إذا كان حظك من الدنيا تعيسًا لدرجة أن تشاهد مسلسلات وبرامج رمضان على القنوات الفضائية العامة، لا إحدى المنصات المدفوعة أو الريسيفرات المُقرصِنة باشتراك سنوي زهيد، فأنت إذن واحد من هؤلاء الذين يتعرضون لأحد أسوأ "الانتهاكات الفضائية" على وجه الأرض.
في الفضائيات المصرية، تنتهك الإعلانات أكثر من نصف ساعات البث اليومي، بمعدَّلٍ تجاوز في بعض الأحيان 37 دقيقة كلَّ ساعة، ما يعني أنَّ كلَّ 24 ساعة من البث التليفزيوني تتضمن 15 ساعة من الإعلانات، تتسبب في ضياع أكثر من نصف وقت المشاهد على محتوى لم يطلبه ولا يريده.
ولكن إلى جانب إضاعة الوقت في هذا الإزعاج الصوتي والبصري، قد تتسبب نوعية الإعلانات التي تُبث هذه السنة تحديدًا في إصابتك بالاستفزاز وبأعراضٍ نفسيةٍ وبدنيةٍ مؤلمةٍ، وأنت تضطر لمشاهدة كلّ هذه المدن بما فيها من فيلات وشقق حديثة فاخرة يزيد سعر أرخصها عن بضعة ملايين، بينما لا تملك ترف الاشتراك في منصة شرعية تُجنِّبك إيَّاها.
يُذكِّر حال الإعلانات والفضائيات بالمثل الشعبي "ما يفعل العيان بالميت"، إذ باستثناء إعلانات الاتصالات والمشروبات الغازية والبطاطس المقلية المضرَّة بالصحة، ودعوات التبرع للفقراء، ما الذي يستطيع مُشاهد الفضائيات المسكين، الذي ينتمي إلى النسبة الغالبة التي تشكِّل الفقراء في مصر، أن يشتريه من العقارات والأغذية المعلَن عنها، أو يُقدمه للتبرع؟
مَن يحمي المواطن من الإعلانات؟
لنتوقف قليلًا أمام حجم هذا السيل الإعلاني الجارف الذي ينهال على عيون وآذان المشاهدين، والذي يشكِّل جريمة قانونية مكتملة الأركان، لا مثيل لها في أيِّ مكان في العالم. تفوِّض القوانين المحلية في العالم كله المؤسسات والهيئات المسؤولة عن تنظيم الإعلام بوضع حدٍّ أقصى لنسبة البث الإعلاني من إجمالي ما يبثُّ في الصحف والتليفزيونات، ولكن على فضائيات المحروسة هذا القانون مُغيَّب ومُهدر.
في فرنسا مثلًا يتعيَّن ألا يزيد المتوسط اليومي للإعلانات عن 6 دقائق في الساعة
التشريع نفسه موجود، ولكنه غير مُفعَّل تنفيذيًا، إذ ينص القانون رقم 180 لعام 2018 في مادته الـ16 على أن على المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام "تحديد حد أقصى لنسبة المادة الإعلانية إلى المادة الإعلامية والصحفية في جميع وسائل الإعلام والصحف".
ولكن هل خرج علينا أحد منذ إصدار القانون ليخبرنا بهذا الحد الأقصى؟ وهل هذا الحد الأقصى، إن وجد، يتناسب مع حقوق الإنسان والمواطن؟ ألم يخطر على بال أحد من هؤلاء أن الإعلانات الزائدة عن الحد "جريمة" في حق المواطن؟
في دراسة أصدرها قسم الاقتصاد في جامعة فيرجينيا عام 2005 للباحث سايمون ب. أندرسون بعنوان تنظيم الإعلانات التليفزيونية، نجد أنَّ دولًا أوروبية تتشدد في الالتزام بالضوابط التي فرضها الاتحاد الأوروبي بألَّا تتجاوز فترة الإعلانات 12 دقيقة خلال ساعة البث الواحدة.
