
مهرجان شنغهاي.. السباحة في بحر من الأحلام
في طفولتي كنت أحلم، حرفيًا، ببلدين لا أعرف أحدًا فيهما ولا شيئًا عنهما ولا تربطني بأيهما علاقة؛ الصين والنرويج!
إذا سألتني عن السبب فلا إجابة أكثر من خيال الصغار الذي يستجيب لأشياء غير متوقعة. بالنسبة للصين كان غالبًا عشقي لأفلام الكونج فو وممارستي للعبة هو السبب. في بداية السبعينيات كانت أفلام بروس لي ولو ليه وغيرهما من أبطال القتال اليدوي الصينيين، وصولًا إلى جاكي شان، تُعرض بانتظام في مصر وتحقق نجاحًا هائلًا، وكنت، ضمن جيلٍ كاملٍ، مهووسًا بها.
حلمي بزيارة الصين تحقق عدة مرات، من بينها مرتين خلال العامين الأخيرين، كضيف وعضو في لجان تحكيم في مهرجان شنغهاي السينمائي الدولي.
خلال الزيارة الأخيرة، حكيت عن حلمي القديم بزيارة الصين والنرويج لزميلة لجنة التحكيم المنتجة النرويجية ليزه فيرنللي. سألتني عن السبب وعندما قلت لا أعرف قالت: لعلَّه الجليد.
للحظة لمعت صورة جبال الجليد في ذهني. غالبًا معها حق، لا بد أنني تأثرت بصور هذه الجبال النرويجية شاهقة البياض الساحرة، من خلال إحدى مغامرات تان تان أو غيرها من قصص الكوميكس.
غريب تأثير السينما والمجلات المصورة على عقول الصغار. بشكل غير مباشر أو مقصود وقعت في حب بلدين لا أعلم عنهما شيئا. وها أنا، للعام التالي على التوالي، أنتقل عبر الزمان والمكان لأغرق أسبوعين تقريبًا في الأفلام والقصص الخيالية القادمة من كل بقاع الأرض.
شخصية شنغهاي
لكل مهرجان شخصية تميزه تتعلق بمكانه وجمهوره وأهدافه وتوجهات منظميه وحجمه المالي، وأول ما يميز مهرجان شنغهاي هو المدينة التي يقام فيها بتاريخها العريق وتراثها المعماري والفني والأدبي وطبيعة سكانها، باعتبارها أكثر المدن الصينية كوزموبوليتانيةً وتنوعًا وترحيبًا بالغريب وحبًا للتجديد.
مدهشةٌ دومًا بالنسبة لي، فكرةُ أن الصينيين يمثلون ثُلث سكان العالم، منتشرون في كل أنحائه، وبضائعهم وتأثيرهم يمتدان إلى كل بيت. ومع ذلك يبدون، كدولة ومواطنين، في منتهى التواضع، low profile حسب التعبير الإنجليزي. حين أفكر في هذا أضحك، وأشعر بالأسف من مقارنته بمن تستهلكهم أوهام العظمة والتفاخر الزائف.
ومن عجائب الأمور أن الصيني يسألك دائمًا عن ملاحظاتك ويطلب منك المشورة والنصيحة ويُردف أسئلته دائمًا بعبارة "حتى نتعلم من خبرتك". والصيني المتباهي الوحيد الذي التقيت به كان بائعًا في محل إلكترونيات يشرح لي مواصفات لابتوب حديث قائلًا "هذا النوع لا يوجد حتى الآن في أي مكان سوى الصين، ولم يخرج إلى العالم بعد".
قالها وصوته لم يعلُ سوى درجة واحدة تصعب ملاحظتها، ودون أن تفارق عيناه المسافة الواقعة بين الأرض وصدرك، قبل أن يختم كلامه بنبرة محايدة، منتقلًا إلى شرح بعض الفروق بين الأجهزة، تاركًا لك كل الاختيارات الممكنة. تذكرته بعد ذلك وابتسمت عندما قارنته ببائعين في بلاد أخرى.
الأقل ادعاءً
مهرجان شنغهاي هو أحد أكبر المهرجانات الدولية، وأقلها تباهيًا وادعاءً للعظمة. أعداد الأفلام المعروضة والقاعات والجمهور لا تقل عن كان أو برلين. ما يقل هو التغطية الصحفية العالمية للمهرجان، وعدد النجوم الأمريكيين الذين يُدعون إليه.
في الحقيقة، خلت الدورة السابعة والعشرون التي حضرتها هذا الشهر من أي نجم أمريكي في فعالياتها، ومن أي فيلم أمريكي في مسابقتها الرسمية. ومن بين أكثر من 400 فيلم، عُرض عدد محدود من الأفلام الأمريكية معظمها من الكلاسيكيات في إطار تكريمٍ أو ترميمٍ أو برنامجٍ خاصٍّ.
لا يعني ذلك أن شنغهاي مهرجان فقير لا يمكنه دعوة النجوم والشركات الأمريكية الكبرى التي تتهافت عليها المهرجانات الأخرى. لكنه يوزع اهتمامه على صناع الأفلام القادمين من مناطق مختلفة حول العالم، ويركز أكثر على سينمات لا يعرفها الجمهور الصيني، ويمد أواصر التعاون مع بلاد مهمة استراتيجيًا وسياسيًا واقتصاديًا للصين، مثل دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا وروسيا والدول الآسيوية المجاورة.
