يرسم الكاتبان أحمد بهاء الدين ولطفي الخولي، رغم انتمائهما لتيارين مختلفين، صورتين متشابهتين للرئيس الراحل السادات، عبر علاقتهما الشخصية معه وتحليل مواقفه وسياساته. الأول في كتابه "حواراتي مع السادات"، والثاني في كتابه "مدرسة السادات السياسية".
تلتقي الصورتان عند بعض السمات الأساسية للسادات، أولها الفهلوة، وثانيها عقدته تجاه ناصر بشخصيته القوية وثقافته، وثالثها الضحالة الفكرية وادعاء الثقافة، ومحاولة التقاط بعضها عبر جلساته الطويلة مع مثقفين وكتاب ومفكرين، بدلًا من القراءة والبحث والاطلاع.
بهزيمة 1967 تبدأ موجة من الأفلام المصرية في تناول حقبة عبد الناصر بنقد للاستبداد والفساد والمحسوبية وإن كان أغلبها بشكل رمزي. ستمتد وتتسع هذه الموجة بعد ناصر، ودخول السادات في صراعه مع ما أسماه بمراكز القوى، وترحيبه بهذه الأفلام لتشويه عهد سلفه، وليبدو ديمقراطيًا.
لكنَّ هذه الموجة من الأفلام ستنقسم سريعًا لموجتين؛ الأولى أفلام النقد السياسي والاجتماعي، والثانية ما ستسمى لاحقًا بـ"أفلام الكرنكة"، نسبة لفيلم "الكرنك" (1975) لعلي بدرخان، باعتباره ذروتها. وستحمل بشكل متكرر أسماء عدد من الكتاب والمنتجين والمخرجين، من بينهم الضابطين السابقين في الجيش والشرطة جمال وممدوح الليثي، ونجيب محفوظ، والمخرج حسين كمال.
لم تحمّل موجة النقد أشخاصًا بعينهم مسؤولية الانهيار، بل سعت إلى طرح تساؤلات جادة عن طبيعة النظام ككل، وأزماته ومساره، قبل وبعد عبد الناصر. أما موجة الكرنكة فاعتمدت على تحميل كل الخيبات والهزائم والجرائم لأشخاص معينين، إما ناصر مباشرة، أو المحيطين به من رجال أمن ومخابرات. ليبدو عهد السادات في المقابل نورًا في مقابل هذا الظلام، وخلاصًا لمجتمع فسد وعمّه الخراب.
لحسين كمال مكانة خاصة بين مجموعة الكرنكة، لأنه صاحب أول فيلم يبرز من بينها "شيء من الخوف" (1968)، ومخرج عدد من أفلامها مثل "ثرثرة فوق النيل" (1971)، وصولًا لأواخر السبعينيات، لما بعد انحسار الموجة، بفيلم "إحنا بتوع الأوتوبيس" (1979). بالرغم من أن أول أفلامه الهامة؛ "البوسطجي" (1968)، انتمى للموجة الأخرى.
ولأن أفلام حسين كمال المبكرة اتسمت غالبًا بالمباشرة والاعتناء بالشكل، حتى وإن تناولت مسائل اجتماعية ليس لها علاقة بالسياسة، يبدو "إمبراطورية ميم" من بينها كفيلم بريء، مجرد كوميديا عائلية مصنوعة على عجل، لا يستهدف سوى ضحكاتنا على مواقف عائلية وأداء الأم، فاتن حمامة، العصبي أحيانًا.
لكنَّ موضوع الفيلم، الذي لا يبتعد عن السياسة، وتوقيت انتاجه، واختلافه عن بقية أفلام حسين كمال في هذه المرحلة، وخطابه السياسي الركيك والمتطابق تقريبًا مع تصورات السادات السياسية والثقافية، تدفع لقراءته دون هالة البراءة التي لازمته، وباعتباره يكاد يكون فضفضة السادات معلبة في فيلم.
في 1972؛ لحظة الصدام الأعنف بين النظام والحركة الطلابية، يُنتج الفيلم المأخوذ عن قصة إحسان عبد القدوس، الذي كان أيقونة للضباط الشباب قبل ليلة 23 يوليو 1952، واصطدموا به لاحقًا وسجنوه وأهانوه، ويحمل توقيع نجيب محفوظ باعتباره من أعد القصة سينمائيًا.
ولأن السادات شخصن صراعه مع حركة سياسية احتجاجية، عبر استدعائه المتكرر في خطاباته لأسماء بعض قياداتها، ووصفهم أحيانًا بأنهم أبناؤه وأحيانًا أخرى بأنهم يفتقدون التربية الحسنة، وبدخوله في مشاحنات علنية معهم، يتبنى صناع الفيلم هذه الشخصنة، ويتبنون أيضًا مهمة التسفيه من الحركة.
من بين الأبناء تبرز شخصية مصطفى (سيف أبو النجا)، الطالب الجامعي المهتم بالسياسة، باعتباره القائد والمؤهل ليكون ندًا للأم منى (فاتن حمامة). ليس فقط لأنه الابن الأكبر، بل لأنه حسبما تصفه الأم المسيس والمتفلسف.
