نشرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية تحليلًا أول أمس عنوانه "سوريا قد تتحول إلى محمية تركية مما سيحد من حرية إسرائيل في الحركة"، ناقش كيفية اقتسام إسرائيل الكعكة السورية مع تركيا، كونهما من ستحلان بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، من الناحية العملية، محل روسيا وإيران اللتين اقتسمتا النفوذ هناك على مدى العقود الماضية.
فلتركيا ورئيسها المخضرم رجب طيب إردوغان مصلحة استراتيجية في القضاء على التهديد الذي تمثله قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا، وتسيطر على شمال شرقي البلاد، وترى تركيا أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني المعادي لها. كما سيؤدي تغيير النظام في سوريا إلى عودة أعداد هائلة من اللاجئين السوريين تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة ملايين إلى بلادهم، وهو الملف الذي تحول إلى قضية تركية داخلية بعد تصاعد العداء للاجئين السوريين واكتسابه مظاهر عنف.
ومن المعروف أن قائد المجموعات المسلحة التي اجتاحت المدن السورية الكبرى بسرعة مذهلة، أحمد الشرع، مرشح الأمر الواقع للرئاسة، كان يسيطر مع مقاتليه على محافظة إدلب الحدودية مع تركيا ويتخذها مقرًا له، ومثلت سيطرة قواته عام 2015 على معبر باب الهوى بين البلدين، مصدرًا مهمًا للدخل من أجل إدارة تلك المحافظة وإنشاء حكومة مصغرة انتقلت الآن إلى دمشق لإدارة الدولة بأكملها.
ورغم المزاعم التي يرددها الشرع وأنصاره من أن الهجوم الذي نفذوه لم يحظَ بأي دعم خارجي، فإن تحليلات المطلعين على الشأن السوري تجزم بأن هذا التقدم العسكري لم يكن ممكنًا من دون ضوء أخضر من أنقرة والرئيس إردوغان اللذين وفرا الدعم لمختلف الفصائل المعارضة السورية منذ عام 2011.
طوق إنقاذ لنتنياهو
وفي الوقت نفسه، فإن الإطاحة بالنظام السوري المتداعي حقق لإسرائيل مكسبًا استراتيجيًا من شأنه أن يزيد من شعبية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحالفه المتطرف ويعزز فرص بقائه في الحكم وتجاوز آثار الضربة المؤلمة التي تلقاها من حماس في السابع من أكتوبر. فنظام الأسد كان الحليف الأقرب لإيران ورأس حربة ما يعرف بـ"محور المقاومة" الذي كانت طهران تستخدمه بديلًا للمواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الصهيوني في إطار سعيها لترسيخ موقعها كقوة إقليمية مهيمنة، بجانب حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن وحركة حماس.
وبعد توجيه ضربة قاسية لحماس وإعادة احتلال غزة بالكامل بعد ما يزيد عن 14 شهرًا من الإبادة، والتخلص من قيادات حزب الله اللبناني وعلى رأسها أمينه العام حسن نصر الله، جاء التخلص من نظام بشار الأسد الذي كان يعتمد في استمراره على الدعم العسكري والمادي الإيراني والروسي، ليمثل الضربة الثالثة القوية لطهران ومجموعات محور المقاومة.
ويردد نتنياهو منذ السابع من أكتوبر أن الرد الحقيقي على هجوم حماس لن يقتصر على مقاتليها فقط، بل يجب أن يشمل إيران، رأس الأفعى الذي وفر التمويل والتسليح مع بقية مجموعات "جبهة الإسناد" أو محور المقاومة.
صحيحٌ أن نظام بشار الأسد لم يخض بدوره أي مواجهات مباشرة مع إسرائيل رغم انتهاكاتها المتواصلة لأراضيه وسمائه، ولكنه كان يمرر الأسلحة الحيوية إلى حزب الله، ويوفر التدريب والتمويل لمجموعات المقاومة الأخرى، بجانب السماح بوجود أعداد كبيرة من المستشارين والعسكريين الإيرانيين بالقرب من الحدود مع إسرائيل.
كل ذلك انتهى بسقوط الأسد، الذي ترتب عليه إقدام نتنياهو وبسرعة على الاستيلاء وقضم المزيد من الأراضي السورية بجانب هضبة الجولان المحتلة وتوجيه ما يزيد عن 500 ضربة جوية دون رادع، لتُدَمَّر نهائيًا أسلحة الجيش السوري الاستراتيجية من طائرات ودبابات وبطاريات دفاع جوي وغيرها، بحجة الخوف من وقوعها في يد نظام معالم توجهاته لم تتضح بعد.
