تصميم: أحمد بلال - المنصة

"السباحتان" في مرآة "قطار منتصف الليل"

نوايا التضامن الطيبة وحدها لا تكفي

منشور الثلاثاء 17 يناير 2023 - آخر تحديث الثلاثاء 17 يناير 2023

في حوار صحفي نشر قبل أسابيع، أشارت الممثلة اللبنانية منال عيسى بطلة فيلم السباحتان، وهو من إخراج سالي الحسيني وإنتاج 2022 عن رحلة خروج السباحتين يسرى وسارة مارديني من سوريا، إلى ما أسمته بعنصرية جهة الإنتاج.

أوردت الممثلة عددًا من الممارسات منها ما يتعلق بفوارق الأجور، ومبررات عمل الفيلم، وظروف الإنتاج، بالإضافة إلى فرض الإنجليزية كلغة أساسية للحوار بدلًا من العربية باللهجة السورية، على اعتبار أن الأولى ستمنح الفيلم "أناقة" لا تمنحها اللغة العربية، من وجهة نظر المنتجين.

***

في نهايات 1996، أو بدايات 1997، عرض لنا أستاذنا في مادة التذوق السينمائي بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة، فيلم قطار منتصف الليل، الذي أخرجه آلان باركر عام 1978.

كنا في السنة الدراسية الأولى في المعهد، حيث جزء كبير من المواد والمحاضرات مشترك بين الأقسام المختلفة. كان بيننا ثلاث طالبات محجبات، لا أتذكر في أي قسم كن. لكنني أتذكرهن جيدًا، حيث لم يكن الحجاب منتشرًا أيامها بين دارسات الفنون.

وأكثر ما أتذكره هو وجه أستاذنا واقفًا أثناء مناقشة الفيلم، ينظر إليهن من حين لآخر بتحدٍّ، ليكرر جملة لبطل الفيلم موجهة للأتراك، بعد تعديلها قليلًا "أنتم لا تأكلون الخنازير لأنكم إن أكلتموها ستأكلون بعضكم بعضًا". وزميلاتنا الثلاث يتطلعن إليه في صمت، دون أن يشاركن في المناقشة.

يتناول الفيلم بضع سنوات من حياة الشاب الأمريكي بيلي، الذي يزور تركيا للسياحة بصحبة صديقته، وقبل خروجه منها يحاول تهريب قطع كبيرة من الحشيش بلصقها حول جسده، فيقبض عليه بالصدفة في مطار إسطنبول ويحكم عليه بالسجن، وتتوالى معاناته هناك وصولًا لهروبه بالصدفة بعد أن يقتل مأمور السجن.

حين وقف بيلي في المحكمة، لم يقل جملة أستاذنا بالشكل الذي كرره أمامنا، كانت عبارته موجهة للقاضي وللجميع "من الغريب أن تكونوا مجتمعًا من الخنازير وألا تأكلوا الخنازير.. أنتم وأولادكم خنازير.. جميعكم خنازير".

مشهد المحاكمة من فيلم قطار منتصف الليل


يحاول الفيلم فضح المجتمع التركي كمجتمع قائم على الأكاذيب، وفضح نظامه العقابي باعتباره فاسدًا، وفضح القائمين عليه باعتبارهم مرضى يستمتعون بممارسة سوء المعاملة والتعذيب.

يناضل بيلي كي ينجو من "مزبلة الخنازير" تلك، ولأنه يحاول أن يظل عاقلًا بين المجانين، ولسوء حظه، يعاقبونه بحبسه في عنبر المجانين، حيث لا يوجد في هذا المكان الأشبه بالجحيم سوى بقايا بشر يطوفون حول كعبة قاموا ببنائها في العنبر طواف وهيام مستمران، دون معنى أو هدف، حول كعبة تتمثل في عامود حجري كبير منتصب في منتصف المكان، بينما يتكرر صوت الأذان الكابوسي خلال الفيلم ليحدد إيقاعه!

