في الفصل الأول من كتاب مارك توين الكلاسيكي مغامرات هاكلبري فين، ترد جملة لا بد أنها حفظت نفسها في ذاكرة أجيال من الأمريكيين، لما فيها من شوق وتوق عظيمين؛"أردت فقط الهرب، أردت فقط التغيير، لم أكن صعب الإرضاء على الإطلاق". الجملة لهاكلبري فين، بطل الرواية، الطفل الباحث عن الحرية والمساواة والمتجنب الماهر للامتثال والانصياع. "روح المغامرة"، هكذا يسمّيها الأمريكيون، روح المغامرة الأمريكية على وجه التحديد، قاصدين بها المضي قدمًا لاستكشاف مساحات من البلاد لا نهاية لها، وتحدّي قوة الطبيعة للتحرك غربًا باستمرار. هذا الشعور بالمغادرة لا يأتي طواعية في كل مرة، كما هو الحال مع المغامر الصغير هاك فين. أحيانًا، يقوم القَدَر بدوره كخادم لئيم، ولا يتبقى أمام المرء سوى خيار وحيد يقضي بترك كل شيء وراءه والابتعاد بسرعة.
ذلك ما يحدث للأرملة فيرن، بطلة فيلم نومادلاند للمخرجة كلوي تشاو، بعد الأزمة المالية لعام 2008، أُغلق منجم للجبس ملحقة به مستوطنة عمال في بلدة إمباير في صحراء نيفادا، وفيرن ذات الـ61 سنة، التي عاشت هناك مع زوجها حتى وفاته، هي آخر من غادر. بدون المنجم، ماتت البلدة الصحراوية، وقامت الشركة المالكة بحلّ المكان، وصار على الموظفين السابقين مغادرة سكن الشركة.
فجأة، تُركت فيرن دون منزل أو مأوى. لا تعرف إلى أين تذهب. تجمع بعض التذكارات وتودعها في شاحنتها ذات اللونين الرمادي والأبيض، التي صارت بيتها منذ ذلك الحين. أضحت مرتحلة، بلا مطالب كبيرة، تنتقل من وظيفة صغيرة مؤقتة إلى أخرى؛ وتصرُّ على أنها "بلا بيت، لكنها ليست بلا مأوى".
تجسّد فرانسيس مكدورماند (63 سنة) هذه الشخصية بطريقة بسيطة تمامًا. في أحد المشاهد، توقف سيارتها وتنزل منها جريًا لتقرفص وتتبوَّل وسط أرض قاحلة لا يُسمع فيها سوى صوت الريح الباردة. وفي لحظة أخرى، لا تستطيع إمساك نفسها، فتقوم على عجل بسحب سروالها في شاحنتها ودفع دلو تحت مؤخرتها. تزمجر بطنها ويتلوّى وجهها أثناء متابعة الكاميرا إتمامها قضاء حاجتها.
تبدو مكدورماند مثل واحدة من الحدائق الوطنية الشهيرة في الولايات المتحدة، جليلة بلا زخارف وأليفة من غير تكلُّف، إنما بوجه ضربته العوامل الجوية فحدَّدت خطوطه وتجاعيده. خارطة مليئة بالقصص.
يوتوبيا أمريكية
يستند نومادلاند إلى كتاب غير خيالي يحمل الاسم نفسه من تأليف جيسيكا برودر، يصف بالتفصيل التدهور الاقتصادي لأولئك الذين أضحوا بلا مأوى من سكّان المقطورات ومنبوذي الحلم الأمريكي، في أعقاب انهيار السوق بفعل الأزمة المالية العالمية، تترجمه المخرجة الأمريكية صينية الأصل في فيلمها إلى فيلمين في واحد: حبكة روائية وتقليدية تنتظم حكاية فيرن وخلفيتها، وخطّ وثائقي يجسد فيه سكان مقطورات/ رُحّل حقيقيون أنفسهم، أو على الأقل نسخًا من حيواتهم.
