
كيف سقط الشرع في "فخ السويداء"؟
إسرائيل تفرض بالقوة شروط مفاوضات غير معلنة بدأت في أبوظبي
في مايو/أيار الماضي سُئِل الرئيس السوري أحمد الشرع عن علاقات بلاده بإسرائيل، فأجاب "الحقيقة أن لدينا أعداء مشتركون، ويمكننا الاضطلاع بدور رئيسي في الأمن الإقليمي".
حدث هذا عندما استقبل الشرع رجل الأعمال الأمريكي جوناثان باس، المقرب من الرئيس دونالد ترامب، وذكر الضيف تفاصيله لاحقًا في مقال نشرته الصحيفة الأمريكية المتخصصة في متابعة الشؤون اليهودية Jewish Journal. في هذا اللقاء، دعا الشرع إلى وضع حد لـ"عصر التفجيرات المتبادلة بين سوريا وإسرائيل"، إذ أنه "لا يمكن لأمة أن تزدهر عندما تمتلئ سماؤها بالخوف".
لم تكن تلك الرسالة الأولى التي حاول فيها الشرع خطب ود إسرائيل، فمنذ نجاحه في إسقاط نظام الأسد نهاية العام الماضي، ورسائل طمأنة تل أبيب لم تتوقف، من "بلادنا لن تسمح لأي جماعة مسلحة بشن هجمات من على أراضيها"، إلى "سوريا الجديدة لن تشكل خطرًا على جيرانها"، وليس انتهاءً بأن "وجود مليشيات تابعة لإيران في سوريا خلال حكم بشار الأسد كان تهديدًا للمنطقة بأسرها".
قدَّم القائد الجهادي السبت لكنه لم يلقَ الأحد، كما يقول المثل الشعبي. فقد غضَّ الطرف عن ضرب إسرائيل مقدرات جيشه العسكرية، وصمت على قضمها مساحات واسعة في جنوب بلاده، وأصدر قرارًا بحل الجيش الوطني السوري. وبالتوازي لعب دور الشرطي المكلف بتأمين الدولة العبرية؛ فلاحق عناصر فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية وأغلق معسكراتها وصادر سلاحها.
بعبارة أخرى، حوَّل الشرع سوريا من طريق إمداد كانت تحصل منه فصائل المقاومة على الدعم والإسناد والتدريب، إلى ساحة آمنة لا تشكل خطرًا على "الكيان"، وفي حسبانه أن ذلك سيشفع له عند إسرائيل.
ظن الرجل أن كُفلاءه من حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، سيكفونه غدر وغطرسة دولة الاحتلال التي تتقن استغلال الفرص، وتدرك تمامًا كيف ومتى تُخضع فرائسها. فتخلى عن أوراقه، وسلم زمام سلطته إلى من يعتقد أنهم حلفاؤه.
لكنه لم يدرك أن غايات المحور الإقليمي الذي استخدمه لإسقاط نظام الأسد تتلاقى مع أهداف إسرائيل، وعندما تتحقق تلك الأهداف لن يبكي أحد منهم على سوريا ووحدتها واستقرارها. فما خططوا له تحقق عندما فَكَّت دمشق ارتباطها بطهران وموسكو وحُل جيشها وفُقدت ترسانتها العسكرية، ولم تعد تشكل تهديدًا لأحد.
تخيل الشرع أن تنفيذه أجندة الكفلاء بالانتقال بسوريا من محور الممانعة إلى محور الاعتدال، سيفتح أمامه الأبواب المغلقة؛ لتُرفع عنه العقوبات وتنهال عليه الهبات ويحصل على الشرعية التي ظل يبحث عنها لسنوات، ما يدعم بقاءه وسيطرته على كامل الأراضي السورية. نال بعض ما أراد، لكن الرياح لا تجري دائمًا بما تشتهي السفن، لأن إسرائيل كانت لها حسابات أخرى.
فرغم كل ما فعله لم تتوقف دولة الاحتلال عن التحرش بنظامه الوليد؛ مرة بزعم تأمين حدودها وأخرى لاستهداف مواقع وعناصر لحزب الله، وثالثة لحماية "إخوة إخوتنا الدروز". بينما مقصدها الحقيقي في كل مرة، هو تفكيك الدولة السورية وتحويلها إلى دويلات إثنية وطائفية، ونزع سلاح الدولة في الجنوب السوري، تمهيدًا لتحويل مخططها المعروف بـ"ممر داود" إلى أمر واقع.