لا نعرف تفسيرًا دراميًا لنقاء بيلي، أو لترفعه الأخلاقي، بالرغم من كونه مجرد مهرب مخدرات. ولم نجد تفسيرًا لتفوقه الذي يمنحه ميزة إلقاء الخطب الاستعلائية والعنصرية على هذا المجتمع، مثل جملته في المحكمة التي دفعتنا للتعاطف معه كمتفرجين، سوى أنه يتحدث الإنجليزية التي تبدو أكثر رقَّةً من التركية، وأن بشرته بيضاء، وانتمائه للغرب.

كانت هذه السمات الوحيدة التي تمنحه، هو والآخرين من زملائه الغربيون في السجن، هذا التميز. فأيًا كانت جرائمهم، يبدون وكأنهم من جنس أكثر تطورًا ونقاءً وتحضرًا. وهو نفسه ما يؤسس لصداقتهم في السجن في مواجهة عالم كامل مسلم وشرقي، همجي ومتوحش، جميع أفراده أشكالهم قبيحة، يعانون من سمنة مفرطة، وتتأرجح الدهون على جوانب أجسادهم بما فيهم الأطفال الصغار، البادين كخنازير صغيرة، من كثرة القذارة والفساد.

***

شاهدت فيلم السباحتان قبل أن يُنشر حوار بطلته. انفعلت شعوريًا معه بالرغم من عدم إعجابي به سينمائيًا، مع إدراكي لركاكته، ولجوئه للميلودراما كي يدفعنا للبكاء. لكن دهشتي من هذا التناقض المتمثل في الانفعال البكائي رغم إدراك تواضعه الفني تضخمت بعدها بأيام؛ أرسلت لي صديقة سينمائية سورية، لم تغادر مدينتها ولم تسعَ لذلك، تعليقها القصير والمقتضب على الفيلم، "حسيت إنو بحضر فيلم عن ناس تانيين، فيلم أمريكي عن ناس تانيين، فيلم مصطنع".

بالرغم من اتفاقنا معًا، وغالبًا اتفاق آخرين معنا، في مسألة عدم الراحة تجاه الإنجليزية كلغة للحوار بين شخصيات سورية، إلا أنني لم أجد في هذه اللحظة تفسيرًا لهذا الاختلاف الكبير بيننا في تلقي الفيلم؛ تأثري به وبرودها تجاهه، سوى في سبب خارجي، وهو كثرة مشاهد وقصص اللجوء السوري ومآسيه التي نتلقاها يوميًا نحن المقيمين في أوروبا، خلال الأعوام الأخيرة.

ترايلر فيلم السباحتان


لكنَّ هذا السبب لا يكفي للتفسير، ويحمل مقومات انهياره في لحظات، بل إنه من المحتمل أن تكون علاقتها بالفيلم أكثر منطقية وتيقظًا، فتلقي الأخبار المتعلقة بالمأساة السورية جالسًا على كنبة في مدينة أوروبية أمام التليفزيون، يختلف تمامًا عن تلقيها كجروح في الروح والجسد حين تخص القصص الأقارب والأصدقاء والأحباب، حتى وإن لم تغامر هي نفس مغامرتهم.

***

تم اعتبار آلان باركر عضوا في مجموعة هلامية ومتخيلة لم يؤسسها أحد، يمكن تسميتها تجاوزًا بمجموعة "المتمردين اليساريين في السينما الغربية واسعة الانتشار". وتدعم أفلامه هذا الانتماء المتخيل، وتمنح مصداقية وقبولًا لخطابات أفلامه دون رؤيتها بطريقة نقدية. لكن بإعادة مشاهدة فيلم قطار منتصف الليل بعد 25 عامًا، شعرت بنفس شعور السينمائية السورية؛ "فيلم غربي مصطنع عن شرقيين آخرين، وليس عن عالمنا".

