تصميم: يوسف أيمن- المنصة

العين التي تنظر بها مصر إلى سوريا الجديدة

منشور السبت 18 يناير 2025

توقف كثير من السياسيين والمحللين العرب أمام استعارة وزير الخارجية بدر عبد العاطي وصف "سلطة الأمر الواقع" الذي استخدمته فرنسا للإشارة إلى مَن وصلوا إلى سدة الحكم في دمشق، ثم دعوة القاهرة المجتمع الدولي إلى التكاتف للحيلولة دون أن تكون سوريا مصدرًا لتهديد الاستقرار في المنطقة أو مركزًا للجماعات الإرهابية.

ما جعل تصريحات عبد العاطي لافتة، أنها جاءت خلال مشاركته في الاجتماع الوزاري العربي الموسع بشأن سوريا، الذي استضافته الرياض قبل أيام وشهد حضورًا دوليًا إضافيًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا، وهي دول داعمة للسلطة الجديدة في دمشق، وبدت المقاربة المصرية، وفق تصريحات عبد العاطي وما سبقتها من تصريحات شبه رسمية وحملات إعلامية، مختلفة إلى حد كبير عن أغلب مواقف الآخرين.

هنا يبدو الموقف المصري من المسألة السورية أكثر وضوحًا، حتى لو لم يمتثل بالضرورة لكل شروط الدبلوماسية التي التزم بها آخرون، أو كان ينطوي على مبالغة في المخاوف التي يبديها من آثار المسألة السورية على الداخل المصري.

فمقارنة بموقف مصر، اختارت دول عربية مسارَ احتواءِ السلطة الجديدة في سوريا تماشيًا مع رغبة الغرب، دون أن يعني هذا بالضرورة رضاها التام عنها. وهناك من أيَّدها فور سقوط نظام بشار الأسد لأسباب أيديولوجية وأمنية واقتصادية، وهناك من تخوَّف من قطع طريق إمداد المقاومة اللبنانية بالسلاح والمؤونة، وهناك من رحب بتخليص بلد عربي من نفوذ إيراني وصل حد الاحتلال. 

أما السلطة في مصر، فمُقاربتها للأمر تأتي من عدة زوايا، أولاها رسم خط فاصل واضح بين السلطة الجديدة والشعب السوري، الذي أعلنت مصر وقوفها "بشكل كامل" معه، وأنها "تدعم تطلعاته المشروعة"، كما أرسلت مساعدات سخية له.

والثانية هي النظر بعين الريبة لنوايا تركيا راعية السلطة الجديدة في سوريا، باعتبارها من تحل محل إيران هناك، وذلك في ظل تقدير القاهرة لأطماع أنقرة في العالم العربي، التي تهدد مصر مباشرة من خلال الوجود التركي في ليبيا.

أما الثالثة فتخص علاقة جبهة تحرير الشام بالغرب الذي رحب بها وشجعها وهو يحاول احتواءها، ولو إلى حين، وهذا أمر مقلق للسلطة في مصر، التي تخشى من أي تقارب غربي مع الجماعات السياسية الإسلامية، لا يقف عند حد توظيفها أحيانًا، عبر مسالك ومسارب ومسارات خفية تُهندسها أجهزة مخابرات، إنما في العلن، وإلى حد قبول وصولها إلى السلطة. 

ترفض وصول جماعة سياسية إسلامية إلى السلطة في ضوء ما ترتب على إسقاط حكم الإخوان في 2013

والرابعة تتعلق بما جرى للجيش السوري من هزيمة منكرة على يد فصائل مسلحة، أو خيانة هذا الجيش لقيادته السياسية، ثم تدمير مقدراته على يد إسرائيل، فهذا المسلك لا يروق لمصر بالطبع، لا سيما مع السلطة السياسية الحالية التي ترى الجيش الوتد الصلب الرئيسي لتثبيت الدولة.

والخامسة هي الخوف من تهديد وجود الدولة السورية كما كانت قبل 2011، لا سيما وإن تجددت حرب أهلية، وهذا ما وضحه عبد العاطي بلا مواربة حين دعا إلى ضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، واحترام سيادتها، ودعم مؤسساتها الوطنية للارتقاء بقدرتها على القيام بأدوارها في خدمة السوريين، وحين دعا كذلك "الأطراف السورية في هذه المرحلة الفاصلة إلى إعلاء المصلحة الوطنية ودعم الاستقرار في سوريا".

