخاطبًا الشرع "إننا مددنا أيدينا إليكم لبناء سوريا الجديد وما زلنا للأسف ننتظر أن نرى يدًا تمتد إلينا".
مثلما يحتاج الشعور بالأمن والأمان إلى ما هو أكثر من تعيين حراسة على كنيسة أو دور عبادة، يتطلب تعزيز أسس التعايش ومحاربة مناخ الكراهية ما هو أكثر من الخطب الرنانة، من سياسات للإدماج، إلى توافقات حقيقية لمواطنة حاضنة للتنوع تبدأ من الفرد، وتعترف وتضمن في الوقت ذاته الحقوق الثقافية لكل الجماعات في مجتمعاتنا.
خطورة ما يحدث في سوريا، وما قد يحدث في غيرها من البلدان المجاورة، أن الأقليات تقدم باعتبارها أضحية لفشل الأنظمة الحاكمة في ترسيخ أسس الدولة الحديثة بما تتضمنه من قيم المواطنة والمساواة والعدالة والمشاركة في إدارة شؤون الدولة والشأن العام.
وبطبيعة الحال، مثلما لا يوجد دواء يشفي سريعًا من أمراض متوارثة ومستوطنة منذ عقود طويلة، فلا حلول سريعة للأزمات السياسية والاجتماعية وإعادة تموضع لمكانة الدين في مجتمعاتنا، لكن في الوقت نفسه هناك حاجة ملحة لتدخلات عاجلة لتكون بمثابة رسائل إيجابية، بأن هناك أملًا في مستقبل أفضل، وأن أوطاننا تستحق المعاناة لفترة من أجل إعادة البناء على أسس سليمة تحفظ للمواطنين حياتهم وكرامتهم وحقوقهم بدون مشاعر خوف من مستقبل غامض.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.