لكن الفيلم، الذي يعد المرشح الأكبر للفوز بجائزة الأوسكار في نسختها الـ93 بستة ترشيحات (بما في ذلك أفضل إخراج وأفضل ممثلة رئيسية)؛ ليس فيلمًا وثائقيًا. فالرُحّل الحقيقيون الذين تلتقيهم فيرن بشكل متكرر في طريقها يجري تضمينهم بعناية في سرديتها، يوفّرون مادة ملائمة ليوتوبيا غريبة ترصدها المخرجة (وهي أيضًا كاتبة السيناريو)، من خلال مرافقتهم البدوية المبتدئة في بحثها الشخصي عن المعنى بعد فقدان زوجها، والقيام بوظائف استعارية أحيانًا كإشارات وعلامات استدلالية، وأحيانًا كحواجز حماية عاطفية، في هذه المشاهد، تركّز مكدورماند تمثيلها على الاستماع، ويفسح الفيلم المجال أمام شخصياته/موضوعاته (وجميعهم تقريبًا من الأمريكيين البيض) للحديث عن تجاربهم وخبراتهم في العيش المرتحل.
ورغم انزعاجي الشخصي من تلك المشاهد وتوظيفها داخل خطاب الفيلم ككل، فإن الاعتراف بأن تلك المقاربة التمثيلية ربما لا يصلح لها سوى شخص لا يستعير شبابًا اصطناعيًا في يومياته ولا يتعيّن عليه وضع مكياج مبهرج أو زيادة وزنه بضعة كيلوات للقيام بدور مثل هذا. لا يتبادر إلى الذهن العديد من الممثلات اللواتي يمكنهن تصوير ذلك بمصداقية.
وهكذا، يكشف الفيلم بعض أوراقه في لحظة ما مكثَّفة. الأمر كله يتعلق بأمريكا، والآلة الاقتصادية المتعثرة، وضحايا الرأسمالية المتوحشة، وتايتانيك التي تغرق بالفعل. بالأخذ في الاعتبار إدماج كل هذا معًا، يبدو الفيلم مهمًا ومُلحًّا للغاية في بدايته. لكن، للأسف، لا يمكن للمرء إغفال غياب منظور حاسم وواضح عن تلك الارتحالات المصوَّرة والمونتاجية التي يدمنها الفيلم بعد ذلك.
مثل تيرانس ماليك، وهو مؤثر أسلوبي وموضوعي في الفيلم، تسحب كلوي تشاو لوحتها القماشية، لتصوّر أراضي أمريكا المترامية بمواجهة أكثر من غروب شمسٍ وردي متلألئ. رغم ذلك، تقتصر "نظرتها الوثائقية" على الملاحظة البحتة. الاستجواب ليس موضوعها ولا شاغلها، وهذا مؤسف. في أحد المشاهد، تقتبس فيرن شكسبير من العدم، سطرًا سطرًا. علمنا أنها كانت تعمل كمعلمة. ألن تكون هذه وظيفة يمكن أن تمنحها الدعم لبداية جديدة؟ وعلى أية حال، كيف يمكن للمرء أن يظل جزءًا من هذا "الكوميونتي" المزعوم دون مسكن ثابت؟ كيف وأين يدفع هؤلاء الناس الضرائب؟ هل يمكنهم التصويت؟ كل هذا لا يُردّ عليه ولا يشغل الفيلم نفسه به إطلاقًا. وبالتالي لا يمكن للمرء إلا التكهّن بنفسه عما إذا كانت الحياة في نومادلاند هي قبول شبه رومانسي أم احتجاج مفتوح ضد الصراع الوجودي للوجود البشري في أمريكا الرأسمالية المحكومة بالدولار.
تايتانيك تغرق طبعًا
في آخر المطاف، مع ذلك، عندما تجد فيرن وظيفة مؤقتة كعاملة موسمية في مركز طرود تابع لأمازون قبل موسم التسوق في عيد الميلاد، لا يسع المرء سوى التفكير لا إراديًا في الولايات المتحدة أثناء الوباء.
30 مليون إصابة، وأكثر من 550 ألف حالة وفاة، وملايين الأمريكيين الذين خرجت حياتهم تمامًا عن مسارها بسبب انهيار الاقتصاد. هذه حصيلة سنة واحدة من تفشي الجائحة. حتى أسابيع قليلة ماضية، كان الكونجرس لا يزال يكافح حول الوسائل التي يجب استخدامها لمعالجة النقص الطبي بسبب الافتقار إلى نظام رعاية اجتماعية مناسب. بعد ذلك، في أوائل مارس/ آذار، أقر الديمقراطيون في عهد الرئيس جو بايدن، حزمة مساعدات أخرى يبلغ مجموعها حوالي 1.9 تريليون دولار من شأنها تعزيز إعانات البطالة وضمان مدفوعات التحفيز وتحفيز المعركة ضد الفيروس.
