في سجن الواحات، زرع ألبير آريه (1930 - 2021) حديقة زهور جميلة، ومنحها وقته ورعايته وكأنه يسقي الزرع في بلكونة منزله بشارع البستان وسط القاهرة، بل كان يرسل لمأمور السجن باقة زهور منها كل يوم.
ربما يلخص ذلك الموقف العلاقة المعقدة والصادقة بين الشيوعيين وجمال عبد الناصر؛ يعتقلهم ويلقي بهم في الصحراء فلا يحيدون عن رأيهم بأنه حاكم وطني لكن أزمته "حب السلطة"، يؤمّم القناة فيهلّلون داخل الزنازين كأنهم جموع في مؤتمر جماهيري، يبني السد العالي فيبعثون له بخطابات تأييد وبرقيات تهنئة.. ويرد عليهم.
اُعتقل ألبير آريه في نوفمبر/تشرين الثاني 1953 لانخراطه في تنظيم "حدتو" الشيوعي، وقضى نحو 11 سنة ما بين السجن الحربي وسجن مصر وسجن الواحات وليمان طرة، وخرج في أبريل/نيسان 1964. لكن ما أزّم موقفه أنه كان يهوديًا، قبل أن يعتنق الإسلام لاحقًا في منتصف الستينيات كي يتزوج من الصحفية سهير شفيق، لكنه ظل معروفًا كأقدم يهودي مصري قبل رحيله في 15 أبريل 2021.
لطالما كانت هوية ألبير آرييه أزمة لكثيرين إلا هو "مصريتي أصبحت خياري الذي لن يستطيع أحد أن يسلبه مني". قاوم ألبير ضغوطًا لإخراجه من مصر، لكنه رفض الهجرة لأن "المرء لا يحمل وطنه في نعل حذائه" حسبما يستشهد بمقولة الثائر والمحامي الفرنسي جون دانتون.
مؤخرًا، خرجت سيرته الذاتية مذكرات يهودي مصري للنور، عن دار الشروق، فيما يزيد عن 400 صفحة من القطع الكبير، حررتها منى عبد العظيم أنيس. الكتاب حافل بالأحداث والقصص، ويتضمن شهادات عن شخصيات عرفها وتعامل معها، ولكن يبدو أن محررته لم تتدخل كثيرًا في الصياغة، إذ تشعر أنك تسمع صوت ألبير عبر الصفحات وهو يتحدث بعفوية وبشرح مفصل ودقيق، لكنه زائد عن الحد في بعض الأحيان وقد يتكرر سرده لقصة ما أو معلومة أكثر من مرة في الصفحة ذاتها، وهو ما يفسّر عدد صفحات الكتاب الضخم.
قُمصان طه حسين
ينقل لنا ألبير آريه صورة عن مصر منذ مولده عام 1930 بميدان الفلكي وسط القاهرة، وكيف اضطرت الأزمة المالية العالمية في عام 1929 أسرته للانتقال إلى شقة أخرى في شارع البستان، تلك التي سيعيش فيها حتى وفاته عن عمر يناهز 91 عام.
نعرف منه مثلًا أنه خلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، كان ثمة تقليد تتبعه الأسر المصرية بأن تستضيف عسكريًا أو ضابطًا من الجيش الإنجليزي أو من جيوش الحلفاء "كان من حظنا استقبال ميجور إنجليزي يهودي يتحدث الفرنسية، وكان يأتي ليجلس ويتحدث بالساعات ليحسّن من لغته الفرنسية، وأمي لم تكن تطيقه".
ويشير مثلًا إلى أن الجنيه المصري في مطلع الخمسينيات كان أقوى من الجنيه الاسترليني الذي عادل سبعة وتسعين قرشًا مصريًا آنذاك. ويروي أن والده جاك ألبير، صاحب محل "نيو لندن هاوس" بميدان مصطفى كامل، كان يتمتع بحس تجاري عالٍ، وأن الدكتور طه حسين كان من زبائن المحل، وكانت زوجته سوزان "تطلب دائمًا أن يتم تطريز حرفي اسمه .T.H على قمصانه... وكانت شخصية حادة جدًا والكل يتجنب التعامل معها، وتعترض دائمًا على طريقة تطريز الحرفين"، وكان وقتها التطريز يدويًا وليس بالماكينات.
لاحقًا، ظهر زبائن "نيو لندن هاوس" من السياسيين وضباط الجيش الذين تقلدوا مناصب بعد ثورة 1952، في حياة ألبير مجددًا، فبعد أن تعرض للاعتقال في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1955، وخلال جلسات التحقيق الأولى معه بالسجن الحربي، اندهش مدير السجن، البكباشي محمد نظيم "يا ساتر! أنت ابن جاك؟ إيه اللي جابك هنا؟". كما أنه سيحصل على توصية من اليوزباشي محيي الدين أبو العز، ضابط المخابرات وصاحب الشارع الشهير بحي الدقي الآن، ستسهّل حياته نسبيًا داخل الحبس، وتمكّنه من استقبال زيارات أسرته في مكتب المأمور.
أخرِجونا لنحارب مع ناصر
في يوم 26 يناير/كانون الثاني 1956 استمع ألبير مع السجناء لخطبة جمال عبد الناصر بميدان المنشية، التي أعلن فيها تأميم قناة السويس، فانفجروا في الهتاف والفرحة "كانت سعادة لا توصف". ومع تتابع الأحداث والعدوان الثلاثي قرروا تشكيل كتيبة عسكرية في السجن تضامنًا مع مصر في الحرب. يقول "كنا في السجن نبعث ببيانات وتحليلات لعبد الناصر في خطابات موجهة لرئاسة الجمهورية".