وبينما لا نرى عادة الأبناء خارج البيت سوى لارتكاب "المصائب"، وتحديدا مرتين؛ حين يرتكب مدحت (هشام سليم)، مصيبة تقبيل خادمة صديقه في المصعد، وحين ترتكب مها (ليلى حمادة)، مصيبة الذهاب لبيت صديقها، تكون المرة الثالثة من نصيب مصطفى والحركة الطلابية في الجامعة.
بمضمون ركيك يتطابق مع تصور السادات لهذه الحركة؛ يقف مصطفي ليخطب في مجموعة من زملائه من الفتيات والفتيان الجالسين، أو المتراصين في صف طويل أمام الكاميرا، عن أهمية الحرب والبناء، فتسأله إحداهن عن دور النساء في هذه المرحلة، إن كان الفرجة على الرجال أم الهتاف، وكأن هاتان المهمتان هما الوحيدتين المتاحتين للنساء، فيجيبها أحد الذكور بـ"إنتو تتجوزونا وبس". فتنتهي صورة الحركة الطلابية في مشهد وحيد بضحك جماعي على هذه التفاهة.
في مقابل التفاهة والاستهتار هناك الأخلاقيات. فالمجتمع، كما يراه السادات وتراه الأم، يعتمد على الأخلاق، التي سيطورها السادات لاحقًا وسيسميها "أخلاق القرية"، في صورة أكثر محافظة من لحظة إمبراطورية ميم التي تبدوا وكأنها تتسم ببعض الليبرالية.
فالأم تثور بعنف فيما يخص ملابس بناتها وعلاقاتهن، لكنها لا تثور حين يبادر مدحت بفعل جنسي في المصعد، بل تتركه لمصطفى كي يتحمل مسؤولية القيادة. لكنه، وكنموذج من الحركة الطلابية، يفشل في حل المشاكل، ويقدم لأخيه نصيحة باهتة، وربما تكون مدمرة؛ "اتصرف زي ما أنت عايز لحد ما تعلم نفسك.. خوض تجربتك لنهايتها". فديمقراطية مصطفى في النهاية ليست سوى معادل للفوضى؛ أن يفعل كل شخص ما يريده حتى وإن دمروا ذواتهم، مثلما يدخل البيرة للمنزل يوم حفلة الانتخابات. فهو لا يملك سوى السفسطة، والكلام المتناقض، وبعض الوقاحة في مواجهة السلطة.
ترث الأم السلطة الأبوية لتكتشف فجأة الخراب، فكل ابن من بين أبنائها لديه مشكلة، أو عطب ما، ينبغي إصلاحه، بالإضافة لتردي العملية التعليمية والفساد في وزارة التربية والتعليم التي تعمل بها كمديرة. ويتأكد هذا الخراب الشامل عبر خطاب ابنها عن الفساد المنتشر في كل جوانب المجتمع، بسبب الاعتماد على سلطة الفرد.
لا يتوقف السادات في خطاباته عن التأكيد على الخراب الذي ورثه توًا من عبد الناصر، ويرفض فردية اتخاذ القرار، دون طرح أي تصور حول الجماعية البديلة، مثله مثل الابن، ومثل الأسرة المرفهة التي تحمل حرف الميم فتبدوا معادلًا لمصر، لكنها تعيش في فيلا في الزمالك، وتتحدث عن الخراب المجتمعي والتعليمي والأخلاقي دون أي رؤية، فيما عدا الإيحاء بأنه خراب آتٍ من أسفل وعلى الأغلب سببه النساء.
فالإهمال في التعليم سببه المعلمات ومديرات المدارس، اللاتي يتم تصويرهن سمينات ويفعلن أي شيء في المدرسة إلا التعليم، والخراب الأخلاقي سببه خادمة الصديق التي أغوت المراهق مدحت.
تصف الأم نفسها بربة الأسرة، فتصبح المعادل الدرامي للسادات الذي يتصور نفسه رب العائلة الكبيرة مصر. هي تواجه ثورة في المنزل، بالتوازي مع الثورة التي يواجهها السادات في الجامعات، بينما كلاهما يدير المنزل/ البلد لتحقيق مصلحة أفرادهما. لكن هؤلاء الأفراد حمقى، أطفال، أو "بتوع لعب عيال" مثلما يتم وصفهم في حوارات الفيلم، لا يُقدرون جهد الأب السياسي، أو الأم معادله الدرامي، ولا يقدرون تضحياتهما من أجلهم.
لكننا نكتشف في المشهد الأخير من الفيلم أن هذه الثورة، والانتخابات المزمع إجراؤها، كانت مجرد مسرحية هدفها الوحيد إشهار حب الأبناء للأم، ورضاهم بسلطتها. وهو ما لا يبتعد عن خطابات السادات حول القاعدة الطلابية السليمة، وأن "أبناءه الطلاب" يحبونه ويحترمونه، ولأنه أبيهم، العارف بمصلحتهم، ولافتقادهم النضج، يتمردون عليه مرحليًا، وحتمًا سيعودون لحبه ولسلطته.