لكن حزمة الإجراءات تلك ليست مصممة على المدى الطويل، ولا تزال هناك مشكلة كبيرة: في ديسمبر/ كانون الأول، أفاد واحد من كل خمسة أمريكيين بتأخره عن دفع إيجار السكن. تشير التقديرات إلى أن 30 إلى 40 مليون شخص في الولايات المتحدة قد يتعرضون لخطر الإخلاء. تم تمديد التجميد الوطني لعمليات الإخلاء هذه حتى يونيو/ حزيران في أواخر مارس، قبل يومين من الموعد النهائي. بالنسبة للكثيرين، قد يكون هذا كله بعد فوات الأوان. التشرُّد أو العيش بلا مأوى، أيًا كان ما تريد تسميته، ليس مجرد مسألة طارئة في أفلام مثل نومادلاند، بل مشكلة حقيقية. ففي حين تزداد طوابير المحتاجين إلى المساعدة في بنوك الطعام، أضاف أغنى 100 شخص في أمريكا 600 مليار دولار إلى ثرواتهم في عام 2020. أمريكا، وهذا واضح تمامًا، ليست بلدًا جميلًا إذا لم يكن جيبك محشوًا بالمال الكافي.
يُظهر فيلم ساوند أوف ميتال، المرشح أيضًا لستة جوائز أوسكار، مدى صعوبة أمريكا، وإن كان يفعل ذلك لفترة وجيزة فقط، لأن الموضوع الحقيقي للفيلم هو البحث الداخلي عن الوجود. روبن (ريز أحمد) عازف درامز لا يهدأ، ينتقل من مدينة إلى أخرى، مع صديقته ومطربة الفرقة، في مقطورتهما المتنقلة، دائمًا في طريقه إلى الحفلة التالية للثنائي، حتى يعاني فجأة من فقدان السمع، ولا يغطّي التأمين عملية الإنقاذ المفترض. ولأن القصة الأمريكية العظيمة تدور دائمًا حول اللعبة الأبدية للخسارة والفوز، يتعيَّن على روبن أن يأخذ مصيره بيديه ويخاطر بكل شيء في النهاية. الفيلم رائع، لكن دون اهتمام أعمق بقضية العوز والفقر في أمريكا.
حدود وجودية
هيلبيلي إيليجي، الفيلم المقتبس عن رواية للكاتب ورجل الأعمال الأمريكي جيه دي فانس حملت الاسم نفسه يستعيد فيها طفولة مشوّهة في منطقة حزام الصدأ الموبوءة بالمخدرات والمنكوبة بالفقر وتدهور الأحوال الاجتماعية، يتجنّب كذلك طرح الأسئلة المنهجية. الإجابة في دراما رون هوارد الاجتماعية (رُشّحت لجائزتي أوسكار) حول كيفية الخروج من البؤس، تأتي في نسخة أمريكية بامتياز، تبدو مُضلِّلة بقدر تلألؤها: بالعمل الجاد والتضحية الكاملة بالنفس، أمريكا تجعل كل شيء ممكنًا.
يأخذ المخرج الأمريكي-الكوري لي إيزاك تشونج وجهة نظر مختلفة عن جاذبية الحلم الأمريكي في فيلمه الرقيق ميناري (المرشح لست جوائز أوسكار)، حول أسرة كورية مهاجرة مكونة من أربعة أفراد (أب وأم وولدين) تحاول بناء حياة جديدة في أراضي أركنساس القاحلة في الثمانينيات. جاكوب (ستيف يون)، بعد عقد من العمل بوظيفة تحديد جنس الكتاكيت في كاليفورنيا، حصل على ما يكفي من المال لشراء قطعة أرض، بغرض بدء عمله الخاص في إنشاء مزرعة خضروات كورية للتخديم على احتياجات المجتمع الكوري المتنامي في الولايات المتحدة. العملية طموحة، والأحلام كبيرة، وجاكوب لديه ما يكفي من الضغوط في مغامرته في أرض الفرص والأحلام. من المفترض أن تساعده أمريكا على تحسين حياته أولًا، حتى يجد أطفاله في يوم من الأيام مستقبلًا أفضل.