أما السادسة فتتعلق بالتخوف من الآثار المترتبة على احتلال إسرائيل أراضي سورية جديدة بدعوى إقامة منطقة عازلة لحمايتها من أي هجمات محتملة، فبقاء الوضع على ما هو عليه، لا سيما في ظل عدم وجود تحرك جدي، حتى الآن، من السلطة السورية الجديدة لمقاومة الطمع الإسرائيلي، فقد يشجع هذا إسرائيل للقيام بالتصرف نفسه، وبالذريعة نفسها، حيال دول عربية أخرى.

لهذا وجدنا عبد العاطي يدين "الغارات الإسرائيلية الممنهجة التي استهدفت البنية التحتية للجيش السوري وقدراته العسكرية"، ويدين كذلك "توغل إسرائيل داخل المنطقة العازلة مع سوريا واحتلالها لأراضٍ سورية"، ويؤكد "رفض مصر الكامل لانتهاك إسرائيل اتفاق فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974، مما يمثل خرقًا للقانون الدولي"، ثم يدعو إلى "ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي السورية التي احتلتها واحترام اتفاقية فض الاشتباك".

قوات إسرائيلية على منطقة جبل الشيخ بالجولان، 9 ديسمبر 2024

والزاوية السابعة، تتمثل في رفض وصول جماعة سياسية إسلامية إلى السلطة في ضوء ما ترتب على إسقاط حكم الإخوان في 2013، ومخاوف من تأثير هذا على موقف الجماعات المشابهة في الداخل، التي ربما ترى في النموذج السوري الراهن مثلًا يُحتذى.

وإذا كانت مصر تتعامل مع "سلطة الأمر الواقع" في سوريا، حسب تعبير عبد العاطي، فإنها لا تريد لهذه السلطة الانفراد التام بالقرار، وإبعاد بقية الأطراف، ولذا وجدنا وزير الخارجية يدعو إلى "تبني عملية سياسية شاملة بملكية سورية خالصة بكل مكونات المجتمع وأطيافه، ودون إقصاء لأي قوى أو أطراف سياسية واجتماعية لضمان نجاح العملية الانتقالية، وتبني مقاربة جامعة لكافة القوى الوطنية السورية، تتماشى مع قرار مجلس الأمن 2254".

هنا، ترى مصر ضرورة أن تعكس العملية السياسية الشاملة التنوع المجتمعي والديني والطائفي والعرقي داخل سوريا، مع إفساح المجال أمام القوى السياسية الوطنية المختلفة لأن يكون لها دور في إدارة المرحلة الانتقالية، وإعادة بناء سوريا ومؤسساتها الوطنية لتستعيد مكانتها الإقليمية والدولية التي تستحقها.

ومن الخبرة المصرية المريرة مع تنظيمات كوَّنها مصريون في الخارج، ومارست الإرهاب في مصر ضمن معادلة قتال العدو القريب، تنبع الزاوية الثامنة المتخوفة من تكرار سيناريو نهاية الحرب الأفغانية ضد السوفييت، عندما ظهر ما سمي بـ"تنظيم طلائع الفتح" الذي كوَّنه جهاديون مصريون كانوا في أفغانستان.

لهذا وجدنا عبد العاطي يدعو المجتمع الدولي كله إلى التكاتف للحيلولة دون أن تكون سوريا مصدرًا لتهديد الاستقرار في المنطقة أو مركزًا لـ"الجماعات الإرهابية"، وهذا لن يتم إلا بعدم إيواء السلطة السورية الجديدة أي عناصر من هذه الجماعات.

هذه الأسباب التي تصنع الموقف المصري حيال المسألة السورية، لا تعني بالضرورة أن القاهرة ستظل على حالها هذه طوال الوقت، أو ترهن تعديل هذه المقاربة بغياب بعض هذه الأسباب، فالأمر في النهاية يتوقف على تطورات الداخل السوري، وما إذا كان سيذهب إلى استقرار أم ينزلق إلى اضطراب جديد، علاوة على موقف أهل الحكم في دمشق خاصة مع ملاحقة الأصوات تدعو إلى ثورة في مصر من الأراضي السورية، ومدى بقاء المقاربات الإقليمية من سوريا على حالها، أم سيطرأ عليها أي تغير في قابل الأيام.