في فرنسا مثلًا، يتعيَّن ألا يزيد المتوسط اليومي للإعلانات عن 6 دقائق في الساعة، فيما تضع القناة الفرنسية-الألمانية ARTE لنفسها حدًا أقصى من الإعلانات، يهبط فيه المتوسط اليومي إلى أربع دقائق، والحد الأقصى للساعة إلى تسع دقائق.
وفي بريطانيا لا يُسمح على الإطلاق للقنوات التليفزيونية العامة مثل بي بي سي ببث الإعلانات. أما القنوات الخاصة، فتخضع لقانون الاتحاد الأوروبي فيما يخص الحد الأقصى للإعلانات، ولكنَّ المتوسط اليومي لا يجب أن يزيد عن تسع دقائق في الساعة، وسبع دقائق ونصف الدقيقة خلال ساعات الذروة! وينطبق الأمر نفسه على قنوات الكيبل/cable.
وفوق ذلك، هناك محتوىً يُمنع خلاله بث الإعلانات، مثل مراسم الاحتفالات الدينية والملكية، وجلسات البرلمان، والبرامج التعليمية، وبالطبع كل البرامج والمواد التي تبث للأطفال.
في هولندا، حسب الدراسة ذاتها، ينص القانون على ألَّا تزيد نسبة الإعلانات عن 20% في الساعة، ولكنَّ الحكومة تفرض ألَّا يزيد المتوسط عن 6.5% يوميًا في القنوات العامة، وألَّا تزيد الفقرة الإعلانية عن دقيقتين وأن تكون خلال الفواصل الطبيعية للمسلسلات والبرامج. وإذا كانت إعلانات الخمور مسموحة في هولندا، فإنها مشروطة بأن تكون لثوانٍ معدودة، مصحوبة بعبارات تحذر من مخاطر الإسراف في تناولها.
أما السويد، فتتخذ إجراءات حماية مشددة أكثر. تنوِّه الدراسة إلى أنَّ النسبة الأكبر من القنوات العامة هناك مملوكة للدولة. في المحطتين الرئيسيتين SVT1 وSVT2، الإعلانات ممنوعة تمامًا. أما بالنسبة لبقية القنوات، فتُحظر فيها الإعلانات خلال البرامج الموجهة للأطفال. وفي بقية برامجها، لا تتجاوز مدة الإعلانات ثماني دقائق في الساعة، باستثناء ساعات البث المسائي من السابعة حتى منتصف الليل، حيث تزيد المدة المسموح بها من الإعلانات إلى 10 دقائق في الساعة.
يتحول المواطن إلى ضحية مسلوبة الإرادة بفعل الألحان "الشعبية" المنحولة مع الكلمات المقفاة
هناك شروط أيضًا تتعلق بتوقيت بث الإعلانات، مثل الفواصل بين البرامج أو بين الفقرات الطبيعية للبرنامج الواحد، وبين أشواط المنافسات الرياضية، وبعد مرور 20 دقيقة على الأقل من بداية البرنامج أو نهاية الفاصل الإعلاني السابق، وينبغي التنبيه عند بداية ونهاية الفقرة الإعلانية.
وفي بلاد خارج الاتحاد الأوروبي تظل القوانين متشابهة. في النرويج، مثلًا، يُسمح ببث إعلانات داخل المسلسلات ولكن يجب ألا تزيد عن دقيقة واحدة، ولمرة واحدة، خلال الحلقة الواحدة!
وفوق ذلك تحظر معظم قواعد التنظيم بث إعلانات بعينها مثل الدعاية السياسية، والمنتجات والخدمات الجنسية، والسجائر، والأسلحة، ونوادي وألعاب القمار، والأدوية والمواد التي تُخفي تأثير الكحول. كذلك يمتد المنع إلى إعلانات التبرع الدينية، ووكالات الزواج.
كما أن القانون يفرض أيضًا ألا يكون صوت الإعلانات أعلى من المواد الأخرى على القناة. وهذا شيء لا يخطر ببال أحد أن يُقننه في مصر، وبالتالي ينطلق صوت الإعلانات صارخًا في كل مرة تبدأ فيها، ما يضاعف من صخبها وتأثيرها النفسي المزعج.