في المشهد الافتتاحي للفيلم، يذهب الزوجان إلى بيتهما الجديد في سيارتين منفصلتين. على حافة قطعة أرضه التي اشتراها حديثًا في وسط اللا مكان، تربض حاوية منتصبة على عجلات، ستكون منزل الأسرة الجديد، حيث سيتعيّن عليهم نسيان وسائل الراحة النموذجية لحياة المدينة. كمُشاهِد، يتطلَّب الأمر قدرًا كبيرًا من الخيال والكثير من الاستبصار لتخيُّل ذلك الحقل الأجرد وقد استحال مساحات خضراء مورقة ستغذّي أربعتهم يومًا. على الفور، تساور زوجة جاكوب، مونيكا (هان يي ري)، شكوك. خاب أملها في زوجها، الذي تراه أكثر سذاجة من الحالمين، وأقل ذكاء من روّاد الأعمال الناجحين.
فوق كل ذلك، وهذا هو جوهر ميناري الأساسي، هذا الرجل المغامِر المنذور للفشل، من بين عديد من القصص الأمريكية المماثلة، يغيب عن نظره، في أثناء انغماسه لتحقيق حلمه الأمريكي، كلّ من زوجته وطفليه وحتى حماته، التي انضمت إليهم لضبط أشرعة سفينة الأسرة في مواجهة ضربات متتالية. يفقدون بعضهم البعض أثناء بحثهم عن هوية ومسارٍ خاص في أرض أجنبية. رغم ذلك، فلدى جاكوب شيء لا يمكن لهاكلبري فين ولا فيرن نومادلاند ولا أبطال الأفلام الأخرى التمسُّك به وقت حاجته: عائلة. العائلة أسطورة مركزية مؤسسة في فكرة الحلم الأمريكي والتجربة الأمريكية ككل. هنا أيضًا، تغذّي العائلة ميلًا أمريكيًا قديمًا وقائمًا، كركن أساسي في تشييد ملحمة اجتماعية سينمائية على طراز جون فورد، المعلم الأمريكي القديم المحافظ والرائد.
لكن في بحثه عن نبرة ودودة تظهر فيها الدعابة بشكل منتظم، يتجنّب المخرج الخوض في جوانب معينة كان من الممكن أن تجعل القصة أكثر قسوة. مثلًا، بالكاد نشهد علاقة الأسرة بجيرانهم، وعندما يحدث ذلك، يأتي في صورة "كيوت" من فرط مودتها وبراءتها، كما لو لم يكن هناك تحيزات في ذلك الوقت تجاه المهاجرين، في وقت انطبعت فيه أمريكا بأفكار رئيسها اليميني رونالد ريجان وشهدت صعود نزعات قومية معادية للأجانب والمهاجرين. بالمثل، لا يعطي الفيلم أي لمحة طوال مدته إلى تجربة الأطفال في المدرسة. يتجنب ميناري أيضًا استكشاف المسؤولية السياسية في أسباب صعوبة أن تكون فقيرًا تبحث لنفسك ولأسرتك عن قطعة أرض في الولايات المتحدة.
قبل سنتين، غادرني أحد أصدقائي إلى الولايات المتحدة بعد حصوله على الجرين كارد؛ أسباب الخروج من مصر كثيرة وغير خافية، لكن ما أثار اهتمامي أكثر من غيره كان اختياره أمريكا موئلًا مستقبلًا لعيشه وحياته؛ أخبرني صديقي برغبته في الابتعاد عن "الخرابة الكبيرة اللي اسمها مصر" وشمّ هواء جديد في بلدٍ "كبير وواسع ومتنوّع" ومفتوح أمام الاحتمالات... بالتأكيد تطوَّرت الولايات المتحدة جغرافيًا منذ فترة طويلة، لكن الحلم الأمريكي الآن لم يعد يختبر سوى شيئًا واحد فقط: حدوده الوجودية.