كلمات الأم هذه تلخص تصورات السادات، فالحرية عنده لا ينتج عنها الإحساس بالمسؤولية، بل العكس، يجب أن تنضج وتكون مسؤولا أولًا، وساعتها سننظر في مسألة حريتك
تأكيدًا على سلامة القاعدة الطلابية ترد سيرة مراكز القوى في حوار سريع، ويتم ربطها برأس المال، أو امتلاك الأموال وترجمتها لنفوذ سياسي. يرفض مصطفى مراكز القوى، لأنه في النهاية ابن وفي للنظام وواع بالصعوبات. ويرفض أيضًا التظاهر، فحسبما يقول "المظاهرات عمل غير مشروع.. غير بناء.. مجرد إبداء رأي.. وماما (أي السلطة) عارفة رأينا كويس".
في هذه المعادلة بين رفض السلطة والقبول بها، بل وإعادة اختيار القاعدة لها كي تحكمها، يظهر الحب كدافع ومبرر لممارسات السلطة، حتى وإن لجأت للعنف أحيانا. فالعنف في البيت سببه الخوف على مصلحة الابنة أو الابن، فتندفع الأم لضرب ابنتها وتكسير جيتار ابنها.
وخارج البيت، وبناءً على تصورات السادات المجتمعية والسياسية، فإن عنف السلطة أوقف تهور أبنائه، ومنعهم بضوضائهم من تخريب استراتيجياته العميقة في البناء والحرب.
تضحي الأم بالحبيب، أحمد (أحمد مظهر)، فأبناؤها كثيرون، يحتاجونها، ويأخذون كل طاقتها، وليست في مرحلة تسمح بالتخلي عن مسؤوليتها تجاههم. والحب هو المسؤولية في نظر السادات الذي اعتاد أن يشير لمحاوريه ضمنًا أو صراحة أنه لم يسع للسلطة، فالسلطة وجع دماغ وتضحية براحة البال، لكنه اضطر لقبولها بعد موت ناصر كونه الوحيد القادر على تحملها.
سلطة السادات أمام نفسه وأمام المجتمع هي سلطة الوسط، الاعتدال، فهو ليس يساريًا أو يمينيًا، بل المعبر عن المعنى الديني والمحافظ "خير الأمور الوسط"، في احتقار واضح للانتماءات الأيديولوجية وتعالٍ عليها.
ينعكس هذا التصور نفسه في خطاب الأم، واصفة بناتها باستنكار بـ"واحدة طالعالي يمين والتانية طالعالي شمال". أما الأم الوسطية التي تضحي بسعادتها من أجل العائلة/ الشعب، فهي تحمي الأخلاق دون تزمت، وبواقعية تبدو أقرب للبراجماتية، فبما أنها تفتقد للقدرة على منع الابنة من لقاء حبيبها خارج المنزل، تدعوه للبيت كي تراقبهما. مثلما فعل السادات مع بعض اليساريين؛ احتفظ بهم بقربه مرحليًا كي لا يعودون للعبة التنظيمات السرية. وهي نفس براجماتية حبيب الأم، أحمد، في عقد الصفقات مع البلاد الرأسمالية. فتبدو البراجماتية السينمائية كترجمة لبراجماتية السادات وبنفس الكلمات، ففي العمل ليست هناك اشتراكية أو رأسمالية، السوق والتبادل للجميع. على نفس درجة بساطة وسطحية رؤية الرئيس لسياسة الدولة المسؤول عنها.
لا تفقد الأم المطحونة بين ستة أبناء ومشاكل الوزارة يقظتها، أو حس الفهلوة، فهي مثل الرئيس تعرف كل شيء، ولا تفوتها صغيرة أو كبيرة، تتابع كل التفاصيل المتعلقة بأبنائها، بداية من عد السجائر عند دخولها البيت لمعرفة عدد ما سرقه الإبن منها، وصولًا لحل الأزمة العاطفية للابنة الكبرى.
وبينما تضحي، هي والرئيس، بالراحة والسعادة من أجل الآخرين، يتصرف هؤلاء الآخرون بأنانية. فبالرغم من إيمانهم المزعوم بالحرية، لا يرحبون بارتباطها وزواجها برجل آخر سيشاركهم البيت. فهم متناقضون، مثل هؤلاء الطلاب الذين أشعلوا الجامعات والمجتمع صخبًا، واحتلوا أكبر ميادين البلد من أجل الحرية والعدالة وحرب التحرير، لكنهم ليسوا ديمقراطيين ولا يبغون الحرية فعلًا، هم يريدونها لمصلحتهم ولتسييد الفوضي.
"عشان تكون كفء للحرية.. لازم يبقى عندك إحساس بالمسؤولية". كلمات الأم هذه تلخص تصورات السادات، فالحرية عنده لا ينتج عنها الإحساس بالمسؤولية، بل العكس، يجب أن تنضج وتكون مسؤولا أولًا، وساعتها سننظر في مسألة حريتك. ولحين حدوث ذلك ستظل الحرية مجرد كلام، أو ثورة مؤقتة على الأم/السلطة ثم القبول بسلطتهما، أو تكسير جدران سجن أمام كاميرات التليفزيون كي نبني سجنًا جديدًا.