على وقع الفراغ السياسي الكبير الذي خلَّفه الرئيس السابق بشار الأسد في سوريا بعد فراره إلى روسيا، ومن قبله الحرب الإسرائيلية واسعة النطاق على قطاع غزة ولبنان بما تتضمنه من إعادة ترتيب للأوراق في المنطقة، يدخل الشرق الأوسط مرحلة جديدة لم تتضح معالمها بعد، ولكنها تحمل لمصر فرصة قد تعود بها إلى واجهة القيادة في إقليم مضطرب.
لكن في الوقت نفسه، فإن المنطقة تواجه تحديات جسيمة خلقها هذا الفراغ وما سبقه من حروب دامية، تتعلق بغياب الرؤية الواضحة لما بعد كل ذلك. ومع هذا الغياب، تبقى أسئلة علاقة دول الشرق الأوسط بشعوبها، وبالغرب، معلقة بلا إجابات، مانحةً من سيتمكن من صياغة تصور يجيب على تلك الأسئلة الاستراتيجية الكبرى، القدرة على لعب دور قيادي في الإقليم مستقبلًا.
ترجح غالبية التحليلات السياسية المستندة إلى التطورات العسكرية الميدانية، أن تكون إسرائيل وتركيا هما المرشحتين الرئيسيين للعب دور القيادة، في وقت تسعى كلتاهما لملء الفراغات واستغلال المساحات التي خلفها تقهقر محور "المقاومة" وتخلي إيران الحتمي عن قيادته. لكن في الوقت نفسه، يبدو مستبعدًا أن تتمكن أي منهما أو كلتاهما معًا من خلق زخم حقيقي لتوجهاتهما السياسية، فضلًا عن فرض رؤيتهما الشاملة على الإقليم، أخذًا في الاعتبار أنهما الطرفان الأكثر إثارةً للمشاعر السلبية لدى الشعوب العربية، وإن تباينت أسباب تلك المشاعر.
يحتاج الشرق الأوسط إلى رؤية تنطلق من الإقليم نفسه، تصوغها دول الإقليم دون طمع في احتكار القيادة، بل تغليب المصالح المشتركة للجميع بهدف تحقيق استقرار وأمن شعوب المنطقة. يجب أيضًا أن تشمل تلك الرؤية تطمينات واضحة لجميع الأطراف، وأن تقدم تصورات متكاملة عن حلول شاملة ومترابطة لجملة الصراعات النشطة والخاملة في المنطقة، والسيطرة على الأجواء المحتقنة بين الأطراف المختلفة.
هذا الدور لن تستطيع دولة بمفردها أن تلعبه مهما كانت قوية عسكريًا أو اقتصاديًا أو مدعومة دوليًا. وهنا تظهر الفرصة لمصر، التي بإمكانها أن تلعب دورًا حيويًا في مساعدة دول الجوار في تشكيل تلك الرؤية، فضلًا عن لعب دور قيادي في تحقيقها، بعد أن انتهى إلى الأبد الشرق الأوسط الذي كنا نعرفه في زمن الحرب الباردة، والزمن الذي تلى نهايتها.
خمسينية مصر أولًا
مثلت النظرة إلى الغرب بجناحيه الأوروبي والأمريكي نقطة ارتكاز المشاريع الإقليمية التي صاغتها الدول التي تولَّت القيادة في الشرق الأوسط منذ أوائل الخمسينيات مع بداية تشكُّل الدول الحديثة المستقلة في المنطقة وحتى يومنا هذا.
وبالإمكان رصد محاولتين كبيرتين في هذا الصدد؛ مصر الناصرية التي حملت الراية حتى هزيمة 1967 ثم خروجها من معادلة الاشتباك مع إسرائيل بتوقيع اتفاق السلام معها عام 1979، وبعدها إيران الخمينية التي تسلمت الراية مع انتصار ثورتها التي اندلعت في السنة نفسها.
أمام مصر اليوم فرصة كبيرة لاستعادة شارة القيادة الإقليمية استنادًا إلى عوامل موضوعية
فمع انهيار الدولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى، ثم أفول نجم القوى الاستعمارية التقليدية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، جاءت الفرصة الأولى لشعوب ودول الإقليم للتعبير عن نفسها ورؤيتها لمستقبلها في تلك المنطقة من العالم.
رأى عبد الناصر تلك الفرصة وشرع في صياغة رؤية إقليمية عابرة للحدود الوطنية ترتكز على مثلث؛ التضامن العربي والقضاء على الاستعمار في الخارج وترسيخ شرعية النظم التي يغلب عليها المكوِّنَين العسكري والأمني في الداخل. استمرت تلك المغامرة بمزيجٍ من النجاحات والإخفاقات حتى وصلت إلى محطتها الأخيرة مع هزيمة 1967 القاصمة، التي رسمت معالم النهاية لمشروع مصر الناصرية.
بعدها، خلعت مصر شارة القيادة واتجهت إلى لملمة جراحها وانصبَّ اهتمامها على استعادة أرضها ووقف الدائرة الجهنمية لحالتي الحشد الدائم والحرب المستمرة، وبالفعل حققت نجاحًا كبيرًا في الحفاظ على وحدة وسلامة أراضيها بعد استرداد سيناء كاملةً وتوصلت لاتفاق سلام مع إسرائيل، ودخلت عصرًا يمكن تسميته بـ"خمسينية مصر أولاً".
