في27 مارس/آذار الماضي، بثت منصة نتفليكس السلسلة الوثائقية الوصية: قصة النبي موسى، وفي غضون خمسة أيام حصد العمل 13.5 مليون مشاهدة، وصعد إلى المرتبة الثانية بين أعلى 10 أعمال مشاهدة على المنصة، ورغم هذا النجاح، لم يفلت العمل من سهام النقد اللاذع؛ لأسباب دينية وتاريخية.
السلسلة الوثائقية من إنتاج أمريكي تركي مشترك، ومن إخراج بنجامين روس، وتروي في ثلاثة أجزاء قصة النبي موسى؛ وفقًا لرواية الديانات الإبراهيمية الثلاث، عبر مزيج من مقابلات مع رجال دين ومؤرخين، إلى جانب مشاهد تمثيلية، أدّاها فريق من الممثلين، على رأسهم ثلاثة إسرائيليين: آفي أزولاي في دور موسى، وإيشاي جولان/هارون، وريموند آمسالم/مريم، والممثل التركي محمد كورتولوش، الذي جسد شخصية فرعون.
لا يزال العمل الوثائقي يثير الكثير من الجدل في مصر، على خلفية انتقادات طالت الدقة التاريخية، تبعها نقاش محتدم حيال جدلية العلم والدين. الدكتور زاهي حواس وزير الآثار الأسبق كان له من هذه الضجة نصيب كبير، فبعدما أكّد أن ليس ثمّة دليل تاريخي أو أثري يدعم الرواية التوراتية، ووجود اليهود في مصر، تراجع محاولًا ضبط الصورة الإعلامية تحت وطأة الهجوم اللاذع.
عاد حواس مهادنًا في تصريحات متلفزة ليقول إن الكم المكتشف من الآثار لا يربو عن 30%، فيما لا تزال 70% مدفونة في باطن الأرض، ولربما توجد بينها أدلة تدعم الرواية الدينية. الهجوم على حواس، منبته أن الرواية القرآنية أيضًا تتبنى قصة قريبة إلى الرواية التوراتية، وحكاية موسى في الأصل هي قصة مركزية في الديانات الإبراهيمية الثلاثة، لكن لا تدعمها أدلة أثرية وتاريخية دامغة، حسب أثريين تحدثوا لـ المنصة.
جدلية العلم والدين
يروي سفر الخروج/العهد القديم، أحد الأسفار المقدسة في الديانتين اليهودية والمسيحية، قصة استعباد بني إسرائيل في مصر، ثم ميلاد موسى وحكايته مع ملك مصر، كما ورد ذكر القصة نفسها في القرآن في أكثر من عشرين سورة، أهمها البقرة والأعراف وطه والشعراء والقصص.
اكتشف الأثري الفرنسي فرناند بتري لوحة مرنتباح وسمّاها البعض لوحة إسرائيل
رغم أن الرواية الدينية تقطع بوقوع هذه الأحداث، فإن علم التاريخ لا يؤكدها؛ نظرًا لأنه يعتمد منهجية قائمة على جمع آثار وسجلات ووثائق، ومن ثم نقد المعلومات وتنقيحها؛ للوصول إلى أدق المعلومات عن فترة تاريخية ما، وهو ما لا يتوفر للباحثين عن قصة النبي موسى في الرواية الدينية.
وهنا يقول الدكتور زاهي حواس لـ المنصة "لا يوجد بالفعل دليل أثري، حتى الآن، يؤكد الوجود اليهودي في مصر القديمة"، لافتًا إلى أنّ لوحة مرنبتاح تعد الأثر الوحيد الذي يُحتمل أن يحمل إشارة لبني إسرائيل في التاريخ المصري، إذ إنها تتضمن كلمة "يسيرارو" التي ترجمها البعض بـ"إسرائيل"، فيما شكك آخرون في صحة هذه الترجمة.
اكتشف الأثري الفرنسي فرناند بتري لوحة مرنبتاح، التي تتحدث عن انتصارات الملك مرنبتاح، عام 1896 في خرائب بمعبد مرنبتاح الجنائزي في القرنة بطيبة الغربية، وسمّاها البعض لوحة إسرائيل. وزعم علماء اللغة والآثار أن كلمة "يسيرارو"، المذكورة في السطر 27 من اللوحة، تعني إسرائيل. وترجمها مكتشف اللوحة "قوم إسرائيل قد أُتلفوا، وليس لديهم غلة أو بذر". أما عالم المصريات الأمريكي جيمس هنري برستد فترجمها هكذا "لقد أبيدت إسرائيل واستؤصلت". في المقابل، يشير آخرون إلى أن الاسم يشير إلى قبيلة هزمها الملك مرنبتاح، وليس شعب إسرائيل وفقًا للتصور التوراتي.
خيال واقعي
بالعودة للسلسلة الوثائقية، يؤكد حواس لـ المنصة أنّه رفض عرضًا بالمشاركة بها معلقًا، تخوفًا من تزييف تعليقاته العلمية لخدمة السياق الدرامي، الذي يهدف لتسويق الوجود اليهودي في مصر، مستنكرًا في الوقت ذاته مشاركة عالمة المصريات المصرية مونيكا حنا في السلسلة الوثائقية معلقةً.