القانون موجود.. ولكن؟!
ما هي النسب والقواعد التي سنها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر؟ منذ ثلاثة أعوام، تجاوب المجلس مع شكاوى العديد من المشاهدين بسبب كثرة الفواصل الإعلانية أثناء المسلسلات والأعمال الدرامية المعروضة في شهر رمضان، ببيان يؤكد فيه ضرورة التزام القنوات بضبط فترات الإعلانات التي تذاع أثناء المسلسلات، والتوقف عن الإسراف والتطويل الذي يفسد حق الجمهور في المشاهدة والاستمتاع بالأعمال الدرامية.
وهدد المجلس في بيانه بأنه سيضطر للتدخل حماية للمشاهدين، إذا لم تلتزم القنوات من تلقاء نفسها بتقليص المساحات الإعلانية، وذلك بعد أن تلقى شكاوى كثيرة بشأن عدم تنظيم الإعلانات واعتدائها على حق الجمهور، ودخول كل القنوات في ماراثون إعلاني لا يخدم الأعمال الدرامية ولا الهدف من إنتاجها.
صدر هذا البيان في 14 أبريل/نيسان 2021، وحتى الآن لم يصدر أي قرار يخبرنا بنسبة الإعلانات التي يجب ألَّا تتجاوزها القنوات، وما نوع العقاب الذي سيُفرض على من يخالف هذا القرار.
كما بدأت بآثار السيل الإعلاني الجارف على المشاهدين أختم به. يتحول المواطن إلى ضحية مسلوبة الإرادة بفعل الألحان "الشعبية" المنحولة مع الكلمات المقفاة البسيطة ووجوه النجوم المعروفين، أو الميلودراما الحزينة الفاقعة أحيانًا لإعلانات التبرعات.
ومع الصوت المرتفع، والتكرار الذي لا ينقطع، تنحفر أسماء الشركات والمؤسسات والسلع في عقل ووجدان المُشاهد، وتصبح جزءًا من لا وعيه، يحلم بها، ويرددها، وتنتقل من أذن لأخرى.
أما مَن يستطيع مقاطعة الفضائيات، فستقفز الإعلانات في وجهه على شاشة اللاب توب أو الموبايل، أو أثناء جلوسه على المقهى، وحتى في المطعم الفاخر. وستتحول الحياة، طوال الشهر، إلى إعلانات مخلوطة بمسلسلات وبرامج.
من ناحية ثانية، فإن هذا الإلحاح المتواصل للإعلانات يُفقدها قيمتها، ويفقد المواطن ثقته بما تسوّقه هذه الإعلانات. وبما أن الإعلان الجيد اللحوح أهم في نظر المُنتج من السلعة نفسها، لذلك تخصص الشركات مبالغ طائلة للإعلان عن منتجات تافهة، رديئة. ويَفقد المواطن، مع الوقت، ثقته في هذه المنتجات.
وفي المقابل، يجد صاحب السلعة الجيدة نفسه مُضطرًا إلى زيادة الميزانية المخصصة للإعلان وتقليل الإنفاق على السلعة نفسها، أو الانسحاب من المنافسة. ومن ناحية ثالثة تقوم الشركات بتحميل ميزانية هذه الإعلانات الضخمة على المواطن المسكين. فثمن دقيقة الاتصال التليفوني التي لا تزيد قيمتها عن قروش، يتضاعف عشر مرات لكي تستطيع الشركات دفع مئات الملايين على الإعلانات.
المواطن إذن هو الخاسر الأكبر في كل الأحوال، يليه الاقتصاد نفسه، الذي يتضرر من كل هذه الممارسات غير المسؤولة والمخادعة. وبذلك تكتمل الجريمة، بتحولها من مجرد إزعاج يسبب المرض، إلى أداة لتشكيل مجتمع عاجز عن التفكير، خاضع لهيمنة الرغبات الاستهلاكية المخلَّقة، قوامه مواطنون مثل الروبوتات، أو السائرين نيامًا.