أنذر الشيوعيون إدارة السجن برغبتهم في الخروج للمشاركة في المعركة، ومنحوها مهلة للإفراج عنهم وإلا فسيخرجوا حتى لو تعرضوا للضرب بالنار، فأرسلت لهم الحكومة "شخصًا من القاهرة لا أذكر اسمه وطلبوا منا أن ننتظر، وأن طلبنا تتم دراسته من قبل الرئاسة". وبعد فترة جاء مندوب من الرئاسة وقال لهم "إنه تم وقف إطلاق النار، وإن عبد الناصر يشكركم على مشاعركم الوطنية".
بانوراما للسجن
في منتصف الخمسينيات، ظهر الراديو الترانزستور لأول مرة، ففكر ألبير آريه والشيوعيون في تهريب جهاز منه إلى سجن الواحات، ربما قبل أن يدخل مصر. يحكي أن الشيوعيين في باريس، بقيادة هنري كوريل، أرسلوا لهم الراديو مع وزير فرنسي يساري اسمه بير كوت، جاء إلى القاهرة والتقى جمال عبد الناصر، ثم قابل ناشطة شيوعية وسلمها الجهاز وبدورها سلمته لألبير، كما "بعثوا لنا أيضًا بكاميرا على هيئة قلم مع نفس الوزير، وأخذنا بها عدة صور في السجن".
ينقل آريه صورة دقيقة عن السجون في عهد عبد الناصر، أسماء الضباط والسجانة والشاويشية ورتبهم وتقسيمة العنابر والزنازين وطرق التعذيب. ويروي قصصًا هامشية عن فؤاد الشامي؛ فتوة شارع عماد الدين، الذي دخل السجن بتهمة قتل الراقصة امتثال فوزي، واثنين من موظفي الحكومة اختلسا أموالًا لإنتاج فيلم للممثلة كاميليا، وحبس لاعب الأهلي طارق سليم بتهمة قتل شخص بالخطأ أثناء استعراضه بالسيارة أمام صديقته. وكذلك لاعب الزمالك نبيل نصير.
.. وأغنية للإخوان
زامل ألبير آريه أعضاء وقيادات من جماعة "الإخوان المسلمين" في السجن، ويبدو الطرفان دائمًا على النقيض، ولا رابط يجمع بينهما إلا مواقف إنسانية نادرة وتفاهمات تقتضيها المعيشة.
في ذورة فرحة الشيوعيين بقرار عبد الناصر تأميم القناة "كان الإخوان يراقبوننا ويسخرون منا"، يسجل ألبير هذه الملاحظة، ثم يكشف وجهًا آخر للصراع الفكري والسياسي "قررنا حينما نستيقظ كل يوم أن نغني نشيد بلادي، وفي المساء كنا نغني أيضًا أغنية لسيد درويش. وحاول الإخوان أن يقلدونا ويغنوا أغانيهم التي تقول "وطني الإسلام دين العالمين"، وفي آخرها "لنرى القرآن هادينا في كل وادٍ".
والطريف، كما يحكي ألبير، أن الشيوعيين وهم في سجن الواحات قرروا ذات مرة بناء جامع للضباط والسجانة، وكان غريبًا أن الإخوان لم يفكروا في الأمر ولم يشتركوا معهم.
لكن اللافت هنا هو قصة تعرف ألبير على محمد مهدي عاكف، مرشد الجماعة لاحقًا، إذ كان الأخير يعمل مدرس تربية رياضية بمدرسة فؤاد الأول (الحسينية الثانوية الآن)، وكان يتردد على محل والد ألبير لتوريد ملابس رياضية. يقول عنه "كان ودودًا جدًا معنا، ودعاني إلى حفلة ترفيهية في المدرسة، ولم أكن أعرف من هو من الناحية السياسية". وبعد محاولة اغتيال "عبد الناصر" 1954، التقيا في سجن الواحات، وهناك كانا مسؤولين عن الخبيز، وهي عملية عجن الدقيق وتحضير الخبز للسجناء "نشأ بيننا تعاون ودي جدًا، وكأن يأتي في الليل ليوقظني لكي نعجن معًا".
بعد سنوات طويلة، عام 2004، سيرسل عاكف تحية إلى ألبير آريه مع مخرجة شابة كانت تنتج فيلمًا وثائقيًا استدعى التسجيل مع النقيضين اللذين جمعها سجن واحد: الشيوعيين والإخوان.
الجِنينة
فرض السجن على ألبير أنماط حياة جديدة، فتحول الشاب اليهودي خريج مدارس الليسيه وابن التاجر إلى مزارع، لتوفير احتياجاتهم من الخضروات "والدي كان يحضر لنا البذور، وكانت تلك أولى تجاربي في الزراعة... بدأنا بزراعة الفجل والجرجير، وبعدها قمنا بزراعة الطماطم".
عندما انتقل إلى سجن مصر (قرة ميدان) حيث قضى نحو 4 سنوات، زرع ألبير جِنينة ملأها بالزهور، ثم كرَّر التجربة بعد عودته إلى سجن الواحات 1961 "كنت أبعث باقة يوميًا للمأمور. وكانت مشكلتي قيام بعض المعتقلين بقطف الزهور، وكنت عنيفًا وأتشاجر معهم، وأقول إنها مزروعة للجميع. وزرعت أيضًا شجرة سيسبان بجوار سور السجن... كان حليم طوسون يجلس تحتها كل يوم ويحضر كنكة ويعد القهوة التركي".
اعتبر الشيوعي اليهودي المصري سنوات السجن الإحدى عشر "أجمل فترة في حياتي، تعرّفت فيها على حقيقة المجتمع المصري وتعاملت مع كل طبقاته"، وبينما كانت السلطة تزرع في طريقه أشواكًا كان يزرع هو زهورًا وجنائن.