ينتمي مهرجان شنغهاي إلى الفئة A في تصنيف اتحاد المهرجانات العالمية، وهو تصنيف لا يضم إلا نحو عشرين مهرجانًا فقط من بينها كان وبرلين وفينيسيا وتورونتو والقاهرة. وأحد الشروط الأساسية لهذا التصنيف أن تكون الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة عروضًا عالميةً أولى.
ضمت مسابقة الدورة الأخيرة 12 فيلمًا من الصين واليابان وألمانيا وسويسرا والبرتغال والبرازيل والأرجنتين وفرنسا وبولندا وقيرغستان، وفاز الفيلم القيرغيزي "أسود وأصفر" بالجائزة الكبرى.
أما لجنة التحكيم التي ترأَّسها المخرج الإيطالي الكبير جوزيبي تورناتوري، فضمَّت أعضاءً من الأرجنتين واليونان والهند مع ثلاثة من الصين.
https://www.youtube.com/watch?v=JMyVSD6OvO8الاهتمام في مكان آخر
ليست المسابقة الرسمية هي الفعالية الأبرز في مهرجان شنغهاي، لأن الاهتمام الرئيسي ينصب على عرض أكبر عدد من الأفلام الجيدة المتنوعة لجذب الجمهور. فمثلًا عُرض في المهرجان 410 أفلام في 43 دار عرض تغطي أنحاء المدينة. واليوم الأول وحده، شهد 600 عرض لـ92 فيلمًا، كون بعض الأفلام تعرض عدة مرات خلال اليوم الواحد، بإجمالي 370,000 تذكرة بإجمالي إيرادات بلغ 3.7 مليون دولار، بينما تخطى إجمالي إيرادات تذاكر الدورة بأكملها 300 مليون دولار.
يُمكننا فهم ذلك بالنظر إلى أن شنغهاي من أكبر مدن العالم ويسكنها نحو 25 مليون نسمة، وهنا أعود إلى المقارنات مجددًا عندما أفكر في أن عدد سكان القاهرة الكبرى يتجاوز الـ20 مليون نسمة، لتزحف الابتسامة الساخرة بأسف إلى شفتيَّ مجددًا!
غالبًا ما كانت التذاكر تنفد فور فتح باب الحجز، بل إن أحد أفلام المسابقة بيعت تذاكره خلال 26 ثانية فقط، أخذًا في الاعتبار أن سعر التذكرة يبلغ عشرة دولارات، وهو ضعف ثمن تذكرة السينما العادية في المدينة.
وبالإضافة إلى أفلام المسابقة الرسمية، تصدرت أفلام المخرج الراحل ديفيد لينش التي أعيد عرضها، وفيلم The Brutalist للمخرج برادي كوربيت (2024)، بالإضافة إلى رائعة تورناتوري Cinema Paradiso/سينما باراديسو (1988) قائمة التذاكر المباعة.
كان لافتًا أيضًا أن معظم الجمهور من الشابات. في معظم بلاد العالم، عدا منطقتنا المنكوبة، تشغل النساء مساحات تتسع باستمرار. ولا بد أن منظمي المهرجان فكَّروا في ذلك وهم يضعون عنوانًا لأحد برامجه الرئيسية هو "النساء يتحركن"!
الملحوظة الثانية هي إقبال الشباب على كل أنواع الأفلام القادمة من كل الدول. شاهدت مع الجمهور أفلامًا من الصومال وتونس وفلسطين وإيران: القاعات ممتلئة والجمهور في كامل تركيزه. من المستحيل أن تسمع صوت هاتف أو مشاهد ينادي على صديقه أو حتى يتحدث إلى جاره. وكذلك يبقون في القاعة حتى نهاية تترات الختام، مهما طالت مدتها، ثم يصفقوا في احترام ويغادرون في هدوء، أو يبقون لتحية وسؤال صُناع الأفلام إذا عُقدت بعد العرضِ ندوةٌ.
مزيج من الأزمنة
تنوعت أفلام المهرجان كما ذكرت بين الجديد والقديم، مع تركيز خاص على الكلاسيكيات المرممة المعروضة بتقنيات 4K وIMAX. بين أعمال صامتة احتفاءً بذكرى الكوميدي الأمريكي الرائد باستر كيتون، وشعبية سلسلة أفلام Police Story لجاكي شان.
تبدو شنغهاي مزيجٍ من الأزمنة، تبدأ من أحيائها وأسواقها الشعبية التي تشبه صين القرن التاسع عشر، وتمرُّ بمسرح المهرجان الرئيسي العملاق الذي يعود لخمسينيات الثورة الشيوعية، وقد بُني احتفاءً بالصداقة الصينية-السوفيتية، حتى تصل إلى مظاهر تطور تكنولوجي تشبه ملاحم حرب النجوم أو خيال كريستوفر نولان.
كتبت عندما طُلب مني إهداء كلمة للمهرجان: "شنغهاي تشبه الحلم، وزيارة مهرجانها أشبه بالنزول إلى بحر من الأحلام!". في بحر الأحلام هذا عرفت لماذا كنت أحلم بالصين في طفولتي. أما النرويج، فما زلت أنتظر تحقيق الحلم!