حَكمت تلك الحقبة توجهات واضحة دشنها السادات واستمر فيها مبارك، تمثلت في عدم الانخراط في أي نزاعات مسلحة خارج الحدود المصرية. وخلال تلك الخمسينية، التزمت دوائر صنع القرار السياسي والعسكري المصري بهذا التوجه مع استثناء واحد؛ حدث بتوافق أممي، وكان له ما يبرره اقتصاديًا، أي حرب تحرير الكويت.
.. وخمسينية الجنون والفوضى
بالإضافة لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، شهد عام 1979 أحداثًا مفصلية أعادت تشكيل معالم المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط حتى لحظتنا الراهنة؛ نجاح الثورة الإسلامية في إيران، ووصول صدام حسين للسلطة في العراق، والغزو السوفيتي لأفغانستان.
خلَّف تخلي مصر الطوعي عن طموحات التمدد السياسي والعسكري فراغًا في القيادة الإقليمية، فرأى صدام في العراق والخميني في إيران الفرصة الثانية، وشرعا في التنافس الدموي خلال الثمانينيات على رسم ملامح وقيادة ما سيعرف لاحقًا بمحور المقاومة أو الممانعة.
لكن صدام خرج عمليًا من الصراع على شارة القيادة الإقليمية بعد خطيئته الاستراتيجية بغزو الكويت عام 1990، ليجعل العراق محاصرًا طوال 13 عامًا انتهت بالغزو الأنجلو-أمريكي، الذي شكَّل الإعلان الرسمي عن حصول إيران على شعلة القيادة الإقليمية.
اعتمدت الرؤية الإقليمية لإيران على مثلث إعادة بعث الطموحات القومية الفارسية، ودعم الشيعة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا لخلق امتداد إمبراطوري من طهران إلى القدس، وترسيخ حكم ولاية الفقيه إلى الأبد داخليًا.
استمرت هذه المغامرة الإيرانية قرابة عقدين من الزمان، إلى أن انتهت مع اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ثم السقوط الدرامي للأسد. هنا حانت اللحظة التي على إيران أن تترك فيها شارتها، وقد يكون أفضل الخيارات المتاحة أمامها اليوم هو تبني توجه مصر بعد هزيمتها؛ لملمة الجراح والعودة إلى داخل الحدود والتخلي عن أوهام الخلاص الأيديولوجي في ظل أنها مهزومة سياسيًا ومنهكة اقتصاديًا، وعلى وشك الانفجار اجتماعيًا.
هل ترى مصر السحابة؟
يُروى في الأثر، أن الإمام علي بن أبي طالب قال "اغتنموا الفرص فإنها تمر مر السحاب". وأمام مصر اليوم فرصة كبيرة لاستعادة شارة القيادة الإقليمية، استنادًا إلى عوامل موضوعية من بينها أن مصر استفادت من توجهها الدفاعي خلال "خمسينية مصر أولًا"، عبر الاستثمار المستمر في تعظيم قوتها العسكرية، خصوصًا في الوقت الذي أُنهِكت فيه كل دول الإقليم وجيوشها بدرجات متفاوتة، نتيجة صراعات النفوذ وحروب الوكالة المستمرة من 1979 وحتى 2024.
وقد عظَّم هذا التوجه الدفاعي من قدرة مصر على التحدث والتواصل مع الجميع، دون أن يقترن ذلك دائمًا بنجاحات كبيرة في التأثير في مواقف الأطراف. لكن المخزون البشري المصري الهائل، والقبول العربي العام بل والترحيب بالتواجد البشري والثقافي المصري، يجعل ما يبدو صعبًا عصيًّا على أنقرة وتل أبيب، أسهل كثيرًا بالنسبة للقاهرة.
وتقديري أن ما يمكن أن يعوق مصر عن اغتنام تلك الفرصة هو التأخر في التحرك أو التردد في استغلال مواردها ومواهبها بالشكل الأمثل. يمكن لمصر أن تغتنم تلك الفرصة من خلال ترتيب البيت الداخلي سريعًا بنوايا صادقة من الجميع، عبر تحسين إدارتها لرأسمالها البشري، وتنفيذ مجموعة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعروفة، بالإضافة إلى تعزيز دبلوماسيتها النشطة خلال السنوات الأخيرة.
على مصر أيضًا الانخراط بفاعلية مع مثلث الخليج، تركيا، وإيران، بالتزامن مع تعزيز الحوار بشأن "التعافي وإعادة الإعمار" مع العراق، سوريا الجديدة، لبنان، ليبيا، واليمن. وأن تبقى مهتمة قولًا وعملًا بمستقبل الفلسطينيين.
بمزيد من التأمل والثقة بالنفس وتقديم القيادة لنموذج جديد في علاقة الحكم بالشعب، يمكن لمصر أن تنقل الشرق الأوسط بالكامل من منطق "الحكم لمن غلب" لمنطق "يمكن أن يفوز الجميع"!
لكن هل القاهرة راغبة في تلقف هذه الفرصة، أو قادرة على التعامل معها؟