ممر استراتيجي بدماء الأقليات
"ممر داود" الذي كُشف عنه النقاب في أبريل/نيسان الماضي، يقضي بسيطرة إسرائيل الكاملة على شريط جغرافي يمتد من مرتفعات الجولان المحتلة في جنوب سوريا الغربي ويمر بمحافظات القنيطرة ودرعا، ثم يتسع شرقًا عبر السويداء في جبل حوران ويدخل البادية السورية باتجاه معبر التنف الاستراتيجي على الحدود السورية العراقية الأردنية، ما يسهل وصول قوات الاحتلال إلى الأراضي العراقية.
ساعد الشرع، بضعفه وعدم إدراكه وقلة حيلته وخبرته، إسرائيل في تحقيق غايتها، ليس فقط عندما فشلت ثورة التحرير التي أسقطت استبداد نظام الأسد في جمع مكونات الشعب السوري تحت مظلة الدولة. بل الأسوأ كان تعاملها مع بعض تلك المكونات بانتقامية، ومن منطلقات عقائدية سلفية جهادية لا تعترف بالآخر الديني والمذهبي، ولا تقبل به إلا صاغرًا ذليلًا. ضاعف ذلك الاحتقان وفتح الباب على مصراعيه أمام تفكيك الدولة الهشة.
ما يحدث في السويداء واحد من أعراض ما نال سوريا الجديدة من أمراض. فالتهميش والإذلال الذي مارسته فصائل السلطة الجديدة بحق أبناء الأقليات المذهبية، ومن بينهم الدروز، دفع هؤلاء إلى الكفر بالدولة التي يحاول الشرع تثبيت أركانها.
ما يحتاجه الدروز والعلويون والأكراد وغيرهم من مكونات المجتمع السوري هو أن تشعرهم سلطة دمشق بالعدالة والشراكة وتضمن لهم جميع حقوق المواطنة، فتتماسك الجبهة الداخلية، وهو شرط لازم لمواجهة تربص دولة الاحتلال وسعيها إلى تفتيت سوريا وإضعاف سلطتها المركزية.
سلام القوة الإسرائيلي
في فبراير/شباط الماضي أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من قمة جبل الشيخ أنه سيعمل على نزع سلاح الجيش السوري في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء بالكامل، وهو ما كرره وزيرا الدفاع والخارجية الإسرائيليين يسرائيل كاتس وجدعون ساعر، اللذين شددا على أن قوات الجيش الإسرائيلي لن تنسحب من الجنوب السوري ولن تسمح لنظام "إرهابي" بالاقتراب من حدود إسرائيل.
استخدمت إسرائيل أحداث السويداء ذريعة لضرب العمق السوري وإكراه الشرع على قبول شروطها
وفي مايو، شنَّت إسرائيل غارات جوية بالقرب من قصر الشعب الرئاسي في دمشق، بدعوى حماية الطائفة الدرزية من هجمات محتملة. هنا بدأت إسرائيل في نصب فخ "السويداء" للنظام السوري الجديد، الذي يبدو أنه لم يقبل بكامل الإملاءات الإسرائيلية التي عُرضت عليه في مفاوضات غير معلنة برعاية إماراتية انطلقت في أبوظبي واستُكملت في العاصمة الأذرية باكو.
استغلت إسرائيل أحداث السويداء لإكراه الشرع على قبول شروطها. استخدمتها ذريعة لضرب العمق السوري واستهداف المواقع السيادية في العاصمة. ولم توقف إطلاق النار بـ"الطلبات أو التوسلات" بل بـ"القوة" حسبما صرح نتنياهو الذي تعهد بأن تبقى المنطقة من الجولان إلى جبل الدروز "منزوعة السلاح".
هكذا صارت سوريا بلدًا منكشفًا أمنيا، تُنفِّذ فيه إسرائيل ما تريد دون أي مقاومة بعد أن سقطت رهانات رئيسه الانتقالي، وبات محاصرًا بتمرد الأقليات والأطراف المحتقنة من جهة، وبانفلات عناصر مؤسساته الأمنية من جهة أخرى، فضلًا عن هشاشة الاقتصاد، ومخاطر تخلّي الرعاة الإقليميين والدوليين عن نظامه إذا فقد السيطرة وبات عالقًا معزولًا في قصر الشعب.
لعل أكثر ما يكشف عن هشاشة النظام الجديد ليس فقط صمته على استباحة سيادته، بل ظنه أن هذه الاستباحة ربما تكون مدخلاً لبقائه واستقرار بلاده.
لطمت إسرائيل نظام سوريا الجديدة على خده الأيمن فمنحها الأيسر معتقدًا أنها ستفهم المجاز وتكتفي، لكنها لطمته مجددًا، لأن ضعفه يزيد من غطرسة دولة الاحتلال التي لا تعرف سوى لغة القوة. لكن الشرع لا يبدو أنه تعلَّم ذلك بعد.