الدكتورة مونيكا حنا هي عالمة مصريات بارزة، تشغل منصب عميدة كلية الآثار والتراث الحضاري في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، وشاركت في السلسلة الوثائقية بالتعليق، والمراجعة التاريخية أيضًا.
من جهتها، ترفض مونيكا اعتبار أن مشاركتها في السلسلة الوثائقية تناقض العلم أو تخدم أغراضًا دينية، تقول لـ المنصة "تعليقات المؤرخين جاءت بهدف إكمال صورة الدراما، ولم يقدم أي مؤرخ أي دليل يثبت أو يدحض السرد الدرامي".
اقتصر دور المؤرخين، ومنهم مونيكا، على شرح السياق المصري القديم أثناء هذه الفترة، وكذلك تصحيح الأفكار السائدة القائلة بأن العبيد هم بناة الأهرامات، "قلت بوضوح إنه لم يكن ثمّة عبيد في مصر، ولكنهم كانوا أسرى حرب" حسب مونيكا.
فرضية الخروج
من بين القضايا التاريخية التي طالما أثارت الجدل في قصة موسى، الربط بين سفر الخروج والملك رمسيس الثاني، على اعتبار أن سفر الخروج يشير إلى أن اليهود سُخروا في بناء مدينة بر- رعمسيس، التي أنشأها رمسيس الثاني، وبالطبع تبنت السلسلة الوثائقية هذه الفرضية.
تعتبر مونيكا السلسلة عملًا دراميًا مأخوذًا من الرواية الدينية، أقرب إلى نوع أدبي يعرف بـ"الواقعية الممكنة" أو "الخيال الواقعي" وهو أحد أنواع القصص الخيالية التي تكون أحداثها وشخصياتها واقعية ومؤثرة، لكن مع وجود بعض العناصر الخيالية التي تجعلها أكثر إثارة للاهتمام، لافتة إلى عدم وجود دليل أثري يثبت صحة القصة.
"الأدلة الأثرية تعدّ مصدرًا للتأريخ، بعكس الكتب الدينية التي لا تعتبر مصدرًا علميًا؛ إذ يجب الفصل بين العلم والدين، والنظر لكل منهما بمنظور مختلف"، تقول مونيكا مستبعدة اكتشاف آثار تدعم صحة الرواية الدينية مستقبلًا، "فكرة إن ثلثي الآثار المصرية لم يكتشف بعد طرح غير علمي بالمرة، مافيش تقدير لحجم المكتشف منها والمتبقي تحت الأرض".
غضب يهودي
لم يتوقف الجدل الذي أثارته السلسلة الوثائقية عند هذا الحد فقط، إذ أثار استخدام مونيكا مصطلح "سوريا وفلسطين" جدلًا واسعًا من شخصيات إسرائيلية على إكس، معتبرين الأمر يمثل "تحريفًا تاريخيًا خطيرًا، ومحاولة متعمدة لمحو الصلة التاريخية الغنية للشعب اليهودي بأرض أجدادهم".
فيما تعتبر مونيكا أن هذا المصطلح يُستخدم دون دلالات سياسية. ومن المؤسف أن مجريات السياسة الحديثة تؤثر على النهج العلمي؛ إذ إن في السياق الأكاديمي، يطلق العلماء اليهود أيضًا على منطقة الشام "سوريا وفلسطين".
إلى جانب النقد القومي الإسرائيلي للعمل، أخذت انتقادات اليهود منحى دينيًا أيضًا، حيث شنّ الحاخام شلومو ليتفين، مدير مركز الطلاب اليهود في جامعة كنتاكي، هجومًا حادًا على السلسلة الوثائقية، مؤكدًا أنه أحصى 430 خطأً في العمل، "يتعارض العديد منها بشكل صارخ مع التوراة".
ويرى ليتفين أن "التصوير السلبي للشخصيات الدينية موسى وهارون ومريم كان الأمر الأكثر ضررًا في القصة"، وعدّد في مقال بعض الأخطاء، من وجهة نظره الدينية، منها إلباس مريم أخاها موسى معطف جدّهم يوسف، بعدما أخرجته من خزانة قديمة، ما أثار سخرية الحاخام اليهودي باعتبارها واقعة غير حقيقية. وفيما يتعلق بالضربات العشر التي ضرب بها الرب مصر وفقًا للتوراة، أسقط العمل الضربة رقم 4 (الوحوش البرية)، حسبما جاء في سفر الخروج، كما لم يغفل ليتفين الإشارة أيضًا إلى مصطلح "سوريا وفلسطين".
حققت السلسلة الوثائقية مشاهدات كبيرة بالتزامن مع عيد الفصح، إلا أنها وقعت ضحية لصراع الفرقاء من المنشغلين بالسياسة، لا سيّما في ظل الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة، وزيادة الاستقطاب الديني والقومي.
أما جدلية العلم والدين فكانت الأكثر حدة؛ إذ رفض علماء المصريات تغليب الرواية الدينية على ما هو مُثبت من التاريخ، وهو ما أغضب المتدينين، ومن بينهم المسلمون، الذين اعتبروا أنّ موقف العلماء ينكر قصة موسى، التي اتفقت الديانات الإبراهيمية الثلاثة على خطها الدرامي الذي انتهى بخروج اليهود من مصر، وغرق الفرعون بعد أن شقّ موسى البحر بعصاه.