منذ سقوط نظام بشار الأسد، وحتى نزل السوريون إلى الشوارع في "جمعة النصر" للاحتفال بإزاحة السلطة التي قمعتهم وحوَّلت البلد إلى "جمهورية خوف"، ظهر قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام على الشاشات خمس مرات، في أول ثلاثة منها كان يرتدي زيًا عسكريًا فاخرًا، بدَّله في الظهورين الأخيرين إلى لباسٍ عصريٍّ لا تنقصه سوى ربطة عنق أنيقة، لتُكمل الهيئة الجديدة التي سعى لتصديرها منذ أن هذَّب لحيته وكشف رأسه وقص شعره.
فقبل أن يهجر الشرع هيئته الجهادية التي عُرف بها في زمن القتال ضد الكفار والمرتدين بالعراق وبلاد الشام، هجر أيضًا كُنيته التي لازمته منذ أن كان قائدًا في قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين مع أبو مصعب الزرقاوي، وانتقلت معه بعد مبايعته أبو بكر البغدادي زعيمَ "داعش"، ثم عاد بها إلى "القاعدة" مجددًا عقب بيعته لزعيمها أيمن الظواهري بعد تأسيسه جبهة النصرة، وظل بها حتى تأسيس جبهة فتح الشام التي صارت لاحقًا هيئة تحرير الشام.
في ظهوره المتكرر، تحدث الشرع بلسان "رجل الدولة" الذي يسعى إلى بناء "سوريا الجديدة" على أنقاض حكم "الأسد المُتهالك"، لا بخطاب الجهادي السلفي الأصولي الذي يعتقد في ضرورة إقامة "دولة الخلافة" أو "الملك العضوض".
أراد الشرع أن يثبت عبر خطابه الإعلامي، أنه وحلفاءه انقلبوا على أفكارهم القديمة، وسلكوا نهجًا أكثر اعتدالًا، يُقرون فيه بدولة تستوعب جميع السوريين بمختلف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم "تحت مظلة واحدة".
ملابس جديدة للمواقف الجديدة
بعد ساعات من إعلانه انتصار "الثورة" في الجامع الأموي وسط دمشق، حيث أكد انتشال سوريا من "مزرعة الأطماع الإيرانية"، جلس الشرع بين رئيسي وزراء سوريين؛ محمد الجلالي رئيس وزراء النظام "المخلوع"، ومحمد البشير المُكلَّف بتشكيل الحكومة المؤقتة، وأخذ يصدر لهما تعليماته وتكليفاته، فيما اكتفى كلاهما بهز الرؤوس.
وفي ظهور آخر، توعد الشرع ضباط الأمن والجيش المتورطين في التعذيب بالحساب والجزاء العادل، لافتًا إلى أنه سيتخلص من أجهزة أمن النظام السابق، متعهدًا بالعمل مع المنظمات الدولية لـ"تأمين مواقع الأسلحة الكيماوية"، ومبشرًا بأن بلاده "لن تنخرط في حرب أخرى"، داعيًا الحكومات الأجنبية إلى عدم القلق.
وفي فيديو ظهر فيه مع بعض رفاقه وهو يجلس على الأرض، نفى الشرع تلقِّي أي دعم دولي، مؤكدًا أن سلاح المعارضة التي استخدمته في القتال "تصنيع محلي" ومن "عرق الجبين".
وفي ظهوره الأول باللباس المدني صباح "جمعة النصر"، دعا الشرع السوريين إلى التعبير عن فرحتهم بالإطاحة بالديكتاتور دون إطلاق رصاص، "بعد ذلك دعونا نبني بلدنا المنصورة بإذن الله"، فالثائر الحق، كما قيل، هو الذي "يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد ولا يسلط السيف على رقاب العباد".
ويبدو أن الشرع ودع زيه العسكري، إذ ظهر بسترة رسمية كاملة مساء السبت، في لقاء مع عدد من الصحفيين تناول عددًا من الموضوعات بينها الثورة وكواليسها التي لم تكشف بعد، والمشروع الإيراني الذي هُزم في بلاده، وعدم وجود أي نية للسلطة الجديدة في دخول صراع مع إسرائيل، ومسألة ترشُّحه للرئاسة، التي قال إنها مرهونة بدعوة الناس له.