اِعتُبر قطار منتصف الليل من أهم أفلام السبعينيات، فاز بجوائز هامة من بينها جائزتي أوسكار لأفضل موسيقى، وأفضل سيناريو مأخوذ عن عمل أدبي. هذه الجائزة الأخيرة تحديدًا تستحق التوقف أمامها، فالسيناريو لنجم آخر من نجوم التمرد والتقدمية، ينتمي لهذه المجموعة المتخيلة. لم يكن معروفًا وقتها على نطاق واسع، عُرف بعد فوزه بهذه الجائزة كسيناريست، وبدأ في إخراج الأفلام، وهو أوليفر ستون.

حاولت أن أجد تفسيرًا لحالة قطار منتصف الليل، فلم أجد سوى تفصيلة واحدة، ربما تكون صدفة، وهي إنتاجه بالتزامن مع تأسيس حزب العمال الكردستاني اليساري المسلح، بقيادة عبد الله أوجلان، في الأراضي التركية، والإعلان عن بداية عملياته ضد النظام التركي، فيبدو الفيلم وكأنه نوع من التضامن النضالي من قبل المخرج في فضح قمع السلطة التركية ونظامها العقابي.

بالعودة لمشاهدته، اندهشت. لم يكن الاندهاش المعتاد عند إعادة اكتشاف فيلم يعتبر كلاسيكيًا. كان منبع الدهشة هو أنه مبنيٌّ بشكل أساسي على نظرة وخطاب عنصريين تجاه جنس ودين محددين. ولأن رؤيته العنصرية، على حسب علمي، لم تثر استنكارًا وقت صناعته.

لكنَّ الدهشة الأكبر كانت أننا، نحن طلاب المعهد في النصف الثاني من التسعينيات، المتيقظين والباحثين عن الهفوات بحكم بداية دراستنا، لم ننزعج من الفيلم إن لم تخُنُّي الذاكرة، ولم ننتبه إلى الضيق الذي انتاب زميلاتنا المحجبات، وربما غيرهن. ولم ننتبه إلى أن الانتماء لمجموعة هلامية نراها كيساريي السينما العالمية ومتمرديها، ونواياهم الطيبة، لا تحمي من الوقوع في فخ الخطابات العنصرية.

أناقة وتفوق اللغة الإنجليزية في حالة فيلم السباحتان، وأناقة وتفوق نفس اللغة في حالة قطار منتصف الليل، تلتقي، ولو مصادفة، مع نفس المدخل الكلاسيكي الذي استخدمه المستعمرون الأوروبيون، ضمن أدوات أخرى، طوال قرون في كل البلدان التي احتلوها ودمروا شعوبها. فاللغة تحمل بالضرورة الثقافة والمنظومة الفكرية والدينية والتصورات الجنسانية لصاحبها.

فإذا كانت اللغة أكثر رقيًا أو تفوقًا أو أناقة، يصبح بالتبعية ما تحمله أكثر رقيًا وتفوقًا وأناقًة، وإن كنا نجهل لغات الآخرين، ولا نعرف منها إلا بعض الأصوات المتداخلة، فمن الممكن أن نتصور أن لغتنا أكثر رقيًا أو رقًة.

ما ينطبق على اللغة من الممكن أن ينطبق على الفنون والعادات والتقاليد والثقافات والديانات وغيرها. فبعيدًا عن التعريفات الدقيقة لكلمة عنصرية، ربما يكون منتجو فيلم السباحتان غير عنصريين، وربما تعاطفوا حقًا مع مأساة الشتات السوري ومآسي محاولات الخروج، وكان لديهم نيات طيبة، وربحية طبعًا، تقف وراء قرار إنتاج الفيلم.

لكنهم، وباستخدام كلمة "ربما" مرة أخرى، أرادوا الحديث عن آخرين لا يعرفونهم جيدًا، وجعلهم أكثر أناقةً عبر لغة مختلفة عن لغتهم الأصلية، فلم ينتبهوا لهذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين التضامن والتعاطف من جهة، والتعالي الناتج عن عدم الفهم، مثلما كانت كلمات بيلي العنصرية تصدح بأناقة مع صدى الصوت في قاعة المحكمة التركية الفظة.