ورغم التطمينات التي قدمها المرشح المقبل لرئاسة سوريا، الشرع، لإسرائيل، بقوله إن النظام الجديد لا يسعى لمواجهتها، وأنه ليس في وضع يسمح بذلك، بجانب تأكيده على أن الهدف من تحركه هو إنقاذ سوريا من الهيمنة الإيرانية، فإن نتنياهو لم ينتظر حتى يكشف حكام دمشق الجدد عن نواياهم، وأعلن أنه سيواصل احتلال الأراضي السورية حتى إشعار آخر.
وضع المراقبة والانتظار
يحدث ذلك بينما غالبية حكومات العالم لا تزال متوجسة وتبدي حذرًا في التعامل مع الرئيس السوري المحتمل، الذي كان معروفًا لديها حتى أسابيع قليلة مضت، باسم أبو محمد الجولاني عضو تنظيمات القاعدة وداعش، الذي لم تفلح محاولته تغيير اسم تنظيمه إلى "هيئة تحرير الشام" في محو وصمة "الإرهاب" التي تلاحقه من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
ولكن في ضوء البحث عن أي نظام بديل لإدارة سوريا والحيلولة دون انهيار الدولة هناك بالكامل، أو توسع الاقتتال الأهلي ليصبح حربًا لا تنتهي بين المكونات الدينية والعرقية المتعددة للمجتمع السوري، أو تحول البلد الجديد إلى ملاذ آمن للمجموعات الإرهابية، يبدو أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية النافذة على استعداد لمنح حكام دمشق الجدد فرصة، ولو على مضض، قبل النظر في رفع اسم "هيئة تحرير الشام" من قوائم الإرهاب.
لم يكن هناك توقيت أفضل من هذا لتعطي فيه أنقرة الضوء الأخضر للفصائل المسلحة بالتقدم وإسقاط الأسد
وفي الوقت نفسه، لم يكن مثيرًا للدهشة أن تكون تركيا أول دولة تعلن إعادة فتح سفارتها في دمشق، ولا أن تليها مباشرة قطر. فصحيح أن إردوغان أبدى في السنوات الأخيرة استعدادًا للتجاوب مع المساعي المصرية السعودية الإماراتية بإعادة دمج نظام الأسد رغم كل جرائمه في المنظومة العربية الرسمية، لكنه أيضًا حمَّل الأسد المسؤولية عن سقوط نظامه، برفضه يد التفاوض التي مدَّها له. أما قطر، فكانت الدولة العربية الوحيدة التي تحفظت على قرار الجامعة العربية بعودة ممثلي النظام السابق لشغل مقعد بلدهم.
وسط الحروب التي تشهدها المنطقة في غزة ولبنان، وانشغال إيران بالمواجهة مع إسرائيل، وكذلك روسيا بحربها مع أوكرانيا، لم يكن هناك توقيت أفضل تعطي فيه أنقرة الضوء الأخضر للفصائل المسلحة التي تدعمها، للتقدم نحو إسقاط النظام السوري المتهالك، الذي كان يعتمد في بقائه بشكل كامل على الدعم الخارجي.
من المؤكد أن دول المنطقة والعالم ستبقى في وضع الانتظار والمراقبة لما ستفسر عنه تطورات الأسابيع والشهور المقبلة في سوريا، وما إذا كان حكام دمشق الجدد سيتمكنون بالفعل من إدارة الدولة ومنعها من الانهيار الكامل، سواء بسبب حروب ونزاعات داخلية أو للفشل في إدارة الدولة ومؤسساتها. لكن وصف هاآرتس لسوريا بـ"المحمية التركية"، سيبقى حتى إشعار آخر هو التوصيف الأقرب للحقيقة، بجانب الهيمنة الإسرائيلية بعد ما حققته من مكاسب بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا وقضم المزيد من أراضيها وتدمير جيشها.
فوفقًا لتحليل هاآرتس، قد تكون الهيمنة التركية على سوريا ما بعد الأسد هي الرادع الحقيقي الوحيد لإسرائيل لاحقًا عن التحرك بحرية في الأجواء السورية، خاصة وأن إعادة بناء جيش سوري الذي قسَّمته وفككته الحرب الأهلية الممتدة، وأجهزت إسرائيل على ما بقي منه، سيستغرق سنوات طويلة.
بجانب انتظار توجهات النظام السوري الجديد وقدرته على إدارة البلاد بغض النظر عن تاريخ قادته وانتماءاتهم، فإنه ما ينتظره العالم أيضًا هو توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع توليه منصب الرئاسة بعد شهر، وما إذا كان سيتمسك بتأكيده أمس على أن تركيا هي من تحمل مفتاح الأحداث في سوريا، بعد أيام من تعليقه على هروب الأسد بالقول إن بلاده لا مصلحة لها في سوريا وينبغي ألَّا تكون لها صلة بتطورات الصراع هناك.