الشرع قال في ذلك اللقاء إن "حجج إسرائيل لدخول سوريا لم تعد موجودة.. بعد خروج الإيراني"، لكن يبدو أن رسالة الرجل لم تجد صدىً في تل أبيب؛ فجيش الاحتلال واصل ضرب أهداف في سوريا، ليكمل مهامه في تدمير مقدرات الجيش السوري الذي حُلَّ دون قرار رسمي، والتوغل في الأراضي السورية وضم نحو 350 كيلومترًا مربعًا في جنوب البلاد حتى بات على أبواب دمشق.
رغم تطرق الشرع إلى شتى الأمور، فإنه تغاضى عن استباحة إسرائيل أراضي بلاده وقصفها لقواعد جيش بلاده الذي يحتاج لعشرات مليارات الدولارات ونحو عشرين عامًا ليُعاد بناؤه.
لم يأمر الرجل قواته التي تحركت شرقًا وغربًا لإخضاع المناطق الخارجة عن سيطرته، بالتوجه جنوبًا لوقف الزحف الإسرائيلي، فسوريا الجديدة طمأنت "الدول الأجنبية"، وتعهدت بأنها "لا تنوي خوض أي حرب أخرى"، ولو في سبيل الحفاظ على الحدود التي تسلمتها من النظام البائد.
لا يمكن فصل صمت الشرع عن الجرائم الإسرائيلية عما أُثير حول أجندة مهندسي وصوله إلى دمشق
مساء "جمعة النصر"، نقلت وسائل الإعلام خبرًا عن طلب الحكومة السورية المؤقتة من مندوبها الدائم في الأمم المتحدة بأن يتقدم برسالتي احتجاج متطابقتين؛ واحدة للأمين العام للأمم المتحدة والثانية لمجلس الأمن، ودعوتهما إلى التحرك لإجبار إسرائيل على الوقف الفوري لهجماتها على الأراضي السورية والانسحاب من المناطق التي توغلت فيها، منتهكةً اتفاق فض الاشتباك لعام 1974.
اللافت أن قُصي الضحاك، مندوب سوريا الدائم في مجلس الأمن، بعث بالرسالتين في 9 ديسمبر/كانون الأول الحالي، بناءً على تكليف حكومة محمد الجلالي رئيس وزراء النظام المخلوع، لا بطلب محمد البشير رئيس حكومة "الإنقاذ الجديدة".
لم يكتفِ الشرع وإدارة عمليات الفصائل الأصولية المسلحة بالصمت تجاه الاعتداءات الإسرائيلية، بل أصدر قرارًا بإغلاق معسكرات بعض فصائل المقاومة الفلسطينية التي كانت على وفاق مع النظام السوري السابق، وعلى رأسها الجبهة الشعبية (القيادة العامة)، ودعاها إلى تسليم قواعدها العسكرية.
لا يمكن فصل صمت الشرع وحلفائه عن الجرائم الإسرائيلية في جنوب بلاده، وتصريحاته التطمينية عن عدم خوض أي صراع مع دولة الاحتلال، وإغلاقه معسكرات فصائل المقاومة الفلسطينية، عما أُثير حول أجندة داعميه ومموليه ومهندسي وصوله إلى دمشق.
من المستفيد؟
لم يتحرك الأتراك لدعم تلك المجموعات نكاية فقط في الأسد الذي رفض الحوار معهم قبل أن ترحل قواتهم عن أراض سوريا، فالدول ليست "جمعيات خيرية" تعطي دون أن تحصل على العائد. إذا أردنا فهم ما جرى فعلينا أن نبحث عن المستفيد.
دعمت أنقرة هيئة تحرير الشام وحلفاءها في الوصول إلى دمشق، لمعاونتها في القضاء على الميلشيات الكردية السورية المعروفة باسم وحدات حماية الشعب، المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعًا مسلحًا مع الدولة التركية منذ ما يزيد عن أربعين عامًا.
كما أن تركيا الإردوغانية الحالمة باستعادة الإرث العثماني، تنظر إلى سوريا بوصفها محمية تركية يجب أن تخضع لنفوذها، ولولا نتائج الحرب العالمية الأولى، لكانت مدن الرقة وحلب وإدلب ودمشق جزءًا من تركيا، على ما ذهب إليه الرئيس التركي في كلمة مساء الجمعة.
وفي اليوم نفسه، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من أنقرة، أثناء إفادة صحفية مشتركة مع نظيره التركي هاكان فيدان، إن هناك "اتفاقًا عامًا" مع تركيا حول "نوع سوريا" الذي يريدان رؤيته، "بدءًا بالحكومة المؤقتة التي يجب أن تحمي حقوق الأقليات وتزيل الأسلحة الكيميائية إن وجدت.. ولا تشكل بأي حال من الأحوال تهديدًا لمحيطها وللدول المجاورة".
هذا بالضبط ما تريده واشنطن وتدعمه أنقرة، "سوريا لا تمثل تهديدًا للدول المجاورة"، سوريا منزوعة السلاح تتحول مع الوقت إلى رصيد يضاف إلى المشروع الأمريكي الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ويبدو أن تلك الدولة تتوافق مع ما يطرحه الشرع في أحاديثه المتكررة.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فنجح في قطع الشريان الذي يربط المقاومة اللبنانية بطهران، واطمأن لجانب الدولة التي كانت تفتح أبوابها لفصائل المقاومة المسلحة، خصوصًا بعد أن دمَّر مقدرات جيشها، بما يمهد الطريق أمامه لضرب إيران متى شاء، بعد "تنظيف الطريق" أمام جيشه "جوًا وبرًا"، حسبما نقلت وسائل إعلام عبرية عن مسؤولين إسرائيليين قبل أيام، ما يُعد مكسبًا استراتيجيًا للرجل الذي وعد قبل أسابيع بـ"تغيير وجه الشرق الأوسط".
خلال مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي، أعلن نتنياهو أنه يعمل على "تفكيك المحور الإيراني بطريقة منهجية ومدروسة ومنظمة"، مبشرًا من يتعاون معه بفوائد عظيمة، ومن يعتدي على بلاده بالخسارة الكبيرة، لافتًا إلى أنه يريد رؤية سوريا جديدة مختلفة لصالح الإسرائيليين والسوريين، "حتى اليوم نمد يدنا لمن يريد أن يعيش معنا بسلام، وسنقطع يد من يحاول أن يؤذينا".
حقق نتنياهو في أسبوع واحد انتصارًا استراتيجيًا ما كان له أن يحققه لو ظل يقاتل فصائل المقاومة على جبهتي الجنوب والشمال؛ تمكَّن من إخراج سوريا من معادلة الصراع، وقطع طريق الإمداد عن حزب الله، وأغلق معسكرات تدريب فصائل المقاومة الفلسطينية.
في عام 2012، استدعى أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش، نائبه أبو علي الأنباري، ليوكل إليه مهمة التحقيق فيما إذا كان الفرع السوري للتنظيم الذي عرف باسم "جبهة النصرة" ما زال مواليا لـ"تنظيم الدولة"، فذهب الرجل إلى سوريا ومكث بها ستة أشهر ليعود ويبلغ زعيمه أنه وجد أبو محمد الجولاني قائد الجبهة "رجل ماكر وذو وجهين".
ومن بعدها ضرب الشقاق العلاقة بين الجبهة وتنظيم الدولة، وتوالت الأحداث إلى أن وصلت إلى محطة ظهوره في حلب قبل أسابيع، بوجهٍ جديدٍ وأفكارٍ جديدةٍ وتوجهاتٍ تختلف كُليًا عما كان يطرحه عندما كان يظهر ملثمًا أمام الكاميرات أو في الاجتماعات التنظيمية.
فأي مستقبل تنتظره سوريا، مع وجه الجولاني/الشرع الأخير؟